الدولة في مواجهة المجتمع: مصر وإدارة انتخابات 2020

طارق دياب

 

مقدمة

تمثل طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع وحجم التأثير المتبادل بينهما في حقل العلوم الاجتماعية، قضية جدلية، اختلف في معالجتها المفكرون. في هذا السياق، برز اتجاهان رئيسيان: الأول‏ انطلق من أولوية الدولة ومركزية دورها في أي مجتمع معاصر‏، واستقلالها النسبي عن المجتمع، وحسب أنصار هذا الاتجاه فإن الدولة ترعي المجتمع‏، وتحمي مصالحه‏، وهي القادرة على تغييره وتحديثه وتطويره، أما الاتجاه الثاني فيركز علي أولوية المجتمع‏، وأن الدولة ليست محايدة أو مستقلة عن محيطها الاجتماعي‏، وإنما تمثل امتداداً للمصالح والثقافات والأفكار السائدة في المجتمع‏[1].

ثم جاء “جول مجدال” باقتراب “الدولة في المجتمع” ليتجاوز به وينتقد تلك المقاربات التقليدية، طارحاً منهجاً تحليلياً جديداً يوضح أنماط التفاعل والعلاقة بين الدولة والمجتمع، آخذاً في الاعتبار الدولة والمجتمع معا كأدوات تحليلية رئيسية، بدلا من الاقتصار على أحدهما دون الآخر. والدولة في اقترابه مرادف للسلطة، وهو المفهوم الإجرائي الذي ستتبناه هذه الدراسة.

حيث ستعتمد على اقتراب “مجدال” في دراسة إدارة الدولة المصرية لانتخابات مجلس النواب 2020، والتي بدأت في الفترة من 24 أكتوبر 2020 وحتى 8 ديسمبر 2020.

منهج الدراسة

تعتمد الدراسة على اقتراب “الدولة في المجتمع” لــ “جويل ميجدال”، وتتمثل أهم مقولاته الرئيسية في:

  • الاعتماد على الدولة والمجتمع كوحدات تحليل مركزية، وهي تمثل المتغيرات الرئيسية، أحدهما مستقل والآخر تابع، في ظل علاقة ديناميكية وتأثير متبادل بين الطرفين.
  • تتعاطي الدولة مع المجتمع في إطار عملية الضبط والسيطرة من خلال عدة طبقات “أدوات”، يمكن إجمالها تدريجياً في: الخنادق وهم المسئولون البيروقراطيون عن تنفيذ قرارات وأوامر الدولة بشكل مباشر كرجل الشرطة ومحصل الضرائب، المكاتب المحلية التي تقوم بتنفيذ سياسات الدولة على المستوى المحلي كالمحاكم ووحدات الجيش والشرطة، المكاتب المركزية للوكالة المسئولة عن صياغة السياسات القومية في العاصمة، وأخيراً المناصب القيادية وتشمل الشريحة الأعلى في قيادة الدولة، وتتضمن هذه الهيراركية في داخلها أشكالاً للضغط تأخذ نمطاً اتجاهياً من الطبقات العليا إلى الطبقات الأدنى[2].
  • صاغ نموذجاً رباعياً يعكس أنماط التفاعل بين الدولة من جانب والقوى الاجتماعية من جانب آخر، وقد اعتمد في صياغته على معياري القوة والضعف، ويتخذ هذا النموذج الأشكال التالية: نمط الدولة القوية والمجتمع القوي، نمط الدولة الضعيفة والمجتمع الضعيف، نمط الدولة القوية والمجتمع الضعيف، وأخيراً نمط الدولة الضعيفة والمجتمع القوي. واعتمد مجدال في قياسه لمدى قوة أو ضعف الدولة على أساس قدرتها على ممارسة عملية الضبط الاجتماعي، ومن ثم فإن الدولة القوية هي القادرة على التحكم في المجتمع عبر سيطرتها على القوى الاجتماعية، وأضاف بعد ذلك قدرتها على إدارة التنويعات والانقسامات الاجتماعية.
  الدولة المجتمع
القوة دولة قوية + مجتمع قوي دولة قوية + مجتمع ضعيف
الضعف دولة ضعيفة + مجتمع قوي دولة ضعيفة + مجتمع ضعيف
  • قياس مدى قدرة الدولة على التحكم والضبط الاجتماعي عبر ثلاثة مؤشرات: الأول الامتثال والطاعة وتعني قدرة الدولة على استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في توزيع الموارد وضمان استجابة المواطنين لها، الثاني المشاركة وتعني التفاعل الطوعي من قبل المواطنين والجماعات المختلفة مع الحكومة للحصول على امتيازات، وهي تعكس قدرة الدولة على الحشد من خلال الاقناع، الثالث الشرعية أي الشعور بالرضا من جانب القوى المجتمعية عن الحكومة والقواعد الحاكمة[3].

فرضية الدراسة

أن الدولة وصلت في قدرتها على الضبط والسيطرة على المجتمع درجة مكّنتها من ضبط مدخلات العملية الانتخابية والتحكم في مخرجاتها، ومن ثم في تشكيل مجلس نواب، يتفق وتوجهاتها، ومكّنها من السيطرة والتغول أكثر على المجتمع؛ وبالتالي تفترض الورقة أن الحالة المصرية تعبر عن دولة قوية في مواجهة مجتمع ضعيف.

أي أن المتغير المستقل هو أدوات الضبط والسيطرة القانونية والسياسية والأمنية التي بيد الدولة وتعبر السلطة التنفيذية بقيادة السيسي عن الدولة في هذه الدراسة، والمتغير التابع البرلمان والذي يعبر عن المجتمع وقواه الاجتماعية ممثلةً في الدراسة في الأحزاب السياسية والمستقلين.

إشكالية الدراسة:

تتمثل في السؤال الرئيسي، ما هي مدى قدرة الدولة على الضبط والسيطرة على مدخلات العملية الانتخابية ومخرجاتها، بشكل يخدم توجهاتها ويعظم من قوتها في مواجهة المجتمع؟ ومن هذا السؤال الرئيسي يتفرع سؤالان:

ما هي أدوات الدولة في الضبط والسيطرة على مدخلات العملية الانتخابية؟

ما هي مؤشرات قدرة الدولة على تحقيق الضبط والسيطرة من خلال مخرجات العملية الانتخابية؟

المطلب الأول، أدوات الدولة في الضبط والسيطرة (مدخلات العملية الانتخابية)

نظراً لأن عملية الضبط والسيطرة التي تقوم بها الدولة في العملية الانتخابية تكون مركّزة أكثر على الأحزاب السياسية، فإن ذلك يتطلب عرض خريطة المرشحين الحزبيين. وبشكل عام، في ظل وجود نحو 104 حزب سياسي مُشهَر وفق قانون الأحزاب رقم 40 لسنة 1977، قدم 36 حزباً سياسياً مرشحين للانتخابات، بنسبة 34,6% من عدد الأحزاب المُشهَرة في مصر، وكان ضمن الأحزاب الـ 36 التي قدمت مترشحين، 14 حزباً تقدمت للقوائم المطلقة، وهذه الأحزاب جميعاً تقدَّمت للفردي أيضاً، وهناك من تقدم للفردي فقط دون القوائم وعددهم 22 حزباً[4].

وفيما يتعلق بالترشح على مقاعد الفردي: احتل حزب مستقبل وطن المرتبة الأولى في عدد المرشحين بواقع 280 مرشحًا، يليه حزب حماة الوطن بـ 121 مرشحًا، ثم حزب الوفد بـ 67 مرشحًا، فحزب الشعب الجمهوري بـ 58 مرشحًا، وحزب الحرية بـ 49 مرشحًا، وحزب المؤتمر بـ 46 مرشحًا، وحزب الحركة الوطنية 20 مرشحًا، والمصريين الأحرار 14 مرشحًا، والنور 15 مرشحًا، والجيل الديمقراطي 12 مرشحًا، والتجمع الوطني التقدمي 11 مرشحًا، وكل من أبناء مصر والتحرير المصري 10 مرشحين لكل منهما، ومصر المستقبل والإصلاح والنهضة 8 مرشحين لكل منهما، والإصلاح والتنمية 7 مرشحين، والعربي للعدل والمساواة 6 مرشحين، كما قدمت أحزاب العدل والغد ومصر الحديثة ونداء مصر 5 مرشحين لكل منهم، بينما قدم حزب النصر 4 مرشحين، أما أحزاب الاتحاد والريادة وصوت الشعب فقدمت ثلاثة مرشحين لكل منها، وقدم حزبا التحالف الشعبي الاشتراكي والصرح المصري الحر مرشحين لكل منهما، فيما تشارك أحزاب إرادة جيل، الأحرار الاشتراكيين، الأحرار الدستوريين، حقوق الإنسان والمواطنة، ومصر بلدي بمرشح واحد لكل منهم[5].

أما فيما يتعلق بالترشح على مقاعد القائمة: فتتنافس قائمتان بقطاع شمال ووسط وجنوب الصعيد على 100 مقعد وهما القائمة الوطنية من أجل مصر وقائمة نداء مصر، وفى دائرة قطاع غرب الدلتا تتنافس قائمتين أحدهما القائمة الوطنية من أجل مصر والثانية قائمة نداء مصر على 42 مقعد، وبدائرة قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا على 100 مقعد تواجه القائمة الوطنية من أجل مصر قائمة تحالف المستقلين، أما فى دائرة قطاع شرق الدلتا فتقتصر المنافسة بين القائمة الوطنية من أجل مصر وقائمة أبناء مصر على 42 مقعدا[6]. وبالتالي فإن القائمة الوطنية من أجل مصر هي الوحيدة التي تنافس في جميع دوائر الجمهورية الأربعة، وهي قائمة تضم 12 حزباً سياسياً بجانب ائتلاف “تنسيقية شباب الأحزاب”، وبقيادة حزب مستقبل وطن، بالإضافة لأحزاب: الوفد وحماة الوطن ومصر الحديثة والمصري الديمقراطي والشعب الجمهوري والإصلاح والتنمية والتجمع وإرادة جيل وحزب الحرية المصرى والعدل والمؤتمر[7].

ولتنفيذ عملية الضبط والسيطرة في مواجهة الأحزاب السياسية والمستقلين، اعتمدت الدولة على عدد من الأدوات، ويمكن تناولها بالشكل الذي أقره مجدال في اقترابه وأطلق عليها مسمى “طبقات” وتتمثل في: الخنادق ممثلين هنا في رجال الشرطة، المكاتب المحلية ممثلة في مراكز الشرطة، والمكاتب المركزية للوكالة ممثلة في جهاز الأمن الوطني واللجنة العليا للانتخابات ومجلس نواب 2015، وأخيراً المناصب القيادية ممثلة في رئيس الدولة.

ويمكن تناول دور هذه الطبقات “الأدوات” من خلال تقسيمها لأدوات قانونية وأخرى سياسية أمنية:

 أولاً الأداة القانونية “قانون الانتخابات”

لقد تمت انتخابات مجلس النواب 2021 وفقاً للقرار بقانون رقم 140 لسنة 2020، والقاضي بتعديل بعض أحكام قانون “مجلس النواب” الصادر بقانون رقم 46 لعام 2014، وقد أعد مجلس النواب السابق “برلمان 2015” هذا القانون، وصدق عليه رئيس الجمهورية في يوليو 2020[8]. وهنا يظهر دورهما “البرلمان والرئيس” كأحد طبقات أو أدوات الدولة في عملية الضبط والسيطرة. وتنص أهم مواد قانون الانتخابات على الآتي[9]:

حدد القانون مدة مجلس النواب بـــ 5 سنوات، وعدد أعضاءه بــــ 568 عضو، ويعين رئيس الجمهورية نسبة لا تزيد عن 5% منهم. وبينما كان قانون 2014 قد خصص 420 مقعداً بالنظام الفردي و120 بنظام القوائم المغلقة المطلقة، فإن تعديلات 2020 قسمت العضوية بينهما نصفين متساويين، فجعلت 284 عضواً بالنظام الفردي، و284 بنظام القوائم المطلقة، مع إعطاء الأحزاب والمستقلين حق الترشح في كلا النظامين. واشترط القانون كوتات محددة في القوائم للعمال والفلاحين والمسيحيين والشباب وذوي الإعاقة والمقيمين في الخارج وللنساء.

كما خصص القانون 4 دوائر للانتخاب بنظام القوائم، يخصص لدائرتين منها عدد 42 مقعد لكل منها، ويخصص للدائرتين الأخريين عدد 100 مقعد لكل منها، فيما قلت عدد دوائر النظام الفردي من 205 دائرة إلى 143 دائرة. واشترط القانون استمرار الصفة التي على أساسها تم اختيار العضو في الانتخابات، وإلا تسقط العضوية بقرار من مجلس النواب بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. كما أقر القانون أن للعضو المعين من قبل الرئيس نفس حقوق العضو المنتخب وعليه نفس الواجبات.

وفيما يتعلق بنصاب الفوز في الانتخابات، فقد حدد القانون نظام الأغلبية المطلقة للأصوات الصحيحة كمعيار للفوز في كلا النظامين الفردي والقائمة، أي اشتراط الحصول على (50%+1) من الأصوات، وفي حال فشل أحد المرشحين أو القوائم في الحصول على هذه النسبة، تعقد جولة ثانية وفيها يفوز من يحصل على أكثرية عدد الأصوات وليس شرطا الأغلبية المطلقة، أي أن القانون يعتمد نظام الأغلبية والجولتين.

وفي إطار هذا القانون، يمكن الإشارة لعدد من المعطيات التي تُمكن الدولة من الضبط والسيطرة على مدخلات العملية الانتخابية والتحكم في نتائجها:

  • انخفاض عدد دوائر النظام الفردي يعني أن حجم الدوائر الانتخابية لهذه المقاعد أصبحت كبيرة مقارنة بالانتخابات السابقة، مما يصعب المهمة على المرشحين في إدارتهم لحملاتهم الانتخابية. سواء من ناحية زيادة التكلفة، أو من الناحية اللوجستية وتغطية الدعاية لمناطق أوسع تفوق قدرة بعض المرشحين، ومن ثم قد يجد المرشح نفسه أمام مناطق سكنية لا تعرف عنه شيئاً. ويُستثنى من ذلك المرشح الحزبي، خاصةً إذا كان لحزبه تواجد قوي في تلك المناطق. ويمكن للدولة من خلال ذلك تقليل نسبة فوز مرشحي المعارضة، خاصة وأن أغلبهم استطاع الدخول لبرلمان 2015، من خلال الترشح على المقاعد الفردية كمرشحين مستقلين، في ظل ضعف أحزاب المعارضة سواء لأسباب بنيوية نابعة من الداخل أو خارجية بفعل الضربات السياسية والأمنية التي وجهتها الدولة لهذه الأحزاب.
  • رفع نسبة المنتخبين بالقوائم المطلقة، يمكن الدولة أكثر من التحكم في نتيجة الانتخابات، فإلقاء الدولة كل ثقلها ودعمها لقائمة واحدة في 4 دوائر تشمل كل الجمهورية، كفيل بضمان نجاح نصف أعضاء البرلمان من المؤيدين لها، خاصة بعد منح نظام القوائم 50% من أعضاء البرلمان في تعديلات قانون 2020ـ أيضا نظام القوائم المطلقة دائما ما تستفيد منه الأحزاب القوية، لأنه يمكنها من الحصول على كل مقاعد القائمة في حال بلغت النصاب المحدد، فيما تفضل الأحزاب الضعيفة القوائم النسبية، حتى يتم ترجمة الأصوات التي حصلت عليها لمقاعد في البرلمان، كل حسب نسبته. وفي الحالة المصرية، فإن الأحزاب المؤيدة هي الأقوى في مواجهة أحزاب معارضة ضعيفة.

ولذلك فإن “الحركة المدنية الديمقراطية” والتي تضم مجموعة من الأحزاب الليبرالية واليسارية المعارضة، تشمل أحزاب تيار الكرامة والتحالف الشعبي الاشتراكي والدستور والعيش والحرية تحت التأسيس، أعلنت اعتراضها على قانون الانتخابات وتعديلاته، رافضةً نظام القائمة المطلقة، واعتبرته نظام غير ديموقراطي، كما تم إصدار قوانين الانتخابات من دون أيّ حوار مجتمعي، أو دعوة ممثلي الأحزاب للاستماع إلى آرائها[10]. وهو ما قسم الأحزاب المعارضة لفريقين، فريق رفض المشاركة في نظام القوائم، كالحركة المدنية، مكتفياً بدعم 20 مرشحاً فقط على المقاعد الفردية[11]. وفريق انضم للقائمة الوطنية بقيادة مستقبل وطن، كالحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي[12]. وكلا الفريقين، دفعتهما قناعة أن القائمة المطلقة لا تتناسب مع طبيعة الضعف التي تتسم بها أحزابهم.

في مقابل النقد الموجه لنظام القوائم المطلقة، فهناك وجهة نظر أخرى معاكسة مبنية على أن الدستور أقر 6 كوتات لفئات اجتماعية، هي المرأة والشباب والمسيحيين والعمال والفلاحين وأصحاب الهمم (ذوي الإعاقة) والمصريين المقيمين بالخارج، ما جعل هناك صعوبة بالغة في تجاوز تلك الكوتات دون القائمة المطلقة، خاصة مع تحويل نظام الكوتات في الدستور من نظام انتقالي إلى نظام دائم وفقا لتعديلات الدستور 2019، فلم تعد مقتصرة على برلمان 2015 فقط.[13] ومن ثم وفقا لوجهة النظر هذه، فإن القائمة المطلقة هي الحل الأمثل لتطبيق نظام الكوتة.

 

  • اعتماد نظام الأغلبية المطلقة والجولتين كوسيلة لتحديد الفائز يُمكن الدولة من التحكم في نتائج الانتخابات، ففي حال وجود مرشح معارض للسلطة، وكان القانون يشترط الحصول على أكثرية عدد الأصوات فقط، وبالتالي القدرة على الفوز بسهولة من أول جولة، فإن قدرة الدولة على التحكم في منع نجاح هذا المرشح تقل. أما النظام الذي أقره هذا القانون والذي يشترط الحصول على أغلبية (50%+1)، وبالتالي صعوبة حصول المرشح على هذه النسبة من أول جولة، يعطي فرصة للدولة لإعادة ترتيب أوراقها، في حال انتقل مرشح معارض للجولة الثانية، ومن ثم التعامل معه عبر العديد من الأدوات.

ثانياً الأدوات السياسية والأمنية:

هنا يظهر دور بقية طبقات أو أدوات الدولة في عملية الضبط والسيطرة، ممثلةً في رجال الشرطة ومراكز الشرطة والأجهزة الأمنية ودور الرئيس أيضا، ويمكن تناولها كالتالي:

  • يبرز حزب مستقبل وطن في الوقت الحالي كأكثر الأحزاب قرباً من الدولة، والمدعوم منها بشكل غير مباشر. ولذلك يلاحظ أن مستقبل وطن هو أكثر الأحزاب التي دفعت بمرشحين لها على المقاعد الفردية بواقع 280 مرشح، كما سيطر على القائمة الوطنية من أجل مصر، حيث تعدت حصته من مقاعد القائمة النصف، كما تعد هذه القائمة الوحيدة التي نافست على جميع دوائر الجمهورية الأربعة، ما يشير لحجم الدعم اللوجستي والسياسي المقدم من الدولة له.
  • بالنسبة لحزب الوفد، فيبدو أن هناك توجه من الدولة ضد الأحزاب التي لها رصيد سياسي وتاريخي كالوفد، لصالح الأحزاب التي تم تأسيسها تحت إشرافها بعد 3 يوليو 2013، كمستقبل وطن. ومن مؤشرات ذلك، الفيديو الذي نشرته مسؤولة في حزب الوفد ومرشحة في هذه الانتخابات، وهي تنتقد سيطرة الأجهزة الأمنية على الأحزاب المصرية والانتخابات، وأكدت استعدادها مع أعضاء الحزب لعدم الترشح في ظل محاولات السلطات إضعاف الوفد[14]. كما ألقت الشرطة القبض على عدد من شباب حزب الوفد، لاختلافهم مع رئيس الحزب “بهاء أبوشقة”[15]. والذي وافق على الدخول في القائمة الوطنية، بعد أن كان رافضاً، على الرغم من حصول الوفد على نسبة 7% فقط من مقاعد القائمة[16]. وبالتالي يبدو أن هناك رغبة من الدولة في تحجيم مثل تلك الأحزاب.
  • أما بالنسبة لحزب النور، فعلى الرغم من امتلاك الحزب قاعدة شعبية ليست بالقليلة في القرى والنجوع، وبالأخص في محافظات البحيرة والإسكندرية ومطروح وكفر الشيخ. وهو ما مكنه في برلمان 2012، من حصد 96 مقعدًا في مجلس النواب، و45 مقعدًا في مجلس الشوري في العام ذاته، إلا أن الوضع قد تغير بشكل كبير بعد 3 يوليو 2013، إذ تراجعت حصة الحزب من مقاعد برلمان 2015 إلى 12 فقط، كما حصد صفر مقاعد في انتخابات مجلس الشيوخ 2020[17]. ثم أتت انتخابات مجلس النواب الأخيرة، ليمتنع الحزب عن المشاركة في نظام القوائم، مقتصراً على الدفع بـ 15 مرشحاً فقط على المقاعد الفردية.

إن حجم التفاوت الكبير في عدد المرشحين ومن ثم في عدد النواب الممثلين لحزب النور بين انتخابات 2012 وانتخابات 2015 لا يفسره فقط تراجع شعبية الحزب، إذ أن هذا التراجع لا يمكن أن يصل لهذا الحد. خاصة وأن مشكلة النور ليست في فشل مرشحيه في الانتخابات، بقدر ما هو في تدني عدد المرشحين الذين تدفع بهم. ويمكن قراءة عدم دفعهم بعدد أكبر من المرشحين، في ضوء ضغوط أمنية وسياسية، لتحجيم الحزب؛ سواء لخلفيته الدينية من ناحية، أو لشعبيته وقدرته على الحشد، ومن ثم قدرته على حصد العديد من المقاعد، بشكل يربك حسابات الدولة، وخطتها في عملية الضبط والسيطرة من ناحية ثانية.

  • أشارت تقارير إلى أنه بتوجيه من السيسي تم تكليف جهاز الأمن الوطني بإيجاد كوادر سياسية مقبولة لدى الرأي العام لعضوية المجلسين (النواب والشيوخ)، بعد فشل تجربة المخابرات التي جاءت ببرلمان 2015، ومن ثم فإن الأمن الوطني هو فعليًا من يدير المشهد السياسي الداخلي بكل تفاصيله خلال العامين الماضيين من بعد الانتخاب الثاني للسيسي في عام 2018، وذلك نتيجة لما يمتلكه الجهاز الأمني من شبكة الاتصالات وخريطة العائلات والتحالفات[18].
  • كما أشارت تقارير أخرى إلى لقاء جمع أحمد جمال الدين، مستشار السيسي للشؤون الأمنية، وبناءً على تكليف مباشر منه، بعدد من القيادات الأمنية وعدد من القيادات الحزبية ورجال أعمال، وخلال هذا الاجتماع تم الاتفاق على شكل وتركيبة مجلس الشيوخ، وكان من أهم مخرجاته أن يتصدر حزب مستقبل وطن المشهد في هذا المجلس[19]. وهو ما حدث بالفعل، حيث حصل الحزب على نصف مقاعد مجلس الشيوخ تقريبًا، بواقع 147 مقعدًا من أصل 300، ويليه حزب الشعب الجمهوري الذي حصل على 17 مقعدًا[20]. ومع تكرار نفس الأدوات في إدارة انتخابات مجلس النواب، فإن النتيجة ذاتها هي المتوقعة.

المطلب الثاني: مؤشرات قدرة الدولة على الضبط والسيطرة (مخرجات العملية الانتخابية)

في هذا السياق، تناقش الورقة مدى قدرة الدولة على تنفيذ عملية الضبط والسيطرة على العملية الانتخابية ومخرجاتها، وذلك عبر ثلاثة مؤشرات وضعها “مجدال”: الامتثال والطاعة، المشاركة الطوعية والشرعية.

أولاً مؤشر الامتثال والطاعة:

وتعني قدرة الدولة على استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في توزيع الموارد وضمان استجابة المواطنين لها. واستنادا للحالة التي يتم دراستها يمكن النظر لعملية توزيع الموارد في شكل هندسة السلطة للعملية الانتخابية، أو بمعنى آخر توزيع الموارد في تلك الحالة هو توزيع مقاعد البرلمان على القوى المختلفة، خاصة وأن دور الدولة هنا لم يقتصر فقط على الإشراف على الانتخابات، بل امتد للتحكم في نتيجتها. واستناداً لهذا المؤشر فقد نجحت الدولة بشكل كبير في إخراج مجلس نواب يتفق مع توجهاتها، ولن يكون معوق لسياساتها وأهدافها، أو حتى موازن لسلطتها، بل أداة في يدها. ويمكن تناول هذا المؤشر بشكل أكثر تفصيلاً كالتالي:

(1) نتائج الانتخابات ودلالاتها

هناك 13 حزبًا، بالإضافة إلى المستقلين، استحوذوا على مقاعد البرلمان وتبلغ عددها 567 مقعدًا (يتبقى مقعد دير مواس)، من بينها 8 أحزاب جمعت مقاعد بالفردي والقوائم، و4 أحزاب جمعت مقاعد بالقائمة فقط، وحزب وحيد جمع مقاعده بالنظام الفردي فقط.

وبالتالي تتمثل التركيبة النهائية لمجلس النواب كالتالي: حزب مستقبل وطن في المرتبة الأولى، حيث استحوذ على 315 مقعدًا بنسبة 55% وهو ما يمثل الأغلبية المطلقة داخل البرلمان، يليه حزب الشعب الجمهوري 49 مقعدًا، ثم حزب الوفد 25 مقعدًا، فحزب حماة الوطن 23 مقعدًا، وحزب مصر الحديثة 11 مقعدًا، وهذه الأحزاب بجانب حزب المؤتمر 8 مقاعد، والحرية 7 مقاعد، والتجمع الوطني الديمقراطي 6 مقاعد، جمعت مقاعدها ما بين القوائم والفردي، أما الأحزاب التي حصدت مقاعدها بنظام القوائم فقط هي، الإصلاح والتنمية 9 مقاعد، مصر الديمقراطي الاجتماعي 7 مقاعد، العدل بمقعدين، وإرادة جيل بمقعد وحيد، ويبقى حزب النور الوحيد الذي حصد مقاعده بالنظام الفردي فقط وله 7 مقاعد، وأخيراً المستقلون واستحوذوا على 97 مقعدًا[21]. هذا بالإضافة لــ28 نائباً، عينهم رئيس الجمهورية[22].

وفي ضوء هذه النتائج، يمكن الإشارة إلى عدد من المعطيات التي تشير لمدى قدرة الدولة على الضبط والتحكم في نتائج الانتخابات:

  • في برلمان 2015 كان هناك عدد من النواب الذين مثلوا إزعاجاً للدولة، من خلال معارضة توجهاتها السياسية بشكل كبير، وعلى رأسهم النائبين السابقين “أحمد الطنطاوي” و”هيثم الحريري”، وما يجمعهما، هو نجاحهم في انتخابات برلمان 2015 من خلال النظام الفردي كمستقلين، وعدم نجاحهما في انتخابات مجلس النواب 2021. وهو ما يكن تفسيره في ضوء عملية الضبط والسيطرة التي تقوم بها الدولة، من خلال إعادة تدوير ليس فقط النخبة المؤيدة، بل أيضا المعارضة؛ لأن بقاء أشخاص بعينهم ضمن النخبة المعارضة بفاعلية في الحياة السياسية، ولمدة طويلة، يمكن أن يقود في النهاية لزيادة رصيدهم السياسي والشعبي، بما يجعلهم مرشحين محتملين لانتخابات الرئاسة.

وتدخل الدولة هنا يمكن رؤيته من خلال مسارين، الأول غير مباشر من خلال قانون الانتخابات، الذي وسع من الدوائر الفردية، ما صعب من مهمة النجاح في الانتخابات على المرشحين الذين لا يتمتعون بظهير حزبي قوي، كما الطنطاوي والحريري. الثاني مباشر، ويتعلق بـ(احتمالية) تدخل الدولة لإسقاط الحريري والطنطاوي، حيث أعلن الأخير عن حصوله على أعلى الأصوات، وفقاً لنتائج محاضر الفرز الرسمية الصادرة عن لجان الانتخاب الفرعية في الدائرة، بخلاف ما أعلنته اللجنة القضائية المركزية في المحافظة[23]. وفي المجمل، يبدو أن الدولة ارتأت أن الأصوات المعارضة في البرلمان، التي لا يمكن ضبطها والتحكم فيها، غالبا ما تدخل البرلمان عبر نظام الفردي كمستقلين، لذلك قامت بتحجيم هذا النظام، بتقليل عدد مقاعده لصالح القوائم وتوسيع حجم الدوائر الفردية. ومن ثم يلاحظ أنه بينما في برلمان 2015 فاز 318 مرشح من المستقلين، فإن برلمان 2021 فاز فيه 97 مستقلاً فقط.

  • بالنسبة لحزب النور، على الرغم من أنه حصد 7 مقاعد فقط، إلا أن هناك نقطتان تشيران إلى أن هذه المقاعد الضئيلة لا تعبر عن قوة الحزب الحقيقية: الأولى أن الحزب حصد كل مقاعده بنظام الفردي، وهو النظام الذي يكشف مدى قوة الحزب من عدمه، بخلاف نظام القوائم، الذي يحدث فيه تضامن بين الأحزاب، وتعويم للأحزاب الضعيفة ضمن أحزاب قوية أخرى، لذلك فإن أحزاب الإصلاح والتنمية، المصري الديمقراطي الاجتماعي، العدل وإرادة جيل، تعد من هذا المنظور أحزاب ضعيفة؛ لأنها حصدت كل مقاعدها فقط بنظام القوائم. الثانية أن حزب النور يأتي في المرتبة الثانية بعد مستقبل وطن، وفقا لمعيار نسبة نجاح مرشحيه على المقاعد الفردية، حيث فاز 7 من أصل 15 مترشحا دفع بهم الحزب، بنسبة 46,7%[24]. وبالتالي فإن الحزب كان لديه القدرة على الدفع بمرشحين أكثر، والفوز بعدد مقاعد أكثر، وسبب عدم إقدامه على ذلك، يمكن قراءته في سياق ضغوط من الدولة، ضمن عملية هندستها للعملية الانتخابية.
  • في برلمان 2015، جاءت تركيبته الأساسية كالتالي: المستقلون 318 مقعداً، ووزعت بقية المقاعد على 19 حزباً أهمها: حزب المصريين الأحرار في المرتبة الأولى 65 مقعداً، ثم مستقبل وطن 50 مقعداً، والوفد 45 مقعداً، وحماة وطن 17 مقعداً، والشعب الجمهوري 13 مقعداً، والمؤتمر والنور لكل منهما 12 مقعداً[25]. وبالتالي بينما ضمنت الدولة أغلبية في برلمان 2015 مؤيدة لتوجهاتها، إلا أنها كانت مشتتة بين أحزاب عديدة، بشكل يعوق، ولو قليلاً، سيطرتها وتحكمها في هذا البرلمان.

أما في برلمان 2021 فقد استطاع حزب واحد “مستقبل وطن” الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان (50%+1)، بــ315 مقعداً، وبإضافة مقاعد حزبي حماة وطن والشعب الجمهوري، تصبح لدى هذه الأحزاب الثلاثة سيطرة على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان بــ387 مقعداً، مما يسهل من عملية سيطرة الدولة على المجلس، بحكم توجهات هذه الأحزاب. وباستثناء الوفد، فإن الأحزاب الثلاثة الأولى الأكثر حصداً لمقاعد البرلمان، تتفق في كونها إما أحزاب تم تأسيسها تحت إشراف من الدولة بعد 3 يوليو 2013 كمستقبل وطن وحماة وطن، أو أنها لا تتسم بأيديولوجية واضحة أو ذات ميراث تاريخي كبير كحزب الشعب الجمهوري، وهي عوامل تمكن الدولة أكثر من التحكم في هذه الأحزاب.

لذلك يلاحظ تراجع حصة الوفد كحزب تاريخي من 45 مقعد في برلمان 2015 لــ25 مقعد في برلمان 2021، والنور كحزب صاحب أيديولوجية إسلامية بارزة من 12 مقعد لــ7مقاعد، في حين ارتفعت حصة مستقبل وطن من 50 لــ315، والفجوة الكبيرة بين الرقمين الأخيرين، لا يمكن قراءتها فقط في ضوء تطور سياسي لحزب مستقبل وطن، وإنما أيضا في ضوء تدخل الدولة لصالح الحزب. وفي المجمل أدى قانون الانتخابات دوراً بارزاً في خفض عدد المستقلين من ناحية وعدد الأحزاب من ناحية أخرى، وكلاهما يمكنان الدولة أكثر من عملية السيطرة على البرلمان.

(2) صلاحيات المجلس وفاعليته

يمتلك مجلس النواب صلاحيات كبيرة وفقاً لنصوص الدستور[26]، وهي كالتالي:

تنص المادة(122) على أنه لابد من موافقة مجلس النواب على مشاريع القوانين التي يقدمها الرئيس أو الحكومة. كما تنص المادة (123) على أن للرئيس حق الاعتراض على القوانين التي يصدرها البرلمان، لكن بعد ذلك للبرلمان القدرة على تمريرها دون انتظار موافقة الرئيس، لكن بأغلبية الثلثين. أما المادة (124) فتشير لموافقة مجلس النواب على الميزانية العامة للدولة وصلاحية المجلس في تعديلها. كما أقرت المادة (127) عدم جواز الاقتراض إلا بموافقة مجلس النواب.

أما المواد من (129) حتى (134)، فتشير إلى حق مجلس النواب وأعضائه في توجيه طلب إحاطة أو سؤال أو استجواب لرئيس مجلس الوزراء أو أحد وزرائه، كما تشير أيضا إلى قدرة مجلس النواب على سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء أو أحد وزرائه، ويشترط لعرض طلب سحب الثقة أن يكون بناءاً على اقتراح عُشر أعضاء المجلس، ويتم سحب الثقة بأغلبية الأعضاء.

أما المادة (146) فتنص على أن رئيس الجمهورية يكلف رئيساً لمجلس الوزراء، بتشكيل الحكومة وعرض برنامجه على مجلس النواب، فإذا لم تحصل حكومته على ثقة أغلبية الأعضاء، يكلف رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس الوزراء بترشيح من الحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النواب، فإذا لم تحصل حكومته على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب خلال ثلاثين يوماً، عُد المجلس منحلاً، ويدعو رئيس الجمهورية لانتخاب مجلس نواب جديد خلال ستين يوماً من تاريخ صدور قرار الحل. هذا بجانب المادة (147) التي تشترط على رئيس الجمهورية إذا رغب في إعفاء الحكومة من أداء عملها أن يحصل على موافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب، وفي حال أراد الرئيس إجراء تعديل وزاري، فلابد من موافقة مجلس النواب بالأغلبية المطلقة للحاضرين، وبما لا يقل عن ثلث أعضاء المجلس.

وتنص المادة (151) على أن رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب. في حين، تشترط المادة (152) بأنه لا يعلن الحرب، ولا يرسل القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة، إلا بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثي الأعضاء. كما تنص المادة (154) على أنه يجب موافقة أغلبية عدد أعضاء مجلس النواب على إعلان حالة الطوارئ، ولا تمد لمدة أخرى مماثلة، إلا بعد موافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس. وتشير المادة (159) إلى أن اتهام رئيس الجمهورية بانتهاك أحكام الدستور، أو بالخيانة العظمى، أو أية جناية أخرى، يكون بناء على طلب موقع من أغلبية أعضاء مجلس النواب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، وبعد تحقيق يجريه معه النائب العام.

أخيراً سمحت المادة (161) لمجلس النواب بحق اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بناءً على طلب موقع من أغلبية أعضاء المجلس على الأقل، وموافقة ثلثي أعضائه، وبمجرد الموافقة على اقتراح سحب الثقة، يطرح أمر سحب الثقة من الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة في استفتاء عام.

وفي ضوء الصلاحيات السابقة لمجلس النواب، وبالنظر لتركيبته النهائية، فإنه من المرجح أن تسيطر الدولة ممثلة في سلطتها التنفيذية بقيادة رئيس الجمهورية على البرلمان، ومن ثم تتحكم في صلاحياته من خلال مسارين:

المسار الأول، بالاستعانة بكتلة حزب مستقبل وطن فقط في البرلمان، حيث تمثل الأغلبية المطلقة، دون الحاجة لبقية الأحزاب، يمكن الموافقة على مشاريع القوانين التي يقدمها الرئيس وحكومته، وميزانية الدولة والاقتراض، والمعاهدات التي يبرمها ويصدق عليها الرئيس، وإعلان الرئيس لحالة الطوارئ. والحيلولة دون مساءلة واستجواب الحكومة، أو سحب الثقة منها، مع استثناءات تتعلق باحتمالية ممارسة البرلمان لدوره الرقابي على بعض الوزارات الغير سيادية، وبحدود معينة، أي لن تصل لحد سحب الثقة. ومنح الثقة للحكومة التي يشكلها الرئيس، دون الوصول لمرحلة ترشيح مستقبل وطن، باعتباره حزب الأغلبية في البرلمان، لاسم رئيس الحكومة.

المسار الثاني، بالاستعانة بائتلاف مكون من أحزاب مستقبل وطن والشعب الجمهوري وحماة وطن، حيث ضمان نصاب ثلثي أعضاء البرلمان، يمكن منع تمرير القوانين التي يعترض عليها الرئيس، والموافقة على تمديد حالة الطوارئ بناءاً على طلبه، والموافقة على إعلان حرب أو إرسال قوات عسكرية للخارج، إذا رغب في ذلك الرئيس. ومنع أي قرار يتعلق باتهامه بالخيانة العظمي، والحيلولة دون سحب الثقة منه وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

وبالتالي يمكن القول بأن السلطة التشريعية الجديدة لن تكون موازنة للسلطة التنفيذية، بل ستزداد هيمنة الثانية على الأولى مقارنةً بنسخة برلمان 2015، بما يقوض مبدأ التوازن بين السلطات من ناحية، ويعمق من تغول الدولة على المجتمع من ناحية أخرى.

ثانياً مؤشر المشاركة الطوعية:

والتي تعكس قدرة الدولة على الحشد من خلال الاقناع، ويمكن رصد هذا المؤشر من خلال نسبة مشاركة المواطنين في الانتخابات، والتي بلغت تقريباً 29% من مجمل قاعدة الناخبين[27]. وهي تقترب من نسبة المشاركة في برلمان 2015[28]. وإذا ما قورنت هذه النسب ببرلمان 2011، والذي بلغت نسبة المشاركة فيه 54%[29]. فإنه يتضح مدى ضعف هذا المؤشر.

ثالثاً مؤشر الشرعية:

أي الشعور بالرضاء من جانب القوى المجتمعية عن الحكومة والقواعد الحاكمة. ولأن موقف القوى المؤيدة للسلطة متوقع ولا يمكن القياس عليه، فإنه يمكن رصد موقف المعارضة، ويظهر في اعتراض الحركة المدنية الديموقراطية، التي تضم العديد من الأحزاب المعارضة، على قانون الانتخابات. كما يمكن رصد عنصر الشرعية أيضا من خلال مدى التنوع في التمثيل الحزبي في البرلمان بين القوى المؤيدة والمعارضة، إذ أن الأولى تعد مهيمنة على البرلمان، في ظل غياب حقيقي للمعارضة.

خاتمة

خلصت الدراسة لعدد من النتائج على النحو التالي:

1ـ قامت الدولة بعملية الضبط والسيطرة على العملية الانتخابية ومدخلاتها من خلال عدد من الأدوات، أو الطبقات كما يسميها “مجدال”: أولا (الخنادق) ممثلةً في رجال الشرطة وثانياً (المكاتب المحلية) ممثلةً في مراكز الشرطة، وفضلا عن دورهم الطبيعي في تأمين العملية الانتخابية، فإن هذا الدور ظهر أيضا في القبض على أفراد من أحزاب الوفد، حينما أظهروا معارضة لاستراتيجية الدولة في هندسة الانتخابات وتشكيل البرلمان.

2ـ بروز المكاتب المركزية للوكالة ممثلةً في الهيئة الوطنية للانتخابات التي تدير العملية الانتخابية، ومجلس نواب 2015 الذي أقر تعديلات على قانون الانتخابات، بجانب قانون الانتخابات نفسه كأداة للضبط والسيطرة، وأجهزة الأمن التي تتولي بشكل رسمي تأمين العملية الانتخابية، وبشكل غير رسمي إدارة المشهد السياسي بشكل عام والانتخابي بشكل خاص. رابعاً (القيادة العليا للدولة) ممثلة في رئيس الجمهورية، ويظهر دوره في التصديق على قانون الانتخابات، وأيضا في سحب دور إدارة المشهد السياسي والانتخابي من المخابرات لصالح الأمن الوطني، وهو ما يشير لما ذكره ميجدال لهيراركية الضغط (الأمر) داخل بنية الدولة ذاتها، والتي تأخذ نمط اتجاهي من الطبقات العليا إلى الطبقات الأدنى.

3ـ قياس مدى قدرة الدولة على الضبط والسيطرة على العملية الانتخابية ومخرجاتها عبر ثلاثة مؤشرات كما وضعها “مجدال”:

الأول الطاعة والإذعان، واستناداً لهذا المؤشر فقد نجحت الدولة بشكل كبير في إخراج مجلس نواب يتفق مع توجهاتها، ولن يكون معوق لسياساتها وأهدافها، أو حتى موازن لسلطتها، بل أداة في يدها.

المؤشر الثاني المشاركة الطوعية، وتظهر الدولة ضعيفة وفق هذا المؤشر، حيث سجلت الانتخابات حضور 29% فقط من مجمل قاعدة الناخبين.

مؤشر الشرعية، ويظهر أيضا ضعف الدولة وفق هذا المؤشر، ويمكن رصده في اعتراض عدد من الأحزاب المعارضة على قانون الانتخابات، وفي مدى التنوع في التمثيل الحزبي في البرلمان بين القوى المؤيدة والمعارضة، إذ تهيمن الأولى على البرلمان، في ظل غياب حقيقي للمعارضة.

4ـ في ظل مؤشرات الضبط والسيطرة، فإن الدولة تبدو قوية وفق المؤشر الأول “الالتزام والطاعة”، في حين تبدو ضعيفة وفق مؤشري “المشاركة الطوعية” و”الشرعية”. وهنا يجب الإشارة إلى الآتي:

  • قوة مؤشر الالتزام والطاعة وضعف مؤشري المشاركة الطوعية والشرعية، تشير إلى أن قوة الدولة هنا تعبر عن حالة غير صحية سياسياً، وأن قوة الدولة وفق المؤشر الأول واستخدامها للعنف والأدوات القسرية في مواجهة القوى الاجتماعية “الأحزاب” في توزيع الموارد قوى لدرجة تعويض الضعف في العوامل الأخرى.
  • قوة الدولة ليست نابعة فقط من كون الدولة قوية، ولكن أيضا نتيجة الضعف الشديد للمجتمع وقواه المختلفة، وهو ما يفسر ضعف مؤشري المشاركة والشرعية، إذ أن هذين المؤشرين لا يشيران فقط لمدى قوة أو ضعف الدولة بل المجتمع أيضا. هو ما يقود في النهاية للاستنتاج بأن الحالة المصرية تعبر عن أحد نماذج جول مجدال “دولة قوية ومجتمع ضعيف”، وهي حالة غير صحية في الحياة السياسية؛ إذ يجب أن تكون هناك حالة من التوازن بين الطرفين، أي مجتمع قوى ودولة قوية، وهي حالة كفيلة بإخراج سلطة تشريعية قوية، تقوم بدورها الرقابي والتشريعي بشكل حقيقي، وككابح لجماح الدولة “سلطتها التنفيذية”، ما يقود في النهاية لترسيخ مبدأ توازن السلطات.
الهامش

[1] علي الدين هلال، عن العلاقة بين الدولة والمجتمع، الحزب الليبرالي الديموقراطي العربي، 4/8/2007، (تاريخ الدخول: 8/11/2020)، الرابط

[2] إسلام علي، الدولة في المجتمع: اقتراب دراسة النضال من أجل السيطرة، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية، (تاريخ الدخول: 8/11/2020)، الرابط

[3] اقتراب الدولة في المجتمع، الموسوعة السياسية، (تاريخ الدخول: 8/11/2020)، الرابط

[4] عمرو هاشم ربيع، الأحزاب السياسية وانتخابات البرلمان المصري: الحصيلة المتوقعة وانعكاسها على عمل المجلس الجديد، مركز الإمارات للدراسات، 27/10/2020، (تاريخ الدخول: 24/12/2020)، الرابط

[5] ماري ماهر، قراءة في حجم المشاركة السياسية الحزبية والمستقلة بانتخابات “النواب” 2020، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 27/10/2020، (تاريخ الدخول: 24/12/2020)، الرابط

[6] عبد الرحمن أبو طالب، انتخابات مجلس النواب المصري: أبرز ملامح السباق الذي قد تنقصه “المشاركة” الجادة، بي بي سي، 7/10/2020، (تاريخ الدخول: 24/12/2020)، الرابط

[7] هشام عبدالجليل، القائمة الوطنية من أجل مصر.. 12 حزبا ترفع شعار المصلحة العامة فوق كل اعتبار، اليوم السابع، 24/9/2020، (تاريخ الدخول: 24/12/2020)، الرابط

[8] الرئيس يصدق على تعديل قوانين “الشيوخ ومجلس النواب والحقوق السياسية”، اليوم السابع، 2/7/2020، (تاريخ الدخول: 24/12/2020)، الرابط

[9] قانون رقم 140 لسنة 2020، الموقع الرسمي للهيئة الوطنية للانتخابات، الرابط

[10] السيسي يصدّق على تعديل قوانين الانتخابات البرلمانية، العربي الجديد، 2/7/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[11] الحركة المدنية المعارضة في مصر تعلن دعم 20 مرشحا في انتخابات البرلمان، القدس العربي، 19/10/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[12] المصري الديمقراطي الاجتماعي: اتفقنا على 3 مرشحين بقائمة تحالف مستقبل وطن، أخبار اليوم، 12/7/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[13] عمرو هاشم ربيع، انتخابات مجلس النواب في مصر: الاستعدادات والتوقُّعات، مركز الإمارات للدراسات، 6/10/2020، (تاريخ الدخول: 24/12/2020)، الرابط

[14] الأمن يتحكم بانتخابات البرلمان.. رسالة مدوية من عضوة بحزب الوفد للسيسي، الجزيرة نت، 16/9/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[15] اعتقال قيادات شبابية من «الوفد» بعد بلاغ من رئيس الحزب، القدس العربي، 22/10/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[16] إبراهيم جابر، نصف البرلمان لـ ”مستقبل وطن”.. الغضب يسيطر على قائمة “من أجل مصر”، مصر 360، 22/9/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[17] انتخابات برلمان مصر.. “وجبة دسمة” للنظام تخلو من “ملح” المعارضة، الجزيرة نت، 29/10/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[18] بـ«تعليمات رئاسية»: «النواب» يدخل الثلاجة.. و«الأمن الوطني» يتسلم من المخابرات تشكيل المجالس المقبلة، مدى مصر، 30/9/2020، (تاريخ الدخول: 8/11/2020)، الرابط

[19] مجلس الشيوخ.. الخلطة الأمنية للعملية الانتخابية، مدى مصر، 6/8/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[20] “مستقبل وطن” يحصل على 147 مقعدًا بمجلس الشيوخ من أصل 300، البوابة نيوز، 19/9/2020، (تاريخ الدخول: 26/12/2020)، الرابط

[21]  المصدر السابق

محمود جاويش، تعرف على أبرز المعينين الجدد في مجلس النواب، المصري اليوم، 6/12/2020، (تاريخ الدخول: 27/12/2020)، الرابط[22]

[23]  السيسي يتخلص من آخر المزعجين.. خسارة الطنطاوي وسط اتهامات بالتزوير، الجزيرة نت، 9/12/2020، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

[24] عمرو هاشم ربيع، تشكيل مجلس النواب الجديد، جريدة الشروق، 16/12/2015، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

[25] زكي القاضي، 100 معلومة عن برلمان 2015، اليوم السابع، 16/12/2015، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

[26] الدستور، الموقع الرسمي لمجلس النواب، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

[27] أحمد البهنساوي، الوطنية للانتخابات: نسبة التصويت في المرحلة الثانية للنواب 29.5%، الوطن، 15/11/2020، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

[28] عبد الناصر قنديل، قراءة فى نتائج الانتخابات البرلمانية 2015، المصري اليوم، 11/12/2015، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

[29] المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات بعد ثورة يناير، المصري اليوم، 27/10/2015، (تاريخ الدخول: 29/12/2020)، الرابط

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%b9-%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a5%d8%af%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%ae%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa-2020/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M