كما لو أن موعد الاستحقاقات قد فات أوانه. تشعر الأحزاب المتحاصصة في حكم العراق ونهب ثرواته أن وقت الحكومة التي يتزعمها مصطفى الكاظمي صار ضيقاً وأن عليها أن تختار بين طريقين: إما أن تلبي كل طلباتها من غير تأخير أو أن ترحل من غير إبطاء.
وفي انتظار إجراء الانتخابات المبكرة التي وعد بها الكاظمي، فإن حكومته ستكون بحكم الميتة، بمعنى أنها لن تكون قادرة على الخروج من عملها الروتيني الذي يمكن تلخيصه بإدارة شؤون الدولة من غير التعرض لتفاصيل صفقات الفساد التي تشكل العمود الفقري لبقاء الدولة بالشكل الذي قامت عليه بعد الاحتلال الأميركي عام 2003.
ولكن ذلك لا يعني أن الحكومة ستكون مطلقة السراح تنفذ خططها من غير قيود. ذلك يبدو مستحيلاً في ظل إفلاس الدولة وعجزها عن تسديد رواتب موظفيها ومتقاعديها أو منع الميليشيات من القيام ياستعراضات القوة في أي وقت تشاء. تلك لعبة ستضع الحكومة في الخلف. اما مَن يقف في الإمام فهم زعماء الميليشيات الذين لا علاقة لعملهم بشؤون المواطنين اليومية، فهم يديرون ملفات ساخنة هي جزء من وضع دولي قُدر للعراق أن يكون ساحته من غير أن يكون جزءاً منه.
لقد اتخذت الميليشيات، سواء أكانت جزءاً من “الحشد الشعبي” أم لم تكن كذلك، من شعار “المقاومة الإسلامية” واجهة لها. وهي واجهة تعرف الجهات التي تستهدفها أن تهشيمها أمر ممكن، غير أن ذلك قد يؤدي إلى اختلال الدور الذي تلعبه الدولة العراقية المهمشة في التنفيس عن الاحتقان الإيراني، ولذلك فإن تلك الجهات لا تنظر بشيء من الاستياء الى تمدد الميليشيات وتوسع دائرة نشاطها داخل الدولة ومن حولها ودائماً من خلالها.
فالدولة واجهة للأحزاب والميليشيات والحكومة في وقت واحد.
تلك معادلة يسعى مقتدى الصدر إلى الغائها واحلال معادلة جديدة محلها. ولأن الصدر هو زعيم ميليشيا وقائد تيار سياسي، كما أنه مساهم رئيس في السلطتين التشريعية والتنفذية، فإنه يجد أن من حقه أن يستفيد من حالة الخواء السياسي التي ستستمر إلى أن يحين موعد الانتخابات.
ذلك الخواء يمكن ملاحظته من خلال الغياب الاستثنائي لكل الكتل والقوى السياسية عن المشهد بعد الخلخلة التي أحدثتها الاحتجاجات وطريقة تعامل الميليشيات معها.
ذلك ما دفع الصدر إلى الظهور ثانية بعد غياب طويل ودعوة أنصاره إلى الخروج في تظاهرات مزودة بالسلاح، ليس من هدف واضح لها سوى الإعلان عن بدء المبارزة التي يبدو الصدر كعادته واثقاً بالفوز بها. ولكن لماذا استعراض القوة إذا كان الصدر يعتقد أن نتائج الانتخابات محسومة لمصلحة تياره وأن منصب رئيس الحكومة سيكون من حصته كما قال في دعوته الى التظاهر؟.
لقد اعتاد الصدر أن يمارس عمليات ابتزاز على أكثر من مستوى. أخفق في بعضها ونجح في البعض الآخر. وفي الحالين، فإن خسائره كانت أقل بكثير من أرباحه. ولكنه اليوم يمارس ابتزازاً مزدوجاً لم يمارسه من قبل. فهو يبتز التركيبة السياسية القائمة بكل أحزابها وميليشياتها وسلطتها ويبتز في الوقت نفسه فئات الشعب المحتجة بكل شرائحها وبالأخص الشباب حين يخفض سقف توقعات التغيير ويشيع جواً من الشعور بالإحباط والخيبة المسبقة.
“ستكون الدولة لي”. ذلك لسان حاله وهو يسعى إلى الإعلان عن عقد جديد يضعه في متناول الطرفين اللذين يعرف أنهما سيتحاشيان الذهاب إلى البديل الآخر الذي يمكن تلخيصه بالفوضى أو حرب الشوارع الرثة.
ولأن رصيده الشعبي بين الطبقات الفقيرة لا يمكن الاستهانة به في ظل فشل الدولة وتمزق أوصالها، فإن لعبته هذه المرة ستتخطى محاولة الحصول على مكتسبات جديدة على حساب غنائم الأحزاب والميليشيات وحصص مافيات الفساد المتوغلة في تفاصيل العمل الحكومي. إنه يسعى إلى بدء تنفيذ مشروعه. الدولة الوطنية المحكومة بإطار ديني. وهي دولة يعتقد أنها ستكون على غرار جمهورية إيران الإسلامية.
كالعادة، فإن ما يطرحه الصدر هو مجرد شعار. فمشروعه يفتقر إلى المقومات التي يمكن أن تجعله قابلاً للتنفيذ، اضافة إلى أن هناك قدراً هائلاً من الجهل السياسي هو العمود الفقري لذلك المشروع.
وهو ما يُشعر الأحزاب الكبرى الموالية لإيران بالاطمئنان إلى أن الدور الذي يلعبه الصدر في هذه المرحلة سيصب في مصلحتها. فالدولة التي يحلم بأن تكون من ممتلكاته ليست موجودة أصلاً وهو لن يجدها إن حاول الوصول إليها. غير أنه في الطريق إلى ذلك الهدف العبثي سيتمكن من إخماد الاحتجاجات وتشتيتها بعنف سيتحمل وحده مسؤولية نتائجه.
ولكن الصدر وهو ابن اللعبة السياسية لا يُخفى عليه شيء من تلك الحقيقة. غير أنه يجد أن من مصلحته أن يحوّل أوهامه وقائع على الأرض. ذلك ما جربه في مناسبات سابقة وكانت مكتسباته كبيرة.
واقعياً، الصدر يهمه أن يتم الاعتراف به من خصومه باعتباره رقماً صعباً في العملية السياسية. ذلك ما سيجعله مطمئناً إلى أنه سيفرض شروطه على الأحزاب والميليشيات والحكومة في الوقت نفسه. سيكون في غنى حينها عن الاستيلاء على الدولة الوهمية.
يكفيه أنه سيهيمن على نظام المحاصصة. وذلك حلم مجنون.
رابط المصدر: