عاد شبح الإرهاب والعنف يخيم على أوروبا في الأسابيع الأخيرة، إثر تزامن عمليات طعن بالسكاكين واعتداءات ذات طابع إرهابي مع أعمال عنف ارتكبتها جماعات يمينية متطرفة، مما يهدد الاستقرار الداخلي والتماسك الاجتماعي ويضع المهاجرين واللاجئين في عين العاصفة.
ومما لا شك فيه أن إحباط الكثير من الهجمات خلال الألعاب الأولمبية في فرنسا وفي فترة سابقة، دلل على الارتفاع الإجمالي في مستوى التهديد الإرهابي، علما أن حربي غزة وأوكرانيا زادتا من تدهور الوضع الجيوسياسي الدولي وإثارة المخاوف من احتمالات تصدير النزاعات إلى الداخل الأوروبي، بالإضافة إلى التهديدات التي تستهدف الإدارات والشركات الخاصة ضمن الحرب الإلكترونية والتنافسية الاقتصادية.
هكذا تواجه القارة القديمة معضلات تمس الأمن الداخلي للدول والأمن الأوروبي عامة، كما يمكن أن تتأثر موازين القوى السياسية مع تصاعد وجود اليمين المتطرف القومي والإقصائي مع ما ينطوي عليه من إنذار يمكن أن يعيد أوروبا إلى حقبة شبيهة بعشية الحرب العالمية الثانية. ولذا تطرح بقوة أهمية التفتيش عن مقاربة لا تكتفي حصرا بالحلول الأمنية، بل تكون لها أبعادها السياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية للحفاظ على سلامة المجتمعات التعددية وعدم انهيار منظومة القيم الديمقراطية التي لطالما كانت “العلامة المسجلة” لأوروبا.
أسفر الاستحقاق الانتخابي مؤخرا عن برلمان أوروبي راسخ بقوة في اليمين، مع وجود أكبر لأقصى اليمين مما كان عليه في الهيئة التشريعية السابقة
أسفر الاستحقاق الانتخابي مؤخرا عن برلمان أوروبي راسخ بقوة في اليمين، مع وجود أكبر لأقصى اليمين مما كان عليه في الهيئة التشريعية السابقة، من دون وصوله إلى الحجم الذي يخشى منه البعض. وكان لافتا تمركز الصعود اليميني المتطرف في أوروبا الغربية، خصوصا في البلدان الستة المؤسسة للعمل الأوروبي المشترك (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ).
وربما ليس من المصادفة أن بعض هذه البلدان المذكورة أعلاه مع النمسا، بالإضافة إلى المملكة المتحدة، شهدت هذا الصيف أحداث عنف مرتبطة بالإرهاب والتطرف الديني أو اليمين المتطرف، وأن مجرد تقديم جردة لهذه الأعمال يؤشر إلى توسع رقعة التهديدات غير المسبوقة في تنوعها وتشابك بعضها.
وفي فرنسا لم يقتصر التنبه على مرحلة الألعاب الأولمبية الصيفية، إذ سبقتها إنذارات وعمليات طعن وأفعال معادية للسامية أو لها صلة بالإسلاموفوبيا وبعضها مرتبط بتداعيات حرب غزة.
وكان الخطر مرتفعا جدا، لكن لم يقع أي هجوم خلال دورة الألعاب الأولمبية في باريس، إذ تم اتخاذ تدابير مهمة في فرنسا لاستبعاد أو مراقبة الأفراد الذين يعتبرون مدعاة للخطر. وكان هناك تعاون أوروبي ودولي ناجح في العمل الاستباقي الوقائي. وأعرب الرئيس إيمانويل ماكرون عن ارتياحه أواسط أغسطس/آب للإنجاز الأمني، وكشف عن إحباط ثلاث خطط لعمليات إرهابية إبان الألعاب. وفي 24 أغسطس الماضي، استهدف حريق كنيسا يهوديا في جنوب فرنسا، وتبين أن المشتبه بتنفيذ الاعتداء “جزائري في وضع نظامي”. وإذا كان العداء للسامية، أو انعكاسات حرب غزة من الأسباب المفترضة، فإن عمليات “الذئاب المنفردة” يصعب الإحاطة بها ومعرفة دوافعها الحقيقية. واتهم تقرير صحافي استقصائي “الأجهزة الأمنية الإيرانية بتجنيد نشطاء في شبكات الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات، بهدف اغتيال إسرائيليين أو يهود في أوروبا”. لكن المصادر الرسمية الأوروبية لم تؤكد ذلك.
وفي ألمانيا، تكررت هذا الصيف هجمات الطعن بالسكاكين الإرهابية الطابع. وقد وقع الهجوم الأول في يونيو/حزيران وسط مدينة مانهايم، وأدى إلى مقتل ضابط شرطة وإصابة خمسة أشخاص. وحصل الهجوم الثاني في مدينة زولينغن غربا، وخلف ثلاثة قتلى يوم 23 أغسطس، وتبين أن مرتكبه لاجئ سوري متشدد ارتكبه باسم “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش). وقد أثار ذلك من جديد الجدل حول تشديد قانون حمل السلاح العادي والسلاح الأبيض، واتخاذ إجراءات مشددة لترحيل المجرمين، مع التأكيد على أن “الإرهاب الإسلامي” هو “أحد أكبر المخاطر على الأمن” في البلاد.
ضمن هذه الأجواء المحتقنة، لم يكن من المستغرب أن يحقق حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، فوزا كبيرا في ولاية تورينجيا الشرقية في الانتخابات الإقليمية التي جرت في الأول من سبتمبر/أيلول. ومنحت هذه النتيجة اليمين المتطرف أول فوز له في انتخابات برلمان الولاية منذ الحرب العالمية الثانية. كما جاء حزب “البديل من أجل ألمانيا” في المركز الثاني بفارق ضئيل في ولاية ساكسونيا المجاورة.
يدلل كل ذلك على الترابط وإمكان الخلط السلبي بين الهجرة واللجوء والإسلام والإرهاب وصعود اليمين المتطرف وهذا يشكل أخطر وصفة سياسية في بلد لا زال يعاني من تاريخ النازية الأسود. وأتى إحباط اعتداء في ميونيخ (عاصمة بافاريا) في الخامس من سبتمبر الحالي ليؤكد استمرار التهديد، وتبين أن مطلق النار في محيط القنصلية الإسرائيلية نمساوي من أصول بوسنية، وعمره 18 عاما ويشتبه في صلته بتنظيم “داعش”.
وعلى ضفاف المانش في بريطانيا، اجتاحت أعمال العنف عدة مدن بريطانية أوائل أغسطس/آب الماضي، عقب مقتل ثلاث فتيات أواخر يوليو/تموز وأثار العنف المستشري مخاوف على سلامة المهاجرين والمسلمين، بعد أن قالت جماعات يمينية متطرفة إن المهاجم مهاجر مسلم، رغم النفي الرسمي. وحملت الشرطة مسؤولية الفوضى لمنظمات مرتبطة بـ”رابطة الدفاع البريطانية” اليمينية المتطرفة والمناهضة للإسلام التي تأسست قبل 15 عاما وجرى حلها. وسادت الصدمة مع انتشار صور محاولة إضرام النار في فندق يؤوي طالبي لجوء، ومهاجمة مراكز إسلامية، ونهب متاجر.
يشكل الإرهاب اليوم تهديدا دائما وواسع النطاق للاتحاد الأوروبي
ووصلت التهديدات إلى مساجد في ساوثبورت ومدينة سندرلاند، شمال شرقي إنجلترا، ما أدى إلى تعزيز الأمن في مئات المؤسسات الإسلامية وسط مخاوف على سلامة المصلين. وكان مقلقا امتداد العنف إلى أكثر من مدينة خصوصا في ليفربول ومانشستر وبريستول وبلاكبول وهال، إضافة إلى بلفاست في أيرلندا الشمالية.
ومن الواضح أن استنكار القيادات الدينية، ووعي واستدراك نخب من المسلمين، وحرص حكومة حزب “العمال”، سمح بتخفيف الهواجس وبدء المعالجات. بيد أن ذلك لا يطمئن ولا يقدم ضمانات حيال قدرة المجتمع الإنجليزي بصيغته التعددية القومية والدينية على التماسك بوجه الصعود العنصري من جهة وخطابات الهوية الدينية والكراهية من جهة ثانية، وكذلك من الربط بين أحداث خارجية مثل المسألة الفلسطينية وانعكاس نزاعات الشرق الأوسط على علاقات المكونات البريطانية.
تجذر التهديد الإرهابي والعنف المتطرف
يشكل الإرهاب اليوم تهديدا دائما وواسع النطاق للاتحاد الأوروبي. فقد تعرضت أوروبا للإرهاب المتفرع عن تنظيم “القاعدة” للمرة الأولى في مدريد عام 2004 وتبعتها اعتداءات لندن عام 2005، وبعد عقد من الزمن بدأ دور جديد انطلاقا من فرنسا وبلجيكا، مع عمليات تبناها ما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية” الذي استقطب في صفوفه، بحسب الإحصاءات، ما بين خمسة آلاف وستة آلاف أوروبي مروا أو بقوا في العراق وسوريا، واتجه البعض منهم نحو ليبيا والساحل أو حاول التسلل عبر قوافل النازحين أو بوسائل أخرى إلى داخل أوروبا.
لم تتأقلم المؤسسات الأوروبية مع تطور الوقائع الأمنية، إذ بقيت الحدود الخارجية والداخلية من دون آليات رقابة فعالة، ولا يقتصر سبب التراخي على تطبيقات تأشيرة شينغن، بل بسبب تخيّل بقاء أوروبا واحة استقرار وأمن في جوار مضطرب. ومن الواضح أن استخلاص الدروس حول الثغرات الأمنية والعمل الوقائي لم يكن كافيا، إلى حد تمكن شبكات الإرهاب من الاختراق، خاصة أن تبادل المعلومات واستغلالها لم يفِ بالغرض لأسباب بيروقراطية أو بدوافع أنانية وطنية. وهكذا يواجه الاتحاد الأوروبي تهديدا إرهابيا متعدد الأوجه يستهدف أمنه وقيمه بشكل مباشر..
وحاليا، بعد أقل من عقد على موجة 2015-2016، يعود شبح الإرهاب ليدق أبواب أوروبا، لكن ثبت حتى الآن أن الحرب الاستباقية أخذت تنجح في منع الهجمات الكبرى، وأن شكل الخطر الحالي يتمثل في إرهاب مفاجئ محلي الطابع، بسبب التطرف الديني دوما وصعود النزعات الفئوية والعنصرية.
ويتمثل الفشل في مكافحة الإرهاب الجديد وتبريراته الأيديولوجية والاجتماعية بعدم نجاعة الأساليب وعدم خوض معركة فكرية ضد هذه الظاهرة.
ومن الأجدى عدم مقاربة الإرهاب بوصفه ظاهرة عالمية فحسب، بل التنبه إلى بعده الأوروبي الخاص والمرتبط بتجارب كل دولة على حدة، وكذلك بسبب عدم وجود استراتيجيات منسقة إقليميا وعالميا.
وهناك أيضا مقاربة النموذج الأوروبي أو الميزة الكوزموبوليتانية للعواصم الأوروبية التي لا تروق بالطبع لحملة أفكار القطيعة بين الحضارات والأديان. لكن أطروحات الانعزال والعنصرية والإسلاموفوبيا، ستبقى من دون أفق وتندرج ضمن منطق العودة إلى الحروب الدينية، والفصل بين الغرب والشرق، وتمثل أفضل هدية للمتشددين والعنصريين والعدميين.
لا يكفي الحل الأمني والتركيز على الراديكالية أو التهميش في مواجهة الإرهاب والعنصرية، ويتوجب إيلاء الجانب الفكري الاهتمام عبر الدفع لمزيد من الاندماج والتفاعل مع النخب المسلمة السياسية والدينية المؤهلة والراغبة وفق شراكة في المواطنة والمسؤوليات.
المصدر : https://www.majalla.com/node/322138/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9