د. محمد عصام لعروسي
حصل موقع ديسكلوز (Disclose) للصحافة الاستقصائية على مئات الوثائق الرسمية الفرنسية السرية التي تكشف عن انتهاكات ارتكبت خلال عملية عسكرية سرية لفرنسا في مصر. ويكشف هذا التحقيق تورط فرنسا في الضربات الجوية ضد المدنيين، وذلك خلال الفترة ما بين 2016 و2018. تلقى موقع Disclose مئات من الوثائق السرية (التي قدمها مصدر تم حجب هويته) والتي تكشف عن الانتهاكات التي حدثت خلال هذه المهمة الاستخباراتية التي نفِّذت باسم مكافحة الإرهاب، والتي بدأت في فبراير 2016.وتوضح الوثائق كيف انحرف هذا التعاون العسكري السري عن مهمته الأصلية وهي استطلاع النشاط الإرهابي، وتحول إلى حملة من عمليات الإعدام التعسفي خارج نطاق القانون، و تنطوي تلك المهام على جرائم دولة تم إبلاغ مكتب الرئاسة الفرنسية عنها باستمرار، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء بشأنها.
بدأ مشروع التجهيز للمهمة الاستخباراتية في 25 يوليو 2015، بعد زيارة جان إيف لودريان وزير الدفاع الفرنسي آنذاك برئاسة فرانسوا هولاند، إلى القاهرة مع رئيس المخابرات العسكرية الفرنسية الجنرال كريستوف غومار، و لقاء وزير الدفاع المصري صدقي صبحي. وفقاً لوثيقة دبلوماسية فرنسية حصلت عليها Disclose، حققت فرنسا نجاحات كيرة تتمثل في توقيع عقود بيع مقاتلاتRafale و FREMM“ لمصر، في 24 أبريل 2015، كما زودت باريس القاهرة بطائرة مقاتلة من طراز رافال وبارجتين حربيتين متعددتي الأغراض (FREMMs) بقيمة إجمالية تبلغ 5.6 مليار يورو.
وكان الاجتماع في القاهرة لبحث تأمين الحدود المصرية الغربية التي يبلغ طولها 1200 كيلومتر مع ليبيا التي تعيش حالة من الفوضى، وأبرز الجانب المصري “الحاجة الملحة” للمعلومات من المخابرات الجوية، وتعهد لو دريان بإقامة “تعاون عملي وفوري” كجزء من “مناورة عالمية ضد الإرهاب” على شكل مهمة سرية بقيادة المخابرات العسكرية الفرنسية انطلاقا من قاعدة عسكرية مصرية.
في بداية عام 2016، تم إرسال فريق فرنسي سراً إلى منطقة الصحراء الغربية في مصر، التي تبلغ مساحتها 700،000 كيلومتر مربع، من نهر النيل إلى الحدود بين مصر وليبيا، و كان ذلك هو بداية عملية سيرلي التي شارك فيها عشرة أشخاص، من بينهم طيارين وأربعة محللين للأنظمة. وقد كان المحللون يعملون لدى شركة CAE Aviation، وهي شركة مقرها لوكسمبورغ متخصصة في التصوير واعتراض الاتصالات، كما قامت شركة CAE Aviation بتأجير الأداة الرئيسية للعملية لجهاز المخابرات العسكرية الفرنسية، وكانت عبارة عن طائرة خفيفة من طراز Merlin III مجهزة للمراقبة والاستطلاع، والتي أصبحت بمثابة آذان وأعين للفريق.
تمثلت مهمة الفرقة في مراقبة منطقة الصحراء الغربية لتحديد أي تهديد إرهابي محتمل قادم من ليبيا، وكان يرافق الفريق الفرنسي في كل رحلة ضابط مصري تم تكليفه بالاستماع إلى التنصت المباشر للمحادثات. ومن الناحية النظرية كان من المقرر التحقق من المعلومات التي تم الحصول عليها مقارنة بتفاصيل أخرى من أجل تقييم حقيقة أي تهديد وهوية المشتبه بهم.
لكن سرعان ما أدرك الفريق الفرنسي أنه تم استخدامهم لتسهيل قتل المدنيين المشتبه في ضلوعهم في أنشطة التهريب. وأبلغت الفرقة الجوية القيادات العليا خلال فترات منتظمة بشكوكهم حول العملية ولكن دون جدوى، كما يتضح من تقرير جهاز المخابرات العسكرية DRM بتاريخ 20 أبريل 2016، حيث أبلغ ضابط الاتصال للبعثة رؤسائه أن المصريين يريدون “اتخاذ إجراءات مباشرة ضد المهربين”، وبأن مكافحة الإرهاب لم تعد أولوية. وبعد أربعة أشهر أكد تقرير شكوك الفريق الفرنسي، لتمتد عملية سيرلي إلى ثلاث سنوات وتورطت الفرقة الجوية للاستخبار الفرنسية، حسب التقرير، في 19 عملية تفجير لأهداف مدنية. فماهي ردود الافعال الناجمة عن هذه التسريبات وخاصة داخل فرنسا؟ وهل شعار محاربة الارهاب والتعاون الدولي للقضاء عليه يجيز ضرب أهداف مدنية؟ وماهي حقيقة التهديدات الارهابية على مستوى الشريط الحدودي بين مصر وليبيا؟ وماهي أبعاد النزعة التدخلية الفرنسية في مصر و دول شمال إفريقيا بشكل عام؟
ردود أفعال متباينة حول التقرير
تناولت وسائل الإعلام الفرنسية هذا التحقيق بنوع من البرود وعدم الاهتمام، وباستثناء منابر إعلامية محدودة، لم تُثر أخبار عملية “سيرلي” شهية هيئات التحرير الفرنسية في المواقع والجرائد والقنوات التلفزيونية، ويرجع هذا الأمر ربما إلى تمويل العديد من المنابر الاعلامية الفرنسية من قبل المؤسسة العسكرية وشركات صناعة الطائرات والأسلحة كشركة داسو لصناعة الطائرات. وعلى الرغم من ذلك، أكَّدت وزيرة الدفاع “فلورانس بارلي”، فتح تحقيق داخلي بهدف البحث عن مدى صحة “استعمال المصريين للمعلومات الاستخباراتية” لاستهداف مدنيين بدلا من الجهاديين كما نص على ذلك اتفاق 2016 السري.
وقد أشارت الوزيرة الفرنسية إلى أن مصر شريك استراتيجي في تبادل المعلومات الاستخباراتية بهدف محاربة الإرهاب من أجل حماية المنطقة وحماية الفرنسيين، ورفضت إعطاء تفاصيل أكثر حول هذا التعاون العسكري على اعتبار أنه شديد السرية، لكنها أكَّدت أن وزارتها ستأخذ على محمل الجد المعلومات التي نُشرت حول هذه العملية في وسائل الإعلام.
وبحسب الجنرال كريستوف غومار، المدير السابق للاستخبارات العسكرية، فان فرنسا وقعت اتفاقية للتعاون مع مصر تستهدف تعقب الإرهابيين في المنطقة الحدودية مع ليبيا، حيث تكلفت مديرية المخابرات العسكرية بمهمة سرية، تحمل الاسم الرمزي “سيرلي” لسد النقص لدى المصريين في مجال التقاط صور الأقمار الصناعية وإنجاز المهام الاستخبارية بالسرعة القصوى، لكن، حسب غومار، سرعان ما أدرك عناصر الفرقة الجوية المكلفة بمهمة سيرلي أن شركائهم المصريين مهتمون فقط بالمهربين وعمليات التهريب التي تمتد في وسط الصحراء.
وقد أكد غومار، أنه لم يتم تقديم أي معلومات على الإطلاق تجعل من الممكن إعدام الأشخاص، لكن يضيف أن المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها الوحدة الجوية كانت لها عواقب محتملة على الإرهابيين، أو على تجار الأسلحة أو البشر، و لم يستبعد أن تكون الضربات الجوية قد استهدفت المقاتلين الارهابيين وكذا المجرمين المتورطين في تجارة الأسلحة والتهريب.
وحسب Eric Denice، مؤسس ومدير مركز الابحاث حول الاستخبارات، فان التسريبات من الوثائق السرية المسربة من وزارة القوات المسلحة الفرنسية، ولا سيما مديرية المخابرات العسكرية ووزارة الخارجية، تعبر عن وجود اتجاه جديد داخل القوات المسلحة الفرنسية، يقف وراء تسريب المعلومات لوسائل الإعلام، لقناعته الخاصة أن عملية سيرلي تتعارض مع قيم الجمهورية الفرنسية.
من ناحية أخرى، وحسب ما ذهب إليه إريك دينيسي، فان موقع Disclose ليس بالموقع الإعلامي المحايد، فهو معروف بمواقفه المناهضة للأنظمة العسكرية ودعمه لـ “الثورات العربية”. كما أن الأدلة المقدمة من قبل الموقع، على الرغم من أنها قابلة للنقاش، يتم تفسيرها بشكل منهجي من قبل وسائل الإعلام، حيث يظهر من خلال تحليل المستندات التي نشرها موقع Disclose أن “المصدر” لم يتلق سوى جزء من المعلومات المتعلقة بعملية سيرلي، وهذه المعرفة الجزئية لا تسمح له بأخذ نظرة عامة على جل العمليات خلال الفترة التي استغرقتها العملية.
ويضيف Denice أنه لا يمكن إنكار أن مذكرات إدارة الاستعلامات العسكرية حذرت من الانتهاكات المحتملة من استخدام المعلومات الاستخبارية من قبل المصريين، لكن مصدر المعلومات لا يعرف بالضبط ما هي المعلومات الأخرى التي يمتلكها المصريون بفضل مصالحهم الاستخباراتية الخاصة، فمن الواضح أن طائرة الاستطلاع الفرنسية ليست هي مصدر المعلومات الوحيد في هذه المنطقة التي تراقبها القاهرة منذ سنوات، كما يصعب معرفة عدد العمليات التي ينفذها الجيش المصري ونسبة العمليات التي كان من الممكن أن تساهم فيها المخابرات الفرنسية، ولا يوجد دليل ملموس على أي صلة مباشرة بين طائرات المراقبة والاستخبارات الفرنسية الخفيفة (ALSR) والضربات المصرية، إذ يحتاج هذا الأمر إلى إثبات، كما أن تقرير الموقع يستند إلى شهادة مصدر واحد، حيث يصعب معرفة عدد الضربات، وعدد الضحايا من المدنيين، في غياب مصدر المعلومات بسبب عدم تواجده في عين المكان.
حقيقة التهديدات الإرهابية على الحدود المصرية-الليبية
حسب بعض الجهات المشككة في التقرير، تواجه مصر تهديدات إرهابية وتهريب أسلحة على حدودها (ليبيا، سيناء، غزة) من قبل جماعات متطرفة مختلفة. في حين أن معظم العمليات القتالية تدور في سيناء – التي يناسب تكوينها الجغرافي المتمردين – فإن هذا لا يعني أن المنطقة الحدودية مع ليبيا هي منطقة آمنة. يذكر أن ليبيا كانت المصدر الرئيس لتهريب الأسلحة في شمال إفريقيا والساحل منذ سقوط القذافي ونهب مخزونات أسلحته، كما أن شرق ليبيا كان موطناً وملجأً للجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية (GICL)، قبل أن يصبح حاضنة طبيعية لتنظيم الدولة الإسلامية وأن الجبل الأخضر ومنطقة درنة والبيضا هي معاقل للإسلاميين.
ورغم سيطرة المشير حفتر نسبيا وليس كليا على المنطقة في السنوات الأخيرة، فهذا لا يعني أن عمليات تسلل الإرهابيين إلى مصر قد توقفت، وذلك بالنظر إلى طول الحدود المصرية الليبية التي تتجاوز 1100 كيلومتر، حيث من الصعب السيطرة عليها، كما شكلت هذه الاميال الطويلة من المناطق الصحراوية، منذ العصور القديمة، الطريق الرئيس للمهربين من الساحل إلى مصر.
ولكن وفقاً لجليل حرشاوي، الباحث في المنظمة غير الحكومية السويسرية “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية” Global Initiative Against Transnational Organized Crime، فإن الجيش المصري يبالغ في تقديره إلى حد كبير للتهديد الإرهابي القادم من ليبيا “وذلك من أجل الحصول على دعم دولي”. ومنذ عام 2017 لم يسمع أحد عن أي جماعة إرهابية أو تنظيمات إسلامية متمركزة في شرق ليبيا. ووفقاً لتقرير صدر في مايو 2020 عن المعهد الأوروبي للسلام European Institute of Peace، وهو مؤسسة مستقلة لحل النزاعات، لم يكن هناك أي دليل تقريباً يشير إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية، أو الجماعات المسلحة الأخرى، استخدمت تهريب المخدرات لتمويل أنشطتها في ليبيا.
فرنسا ودعم الأنظمة العسكرية
مهما يكن من مصداقية أو عدم مصداقية ما ورد في تحقيقات موقع ديسكلوز عن وجود تعاون استخباراتي وعسكري سري بين فرنسا ومصر، وثبوت أو عدم ثبوت صحة ما ورد في التقارير حول مشاركة الوحدة الفرنسية في قتل المدنيين، فإن ما هو ثابت في السياسة الفرنسية هو محاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة شمال إفريقيا، إن كان من الناحية الاستراتيجية والأمنية والعسكرية، حيث يبدو أن الرئاسة الفرنسية مع كل من ساركوزي و الرئيس الحالي ماكرون تسعى إلى الحصول على المزيد من صفقات السلاح مع النظام المصري.
بعد وصوله إلى رئاسة فرنسا، أكَّد ماكرون في خطاب له يوم 7 مايو/أيار 2017 أن أوروبا والعالم ينتظرون من بلاده الدفاع عن “الأنوار المهددة” في عدد من الأماكن، والدفاع عن الحريات ونصرة المظلومين. وبعد هذا الخطاب بثلاثة أسابيع، أجرى ماكرون اتصالا هاتفيا مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي بُعيد حادثة استهداف مواطنين مصريين مسيحيين من طرف داعش.(4) لم يتطرَّق الرجلان لهذه الحادثة فقط، بل ركَّزا أيضا على العمليات الدائرة على الحدود مع ليبيا، حيث أكَّد الرئيس الفرنسي لنظيره المصري أن لديه جميع المعلومات حول هذه العمليات وتطوراتها.
في غضون ساعات بعد هذا الاتصال، حصل “بيير دو فيليي”، قائد أركان الجيش الفرنسي، على رسالة من الجنرال “كريستوف غومار”، مدير الاستخبارات العسكرية الفرنسية السابق، أكَّد فيها أن السيارات التي استُهدفت في سبتمبر/أيلول لم تكن تابعة لأي تنظيم إرهابي، مُضيفا في الرسالة نفسها: “الحرب على الإرهاب ليست على رأس أولويات المصريين، بل تأتي في المركز الثالث”.
في إطار الدبلوماسية العلنية والتسويق الاعلامي، تحاول فرنسا اقناع العالم بكونها حامية للحقوق والحريات والمدافعة عن الشرعية الديمقراطية في العديد من دول الجنوب، في المقابل تعمل باريس على توظيف الدبلوماسية الهجومية والاتفاقيات السرية للدفاع على مصالحها الحيوية وخاصة في المنطقة الأفريقية التي أصبحت منطقة تجاذب القوى الكبرى كالولايات المتحدة الامريكية، بريطانيا، ألمانيا، روسيا، الصين، إيران وتركيا.
بعد مرحلة الربيع العربي، واصلت فرنسا تدخلاتها في المنطقة الأفريقية وخاصة في مالي، والوقوف وراء العديد من الانقلابات العسكرية في العديد من البلدان الافريقية كغينيا والنيجر ومالي. لم يمنع حصول دول إفريقية على استقلالها، الذي يصفه البعض بأنه “استقلال صوري”، فرنسا من التدخل عسكرياً مجدداً في المنطقة في بعض الدول الإفريقية من أجل إسقاط أنظمة معادية وتنصيب أخرى موالية لها، حيث اعتقلت القوات الفرنسية عام 2011 الرئيسَ العاجي المنتهية ولايته لوران غبابغو بعد قصف مقرّه وتسليمه لقوات خصمه حسن واتارا، الأمر الذي يرى فيه بعض الخبراء أن السياسة الفرنسية تغيرت ظاهرياً لكنها حافظت في عمقها على الصبغة الاستعمارية القديمة، ونزعتها التدخلية التي تكون غالباً من طرف واحد تحت ذرائع منها “محاربة الإرهاب”.
إن الازدواجية المعيارية التي تلجأ إليها فرنسا لا تستبعد تورط باريس في دعم الأنظمة العسكرية في مصر وليبيا بدعم المشير حفتر خلافا للموقف الأوروبي المتقارب مع حكومة الوفاق الوطني بطرابلس، حيث انتهزت فرنسا، في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، الفرصة التي أتاحتها الثورات الأولى في بنغازي لاستعادة موقعها الذي فقدته منذ فترة طويلة في ليبيا من خلال الوقوف على الفور إلى جانب المتمردين، و سرعان ما أصبحت باريس القوة الأكثر تشدداً في الجهود الدولية لتعزيز المفاوضات بين نظام القذافي وقيادة الثوار. منذ بداية الصراع، كانت فرنسا تؤيد بشكل واضح تدخل الناتو في ليبيا مما يؤدي إلى تغيير النظام، فكانت النتيجة المنطقية لهذه السياسة هو انهيار شامل للدولة الليبية و ما تلاها من استمرار الصراع والأزمات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
هذا الانهيار في البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ليبيا كشف بالملموس عن النفاق الفرنسي، فبينما دعمت السياسة الرسمية لباريس المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة بشأن ليبيا وحكومة الوفاق الوطني التي تمخضت عنها، كانت السياسة الحقيقية لفرنسا على الأرض تتمثل في الدعم الكامل لقوات حفتر. وفي غموض مماثل، أيدت فرنسا ضمنياً جميع الحملات العسكرية لقوات حفتر، بما في ذلك الهجوم على طرابلس وقصف سكانها المدنيين والبنية التحتية، بما في ذلك استهداف المستشفيات والمرافق الصحية.
تحاول باريس أولا الحصول على صفقات ضخمة لبيع أسلحتها العسكرية لدول شمال إفريقيا وخاصة بعد إلغاء أستراليا صفقة شراء غواصات فرنسية واستبدالها بأخرى أمريكية عاملة بالدفع النووي، كما تستهدف تأكيد وجودها كفاعل استعماري قديم بوجه جديد يخفي حقيقة النزعة الاستعمارية لباريس من جهة، ويؤكد حقيقة التخوف الفرنسي من فقدان فرنسا لمكانتها الجيوسياسية في المنطقة الأفريقية من جهة ثانية.
كما لم تغير فرنسا من شكل العلاقة التي تربطها بالعديد من الأنظمة السلطوية في القارة الأفريقية حفاظا على مصالحها الاقتصادية والعسكرية والثقافية، حيث أن معظم معاملات الشركات الفرنسية تأتي من هذه الدول، إذ يمكن القول إن الوجود الفرنسي في هذه المنطقة له سببان، سبب تاريخي وسبب اقتصادي، وفرنسا حريصة على أن تكون موجودة لتبسط هيمنتها وسيطرتها السياسية والعسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأحسن دليل على ذلك العملية التي نفذتها القوات الفرنسية في مالي وتسمى عملية “البرخان” والمستمرة حتى الساعة وأثبتت أن فرنسا مستعدة أن تتحرك عسكرياً بكلّ ما أوتيت من قوة للمحافظة على مصالحها في هذه الدول، إما عن طريق التدخل المباشر أو عن طريق الشركات العسكرية والأمنية بدعوى محاربة الإرهاب كما حصل خلال عملية سيرلي السرية لفائدة النظام المصري.
خلاصة
إن تسريبات وتحقيقات Disclose توضح معالم السياسة الفرنسية القائمة على قلب الحقائق و تبني روايات وهمية، وازدواجية مكشوفة اعتمدها المسؤولون الفرنسيون ولا يمكن أن تتغير على المدى القريب وخاصة في التعاطي مع أزمات منطقة شمال إفريقيا وخاصة الأزمة الليبية وتبني موقف غير محايد منها. يبدو واضحاً أن فرنسا خسرت هذه المرة معركة أساسية من أجل النفوذ في شمال إفريقيا وبخاصة بعد الخلافات المتواصلة مع كل من المغرب والجزائر، وبالتالي فهي تصر على هزيمة حصان ميت وكسب رهانات جيوسياسية لم تعد في متناول الجمهورية الفرنسية، بحضور لاعبين دوليين آخرين لهم تأثير كبير على مجريات الأحداث في المنطقة.
إن التدخل الفرنسي في شمال إفريقيا والتعاون العسكري والاستخباراتي مع دول المنطقة على غرار عملية سيرلي، يكشف عن السياسات الفرنسية المعبرة عن الاستمرارية للعقيدة التدخلية وعن الإرادة المنفردة لفرنسا للتغريد خارج السرب الأوروبي في تبني مواقف وسياسات خارجية متناقضة مع موقف الاتحاد الأوروبي. يجب على الحكومة الفرنسية مساعدة الاتحاد على أن يصبح جهة فاعلة محايدة وبناءة يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في التوسط في الأزمات التي تعرفها المنطقة ابتداء من حل الأزمة الليبية ووصولا إلى ضمان الاستقرار والأمن في المنطقة بشكل عام.
.
رابط المصدر: