منى طواهرية
في عالم يتسم بالتغير السريع، وفي ظل ثورة صناعية رابعة، دخلت البشرية عصراً جديداً من التكنولوجيا الحديثة، رافقتها رغبة في محاكاة الذكاء الإنساني من خلال تكنولوجيا وبرامج حاسوبية متميزة، جمعت بين تسريع الأتمتة، واختصار الوقت في الابتكارات الحديثة، والتقارب في الوجودين الفعلي والرقمي، والتوصيلة في كل مكان، فنتج عنها ما يعرف بالذكاء الاصطناعي.
هذا الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وما أتاحه من تقدم غير مسبوق للبشرية، تحول من اهتمام أكاديمي إلى اهتمام أمني، بعد أن طرحت تحديات وتهديدات سيبرانية خطيرة على أمن عديد من الدول، خاصة بالوطن العربي، التي ما تزال أمام رهان الاستثمار مستقبلاً في هذه التكنولوجيا لبناء حلول أمنية دفاعية قادرة على صد تداعيات الثورة الصناعية الرقمية الأكثر إلحاحاً في العالم. وعليه؛ نتساءل: كيف يمكن للدول العربية تحقيق أمنها السيبراني في ظل عصر الذكاء الاصطناعي؟ وما الاستراتيجيات الممكنة للاستفادة من فرص الذكاء الاصطناعي ومواجهة التحديات التي يطرحها؟
أولاً: الذكاء الاصطناعي في عصر الثورة الصناعية الرابعة
أسهمت التكنولوجيا المتطورة في إحداث ثورة جديدة خلال المنتدى الاقتصادي العالمي بسويسرا 2016، عرفت بالثورة الصناعية الرابعة؛ بالنظر إلى ما وفرته من تقنيات ذكية مثل إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والروبوتكس، والطابعات ثلاثية الأبعاد وغيرها، حيث تقدمت التكنولوجيات الرقمية بسرعة، ووصلت إلى حوالي 50% من سكان العالم النامي خلال عقدين من الزمان، وأحدثت تحولاً في المجتمعات بتعزيز الاتصال الإلكتروني والشمول المالي وإمكانيات الوصول إلى الخدمات التجارية والعامة، فمثلت بذلك عصراً رقمياً بامتياز كانت التكنولوجيا أهم مرتكزاته.
ويعد الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) من أهم مخرجات الثورة الصناعية الرابعة، وفي هذا صرّح سوندار بيتشي، المدير التنفيذي الأول لشركة غوغل: “لعل الذكاء الاصطناعي هو الأمر الأكثر أهمية الذي عملت عليه البشرية على الإطلاق. وأراه شيئاً أعمق من الكهرباء أو النار”[1]، وهو ما أكدته خطة التنمية المستدامة لعام 2030 في هدفها الـ9، إذ إن الصناعات التهجينية الجديدة التي تشمل الذكاء الاصطناعي وأجهزة استشعار إنترنت الأشياء والطباعة الرباعية الأبعاد تعيد تشكيل الصناعات وتولد ابتكاراً هائلاً[2]، باعتبار الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على معالجة المشاكل المعقدة بطرق مشابهة للعملياتالمنطقية والاستدلال عند البشر، فهو بذلك محاكاة عمليات الذكاء البشري بواسطة الآلات والبرمجيات، وخاصة أنظمة الحاسب”.[3]
وإدراكاً لهذه الأهمية أطلقت اليابان، عام 2017، استراتيجية شاملة تضمنت رقائق معالجة الشبكة العصبية الاصطناعية، والروبوتات الذكية، والمركبات الآلية، والتشخيص الطبي الصحيح، وفي عام 2020 طرحت ألمانيا استراتيجية التكنولوجيا العالية الجديد عام 2020 التي تركز على تحويل الأفكار المبتكرة في مجال التكنولوجيا إلى تطبيقات واقعية[4].
كما اتسعت سوق الذكاء الاصطناعي بالصين، حيث بلغت عام 2020 ما قدره 10.8 مليارات دولار، ووصل عدد الشركات الصينية المتخصصة في هذا القطاع إلى نحو 800 شركة[5]، ووفق المستثمر في مجالالتكنولوجيا تيج كولي (Tej Kohli) فيعتقد أن نمو الطلب على الذكاء الاصطناعي سيكون أسرع، فمن المحتملأن يبلغ اقتصاده قيمة 150 تريليون دولار بحلول عام 2025، في حين تتوقع شبكة غارتنر (Gartner) أن الذكاء الاصطناعي سيصبح رقماً أساسياً في الاقتصاد العالمي، إذ تتوقع ارتفاع إيرادات الذكاء الاصطناعي من 1.2 تريليون دولار في عام 2018 إلى ما قيمته15.7 تريليون دولار عام 2030[6].
ثانياً: الأمن السيبراني العربي.. الاتجاهات والتهديدات
يمثل الأمن السيبراني جزءاً أساسياً من السياسة الأمنية العربية، حيث أصبح الدفاع السيبراني أولوية في السياسات الدفاعية لهذه الدول في ظل ما تطرحه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من تحديات باجتياح شبكات المعلومات والاتصالات على نحو يشكل تهديداً للأمن السيبراني العربي.
1. محددات تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن السيبراني
على الرغم من الاستخدامات المهمة للذكاء الاصطناعي في المجالات التجارية والصناعية والمعلوماتية والأمنية وغيرها، فقد أصبح يعتمد لتعزيز قدرات الأسلحة والهجمات السيبرانية على البيئة المعلوماتية بما يشكل تهديداً للأمن السيبراني العربي، يظهر ذلك في المحددات التالية[7]:
- التطور المتسارع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مدفوعةً في ذلك بمعدلات غير مسبوقة من الاستثمار العام والخاص في مجال الذكاء الاصطناعي من قبل الشركات التكنولوجية الكبرى مثل أمازون وIBM وجوجل ومايكروسوفت. وهي استثمارات من المتوقع أن تحدث قفزات هائلة في الذكاء الاصطناعي، وإضافة المزيد من القدرات للخوارزميات التي تجمع بين الإبداع البشري والقدرات الحاسوبية.
- حماة المعلومات: التي تتحكم بشكل أو بآخر في كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي في البيئة المعلوماتية، حيث تتعامل تلك الشركات مع ملايين المستخدمين، وتستفيد من المكاسب التي يتيحها تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع في أنظمتها، مثل تقديم محتوى مخصص للغاية للمستهلكين بشكل فردي، أو الكشف عن الاحتيال.
- اختراق المجتمعات: إذ يمكن لدولة أجنبيّة أن تَستخدم نُظم الذكاء الاصطناعي للتعرُّف إلى الأفكار والتوجّهات السياسيّة والاجتماعيّة لأفراد الدولة المُناوِئة لها على مَواقِع التواصل الاجتماعي، ومحاولة الربط بين الجماعات المُنعزلة جغرافيّاً، والتي تتبنّى أفكاراً وتوجّهاتٍ مُشابهة، ودفعها إلى تبنّي مَواقف سياسيّة معارضة قد تهدِّد الأمن الوطني والقومي لهذه الدولة[8].
2. سيناريوهات تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن السيبراني بالوطن العربي
في ظل تطور وانتشار قدرات الذكاء الاصطناعي، فمن المتوقع أن يؤدي الاستخدام المتزايد لها إلى تغييرات واسعة النطاق في طبيعة ونوعية التهديدات على الأمن السيبراني العربي، تظهر في السيناريوهات التالية[9]:
-
توسيع التهديدات القائمة
يؤدي نشر أنظمة الذكاء الاصطناعي الفعالة إلى زيادة عدد العناصر القادرة على القيام بالهجمات، حيث يساعد التنظيمات الإرهابية -في ظل أنظمة دفاعية عربية لا تتمتع بالكفاءة اللازمة- على توسيع هجماتها لتشمل ضحايا أكثر، وتوسيع نطاق الابتزاز المالي للقبول بمبالغ فدية أقل، والتنكر بسهولة، وتفادي عوائق اللغة وغيرها.
- ابتكار تهديدات جديدة
تساعد عمليات تطوير أنظمة محاكاة أصوات الأفراد وتخليق صور الشخصيات المعروفة (وهي تقنية يجري تسويقها بالفعل) على انتحال هوية الأشخاص، وهي تقنية تُعتمد كأداة للحرب النفسية من خلال ما يعرف بـ”التزييف العميق”، إلى جانب التحكم في سلوك الروبوتات والبرامج الخبيثة التي يصعب على البشر التحكم فيها.
-
تغيير الطابع التقليدي للتهديدات
توسيع التهديدات الحالية وظهور تهديدات جديدة لا وجود لها بعد، فالهجمات التي يوفرها التقدم في الذكاء الاصطناعي ستكون فعالة، وموجهة بدقة، ومن الصعب تحديدها، حيث يمتلك المهاجمون الفرصة للقيام بهجمات جماعية، وبوتيرة أكبر، كما أن عدم الخوف من اكتشاف هوية المهاجم سيجعله أكثر عنفاً، ورغبة في القيام بالمزيد من الهجمات.
وقد تعرضت عدة دول عربية لحالات اختراق البيانات باستغلال آليات الذكاء الاصطناعي على شبكة الإنترنت، ففي عام 2015 أظهر تقرير أن المنطقة العربية شهدت أكثر من 5000 هجوم سيبراني مس مختلف القطاعات والبنية التحتية، نتج عنه خسائر بلغت أكثر من 500.000 دولار بالسعودية، وفي عام 2016 استهدف بنك قطر الوطني (QNB) هجوم أكثر ضرراً، حيث تمكن المتسللون من سرقة كمية مهمة من البيانات، من بينها حوالي 465،437 من حسابات (QNB) ونشرها على الإنترنت، وقد احتوت المعلومات المسربة على بيانات شخصية وبيانات اتصال[10].
كما أوضح تقرير (Over Security Advisory Council) الصادر عام 2016، أن الهجوم على شركة أرامكو السعودية كلفها تغيير 50.000 قرص صلب لأجهزتها الحاسوبية، ولم تستطع استخدام الإنترنت خمسة أشهر تقريباً، وفي عام 2017 استهدف (Mamba Ransomware) شبكات الشركات داخل المملكة السعودية[11].
وعليه نتساءل: إلى أي مدى يمكن للدول العربية صد هذا النوع من الهجمات وتحقيق أمنها السيبراني في عصر قوامه الذكاء الاصطناعي؟
ثالثاً: توجهات الأمن السيبراني العربي مستقبلاً
أصبح مجال الأمن السيبراني ضمن أولويات الدول العربية مع تصاعد حدة التهديدات السيبرانية التي تفرضها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حيث يسعى كثير من الدول العربية للاستثمار في الأنظمة والتشريعات والتقنيات لحماية أنظمتها وبناء آليات دفاعية مبتكرة وفعّالة من منطلق المنظور الوطني.
لذلك عقدت المنظمة العربية للتنمية الإدارية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، فعالية (الأمن السيبراني في المنطقة العربية)، هدفت إلى التعريف بالتجارب الإدارية الناجحة في مجال أمن المعلومات قصد تعميمها والاستفادة منها في الدول العربية[12]. وفي هذا الإطار يرى الخبراء أن تطوير نظم الأمن السيبراني العربي يتطلب ثلاث خطوات رئيسية تعرف بـ”ثالوث التكنولوجيا والسياسات والوعي”، لتعزيز دفاعاتهم ضد الهجمات التي تُشَن باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهي:
– تحديد ما يجب حمايته ووضع الحلول المناسبة لإدارة الحماية بشكل صحيح، بالتعرف على نقاط الضعف والتهديد، ومن ثم ضمان تشفير البيانات المهمة، ووضع تصور كامل لخطط دفاعية تحوي بدائل وخيارات لتغيير الاستراتيجية الدفاعية بسرعة وقت اللزوم.
– وضع تصورات مستقبلية تعتمد التخطيط على نطاق أوسع للإجراءات المطلوبة، مع تثقيف الموظفين وتدريبهم على أفضل الممارسات الأمنية الإلكترونية.
– التعلم الآلي: يعد أداة فعالة للغاية للتمكن من عزل الأحداث غير الطبيعية، ومن ثم استخدام القدرات التكنولوجية والأساليب التكتيكية في مواجهة المجرمين الإلكترونيين[13].
وعليه، فإن الاهتمام الأسرع والأكثر ديمومة بالتغيّر، ودمج التنبؤات في مجال الأعمال والحكومات بغية تقليص زمن الاستجابة، وترسيخ وعي تنبؤي بما هو آت، هي السبل التي تحتاج إليها الدول العربية لتتطور، فالوضع القائم لا يُختزل في انتظار ما سيحدث، بل إما التكيف أو الاندثار[14].
خاتمة
يعد الذكاء الاصطناعي من أهم مخرجات الثورة الصناعية الرابعة، ومن المتوقع أن يستمر في التطور وتوسيع مداه على نطاق عالمي، نظراً لما يوفره من خدمات وتكنولوجيا سريعة، إلا أنه سينطوي على تحديات ومخاطر تطبيقه على أمن الدول العربية السيبراني بوصفها الحلقة الأضعف تكنولوجياً، على نحو من الممكن أن تعجز عن مواكبة هذا التطور.
وعليه فإن الحديث عن مستقبل عربي آمن في ظل استخدام قدرات الذكاء الاصطناعي يفترض ضرورة مواكبة التطور الكبير في هذا المجال بقوانين سريعة ونافذة، لتقنين كل خطوة من خطوات تصنيع أدوات الذكاء الاصطناعي، مع العمل على تفعيل التعاون الرقمي بين الدول بإيجاد فضاء إلكتروني عالمي، والاستفادة من نقل التكنولوجيا الرقمية لمواكبة تطورات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ودمجها في بنية النظم الإلكترونية العربية.
[1] ستيفن إيباراكي، سبب تقدم “الذكاء الاصطناعي لتحقيق الصالح العام”، في: الذكاء الاصطناعي لأجل الصالح العام، جنيف، مجلة إتي- نيوز، العدد 01، 2018، ص 23.
[2] هيئة الأمم المتحدة، تقرير أهداف التنمية المستدامة 2018، نيويورك، 2018، ص7.
[3] Brad Smith and Harry Shum, The Future Computed Artificial Intelligence and its role in society, U.S.A: Microsoft Corporation,2018, p34.
[4] إيهاب خليفة، الذكاء الاصطناعي، إعادة النظر في خطط التصنيع الوطني، مجلة الأهرام للكمبيوتر والإنترنت والاتصالات، العدد 212، أغسطس/آب 2018، ص63.
[5] الجزيرة نت، الحرب على التكنولوجيا الصاعدة للذكاء الاصطناعي بلا مبرر، 02 مايو/أيار 2021، متاح على الرابط: shorturl.at/mrH25
[6] Andrew Cave, Can The AI Economy Really Be Worth $150 Trillion By 2025?, 24 jeune 2019, https://cutt.us/0AlBA
[7] John Villasenor, “Artificial intelligence, geopolitics, and information integrity“, in: Fabio Rugge, (ed.), The Global Race for Technological Superiority: Discover the Security Implications, Milano: ISPI and Brookings, November 2019, PP. 131-142.
[8] الذكاء الاصطناعي وتداعياته المستقبليّة على الإنسان، جريدة الشروق الجديد، العدد 3750، 10 مايو/أيار 2019، ص7.
[9] Hamid Jahankhani, and all, Cyber Defence in the Age of AI, Smart Societies and Augmented Humanity, Switzerland, Springer pulished, 2020, p60.
[10] عبد الرحمن عاطف أبو زيد، الأمن السيبراني في الوطن العربي.. دراسة حالة المملكة العربية السعودية،المركز العربي للبحوث والدراسات، 25 سبتمبر/أيلول 2019، متاح على الرابط: http://www.acrseg.org/41356
[11] منى عبد الله السمحان، متطلبات تحقيق الأمن السيبراني لأنظمة المعلومات الإدارية بجامعة الملك سعود، مجلة كلية التربية، جامعة المنصورة، العدد 111، 2020، ص6.
[12] عبد الرحمن عاطف أبو زيد، مرجع سابق.
[13]Thomas Culora, Yvonne R. Masakowski, Artificial Intelligence and Global Security: Artificial Intelligence and Global Security: Future Trends, Thr ends, Threats and Considerations, Naval War College Review: Vol. 74: No. 2, 2021, p2.
[14] Thomas Culora, Yvonne R. Masakowski, op-cit, p3.
.
رابط المصدر: