د. مجدي محمد محمود آدم
الكاتب والمراقب الاقتصادي
مقدمة:
توقع الكثيرون منذ أكثر من مائة عام أن «العمل الخيري» سوف يتطور بتطور الفكر الاقتصادي، ومشارب وقناعات القائمين عليه ونياتهم، فمن مجرد التبرع بالمال إلى الانصهار في الفكر الرأسمالي، وتشكيل وضع استهلاكي معيّن، ليس فقط للفئات الفقيرة المستهدفة، وإنما في دول وأقاليم.
تواكب مع هذا التطور ظهور نظريات تدعمه وأخرى تنتقده، حتى ظهر لنا مصطلحٌ يصف هذه العلاقة، وهو «الرأسمالية الخيرية»، والتي يفسرها النقاد بطرح الأبيض الغربي نفسه كمنقذ لمعاناة الناس في دول العالم النامي. في حين كنّاها القائمون عليها والمؤمنون بها أمثال بيل جيتس بـ«الرأسمالية الخلاقة»، من خلال إدارة العمل الخيري بعقلية تجارية.
لقد أطلق بيل جيتس عدة برامج في دول إفريقيا جنوب الصحراء منذ عام 2006م، تقوم على رؤيته الخاصة للعمل الخيري، استهدفت عدة قطاعات كالزراعة والصحة والتكنولوجيا والتعليم، تراوحت الآراء بشأنها بين المنتقد والذي يراها نوعاً من الاستعمار الجديد، وبين من يراها إحدى آليات انتشال الفقراء في دول إفريقيا جنوب الصحراء من براثن الفقر والمرض والجهل.
في هذا البحث الوقوف على طبيعة تلك البرامج، والتعرف على النقد الموجه لها.
في القطاعات المستهدفة، من خلال عدد من المباحث وخاتمة، كما يأتي:
المبحث الأول: الرأسمالية الخيرية وروادها.. مؤسسة بيل جيتس نموذجاً.
المبحث الثاني: دورمؤسسة بيل جيتس وميليندا في الزراعة الإفريقية.
المبحث الثالث: برامج بيل جيتس في مجال الصحة في إفريقيا.
المبحث الرابع: دور بيل جيتس في التكنولوجيا والتعليم في إفريقيا.
خاتمة.
المبحث الأول: الرأسمالية الخيرية وروادها.. بيل جيتس نموذجاً:
كان بيل جيتس أول من وصف أسلوب عمل النشاط الخيري المدار بالطريقة التجارية في قالب نظري، وكأنه حاول تلطيف تطرف الليبراليين الجدد من خلال طرح رؤيته تلك التي أسماها «الرأسمالية الخلاقة»، والتي سوف نحاول الدخول في أروقتها من خلال:
المطلب الأول: الرأسمالية الخيرية.. تنظيراً ونقداً.
المطلب الثاني: مؤسسة بيل جيتس وميليندا نموذجاً.
المطلب الأول: الرأسمالية الخيرية.. تنظيراً ونقداً:
حيث نتناول نقطتين رئيسيتين: الرأسمالية الخيرية اصطلاحاً، والانتقادات الموجهة لها، من خلال:
أولاً: الرأسمالية الخيرية.. نظرياً.
ثانياً: الانتقادات الموجهة إلى الرأسمالية الخيرية.
أولاً: الرأسمالية الخيرية.. نظرياً:
نرى الكثير من الشخصيات البارزة من الشمال الغني يقدّمون حلولاً لمشكلات العالم، من الفقر والجوع والمرض، وهو ما أطلق عليه الكتّاب في الجنوب نظرياً «المنقذ الأبيض» white saviorism نقداً وتهكماً، وهذا المصطلح يقوم على فكرةٍ مفادها: أن الأثرياء البيض يمكن أن ينقذوا «المحرومين» في دول العالم الثالث. عندما يكون لدى المنقذين البيض ما يكفي من الثروة والنفوذ؛ فإن «حلولهم» يمكن أن تغيّر الأنظمة السياسية والاجتماعية بأكملها، في شكلٍ أشبه بالاستعمار ولكنه استعمارٌ جديد، لا تحتاج من خلاله الحكومات والشركات والأفراد في شمال العالم إلى اللجوء إلى العنف الصريح من أجل السيطرة على البلدان الأخرى، حيث يمكنهم استخدام العنف الهيكلي والاستفادة من المساعدات والوصول إلى الأسواق والتدخلات الخيرية من أجل إجبار البلدان منخفضة الدخل على فعل ما تريد. من أجل السيطرة على الأسواق؛ ينتهي الأمر إلى دخول تلك البلدان مصيدة الديون، ويصبح هذا الدين في النهاية أكثر أشكال النفوذ فتكاً، مما يمنحها مبرراً لمزيدٍ من التدخلات، ويسمح لها بتشكيل السياسة الاقتصادية والتجارية بالطريقة التي تراها مناسبة[1].
منذ سبعينيات القرن التاسع عشر؛ توقع البعض أن العمل الخيري سيشبه الاقتصاد الرأسمالي على نحوٍ متزايد، كما توقع «عدي كيمكا» Uday Khemka، المحسن الهندي الشاب ومدير شركة SUN Group الاستثمارية[2]، أو كما ذكرت »سوزان كاغل» Susan Cagle، في مجلة نيويورك تايمز في 29 مايو 2016م، أن «النخبة في التكنولوجيا، التي يُشاد بها، تؤثّر على وسائل الإعلام والسياسة والمجتمع ككل، بنوع من الأعمال الخيرية الاستثمارية، مثلما فعل أسلافهم الصناعيون منذ أكثر من 100 عام»[3].
بالنسبة إلى المحسنين في الماضي؛ كانت الأعمال الخيرية في كثيرٍ من الأحيان مجرد التبرع بالمال، وأما بالنسبة إلى الرأسماليين الخيريين، الجيل الجديد من المليارديرات، فإنهم يعيدون تشكيل الطريقة التي يقدّمون بها تلك التبرعات. هؤلاء «المستثمرون الاجتماعيون» يستخدمون العقلية التجارية، أمثال «بيل جيتس» و«جورج سوروس» و«أنجلينا جولي» و«أوبرا وينفري»، في مناخٍ مقاوم للإنفاق الحكومي على القضايا الاجتماعية[4].
وقد تزايدت في الآونة الأخيرة أعداد وأحجام المؤسسات الخيرية التي ترعاها مؤسسات رأسمالية كبرى، تدير الأعمال الخيرية بأسلوب المؤسسات الاستثمارية، سواء في شكل إقامة مشروعات ربحية تدرّ دخلاً على الفقراء، أو بمنطق وأسلوب الرأسمالية في أكثر صورها فجاجة، وهو ما دعا البعض إلى الكتابة لدعم أو نقد هذا الاتجاه، واصطك له من المصطلحات ما يناسبه، حيث أطلق عليه «ماثيو بيشوب»Matthew Bishop ، المحرر الاقتصادي في مجلة الإيكونوميست، مصطلح Philanthrocapitalism أو «الرأسمالية الخيرية»[5].
وتعني «الرأسمالية الخيرية»: «تطبيق المبادئ التي تحكم عمل المؤسسات الرأسمالية وآليات السوق على مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والتطوعية، بما يتضمن تسخير قوة آليات السوق والاستثمار وفق مبادئ الربح والخسارة، لتحقيق أهداف الحراك الاجتماعي»[6]، وهذا ما دفع «مايكل إدواردز» لتأليف كتابه (مجرد إمبراطور آخر: الحقائق والأساطير حول الرأسمالية الخيرية)، ويؤكد أن هذا المصطلح مرن، حيث يتشابه مع مفاهيم أخرى، مثل «الشراكة الاجتماعية» أو «العمل الخيري الاستثماري» أو «المشروعات الاجتماعية» أو «المسؤولية الاجتماعية المشتركة»، إلا أنه يتمايز عنها في ثلاثة عناصر أساسية: (الموارد، والوسائل، والإنجازات)، وبتفنيد هذه الادعاءات؛ يمكننا أن نرى بوضوح، من خلال التجارب، قدرة الاستثمارات الخيرية على توفير فرص متساوية للحصول على السلع والخدمات، إلا أنها في الوقت نفسه ضعيفة الأثر في تحقيق الحراك الاجتماعي؛ لأن التغيير المنهجي يجب أن يشمل أيضاً الحركات الاجتماعية والسياسية ودور الدولة، وهي كلها أمور تتجاهلها هذه التجارب[7].
ثانياً: الانتقادات الموجهة إلى الرأسمالية الخيرية:
إذا نظرنا على نطاق أضيق؛ نجد أن هناك مبادرات ناجحة عادت بالنفع على المجتمع، إلا أنها على الرغم من أهميتها لا تدلل على إمكان استمرار نجاحها، فمثلاً: أجُري مسح لـ25 من المشاريع المشتركة في الولايات المتحدة، وأظهرت النتائج أن 22 منها أظهرت انحرافاً عن رسالتها الاجتماعية الخيرية مقابل توسيع أنشطتها الربحية. في المقابل هناك العديد من الجمعيات الخيرية التي لم تطبق آليات السوق؛ قد نجحت في حفز الموظفين والمتطوعين للوصول إلى أعلى مستويات الأداء. ولكن ثمة مجموعة من الإشارات التي ربما تثير القلق بأن المجتمع المدني قد يتضرر من تلك الاتجاهات الرأسمالية، ومن بينها[8]:
- الدفع في اتجاه المنافسة والحوافز المادية كدوافع لعمل الخير؛ مقابل الحد من الدوافع الاجتماعية، فعلى سبيل المثال: دفع أجور للمتطوعين في المؤسسات الخيرية حوّل العمل التطوعي إلى وظيفة تجارية.
- فقدان استقلال المجتمع المدني من جراء اعتماده على الحكومة أو على أصحاب رؤوس الأموال.
- تغيّر العلاقة بين المواطنين والمؤسسات، حيث يحل تقديم المال عن بُعد بدلاً من المشاركة النشطة من قِبَل مقدّمي الإحسان في هذه المؤسسات.
ونتيجة لذلك؛ تراجع دور المجتمع المدني في عملية التحول الاجتماعي برغم تزايد مؤسساته، بعد أن أصبح أشبه بالكيانات الخاصة.
لا يعارض نقاد الرأسمالية الخيرية استخدام هذه الأموال من أجل الصالح الاجتماعي؛ بقدر ما يعارضون سلطات صنع السياسات على هوى النخبة العالمية الجديدة، وعلى الرغم من العديد من النيات الحسنة فإن الرأسمالية الخيرية متورطة في تناقضين؛ الأول: هو أنه كلما زاد عدم المساواة في العالم؛ استفادت تلك النخبة من الوضع الجديد الذي صنعته تجارياً أو تمجيداً، التناقض الثاني: أن الرأسمالية الخيرية في شكلها الحالي تسعى إلى تعميم نماذج التنمية في الشمال في جميع أنحاء العالم، من تطبيق سياسات «السوق الحرة» وإلغاء الإعانات الحكومية، ويمكن النظر أيضاً إلى عددٍ علماء الاجتماع الذين يتم توظيفهم في «الأعمال الخيرية الضخمة»، والأشخاص الأكثر طلباً هم المستشارون الإداريون ورجال الأعمال وقادة الصناعة السابقون[9].
وقد وصف «مايكل بايلين»، رئيس مؤسسة Edna McConnell Clark Foundation، وهي مؤسسة خيرية، وصفها بأنها: «استبدادية، وغير فعّالة، ومتعمدة، ونخبوية، ومنعزلة، ومتعجرفة». ويقول «جويل فليشمان»، الرئيس السابق لمنظمة Atlantic Philanthropies: إن «هناك مشكلات مزمنة في طريقة عمل المؤسسات الخيرية»، ومعظمهم يقدّمون القليل من المعلومات حول ما يفعلونه، ويتسمون بالسرية بشأن إخفاقاتهم. ويشير «روبرت مونكس»، أحد النشطاء المخضرمين من أجل حوكمة أفضل للشركات، إلى أنه: لا داعي للتنافس غير المبرر بين تلك المؤسسات في المكاتب الفخمة، والمؤتمرات الفاخرة، والأجور الضخمة لفاعلي الخير المحترفين. أما «ميليسا بيرمان»، من مؤسسة Rockefeller Philanthropy Advisors، فترى أن هناك تركيزاً كبيراً على تمويل البرامج الفردية، والقليل جداً على استدامة المنظمة غير الربحية التي تدير البرنامج[10].
تقوم تلك المؤسسات بتحفيز الاستهلاك أو خلق مستهلكين من العدم، كما فعل بيل جيتس، حيث وجد طريقاً لاستثمار الحد الأقصى من أمواله، بالتغلب على فشل السوق الذي أصاب المستهلكين الفقراء للرعاية الصحية، من خلال توزيع أمواله نيابةً عن الفقراء لتوليد إمدادات الأدوية والعلاجات التي يحتاجون إليها. يقوم فاعلو خير آخرون بتجربة نماذج جديدة لتوفير الرعاية الاجتماعية، والتي بمجرد أن تثبت نفسها يمكن أن تتبناها الحكومات وتتيحها على نطاق أوسع، حتى يتمكنوا من لعب دور المشغلين أو ممولين لتلك البرامج[11].
المطلب الثاني: مؤسسة بيل جيتس وميليندا نموذجاً BMGF: Bill and Melinda Gates Foundation :
بظهور الرأسمالية الخيرية؛ تطورت مصطلحات اقتصادية جديدة لتصف هذا الاتجاه المختلف في العمل الخيري، مثل «المضاربة الخيرية» Venture Philanthropy، حيث ينظر العاملون في هذا الشأن إلى أنفسهم كمستثمرين اجتماعيين وليس كمتبرعين تقليديين، وترى الرأسمالية الخيرية أنه إذا كان في الإمكان منح المال من أجل حلول لمشكلات البيئة والمجتمع، ونتج عن ذلك مردود مادي، فإنه من الممكن جذب الكثير من رؤوس الأموال بصورةٍ أسرع، مما يخلق أثراً «إيجابياً» «سريعاً» أكثر، ويُثبت صدق هذه النظرة؛ العدد المطرد من الأعمال التقليدية التي تتجه الآن إلى الاستثمار في العمل التطوعي في الغرب، ويرى جيتس أن هذه هي البداية لما يسميه «الرأسمالية الخلاقة» Creative Capitalism، وهو أول من طرحه في منتدى دافوس في 2 يناير 2008م، مصرّحاً؛ بأن «على الرأسمالية التي خدمت الأغنياء في زيادة ثرواتهم؛ أن تتحول الآن إلى خدمة الفقراء أيضاً»، ونادى بنظامٍ اقتصادي جديد قادر على جذب رجال الأعمال إلى العمل الخيري، لهذا النظام مهمتان هما: تحقيق الأرباح، وفي الوقت نفسه خدمة أولئك الذين لم يستفيدوا من قوى السوق. وهو نفس ما يراه الملياردير الهندي «عظيم بريمجي»، المسجل رقم 18 في قائمة أغنى أثرياء العالم لعام 2008م، وصاحب «مؤسسة عظيم الخيرية» التي تهتم بتعليم الفقراء. وفي عام 2007م انضم إليهم ثالث أغنى رجل في العالم، وهو المكسيكي «كارلوس سليم»، حتى نجمة التلفزيون المليارديرة الأمريكية «أوبرا وينفري» انضمت إلى رسملة العمل الخيري، وراحت تعمل كشريكة في مؤسسة بيل غيتس، فنجوم المجتمع هم جزء مكمل من الرأسمالية لمقدرتهم على التأثير في «سوق الجماهير، خصوصاً في المواضيع التي تتعلق بتحريك الرأي العام»[12].
قام رجال الأعمال «الاجتماعيون الجدد» بترشيد «القطاع الثالث»، هذا النوع من المنظمات الخيرية ممول من عمالقة الصناعة، خاصةً في الولايات المتحدة منذ أكثر من قرن، حيث ساعد ثراء جيل من المؤسسات الصناعية الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر في ظهوره، أو ما يُعرف بـ«الثلاثة الكبار»: (كارنيجي 1911م، روكفلر 1913م، وفورد 1936م)، هذه المؤسسات وصلت بسرعة إلى العالمية من خلال الاستثمار في مجالات (التعليم، وحفظ السلام، والطب)، وفي الوقت نفسه تمارس التهرب الضريبي، ونشر الإمبريالية الثقافية الأمريكية، ولها تأثيرها في السياسة الخارجية الأمريكية.
وقد تكوّن «الاجتماعيون الجدد» من طبقة أرستقراطية حديثة، وتتألف من رجال أعمال استفادوا من التقنيات الجديدة وتحرير الأسواق، ويُعتبر بيل جيتس Bill Gates وعائلة والتون Walton و إلِي برود Eli Broad, من أهم ممثليها، أمّا «وارن بافيت» فقد تعهد سنة 2006م بمنح الحصة الأكبر من ثروته، أي ما يقارب 30 مليار دولار، لمؤسسة جيتس، هذه الأموال الضخمة سمحت لجيتس بالاستثمار بكثرة في برنامج صحي موجّه إلى البلدان النامية[13].
في عام ٢٠٠٨م؛ أعلن جيتس أنه سيبتعد عن مايكروسوفت لتركيز جهوده في الأعمال الخيرية، ووصف نيته للعمل بالشراكة مع القطاع الخاص في تقديم منتجات وتقنيات السلع العامة، وهي نفس الطريقة التي وسّع بها برامج مايكروسوفت، بأسلوب عمل يتناوب بين «الرأسمالية الإبداعية» و«العمل الخيري المحفز»، مستفيداً من جميع «أدوات الرأسمالية» لربط ما يقدّمه «العمل الخيري» من وعود بقوة «المؤسسة الخاصة»، وكانت النتيجة نموذجاً جديداً للجمعيات الخيرية[14].
على الرغم من أن عائلة جيتس تخلّت عن عشرات مليارات الدولارات؛ فقد استمرت أصولها في النمو، وهو كثيراً ما يتباهى بدفع ضرائب أكثر من أي شخصٍ آخر، لكن مؤسسته لم تفصح علنياً عن نماذجها الضريبية أو تقدّم أي معلومات تثبت ذلك. بفضل التبرعات الخيرية، حسب تقديرات المؤسسة، فقد حققوا إعفاءً ضريبياً بنسبة ١١% على تبرعاتهم الخيرية البالغة ٣٦ مليار دولار حتى عام ٢٠١٨م، مما أدى إلى تجنب حوالي ٤ مليارات دولار من الضرائب، ولم تقدّم المؤسسة أي وثائق تتعلق بهذا الرقم. على الصعيد الآخر؛ أشارت تقديرات مستقلة من علماء الضرائب، مثل تقدير الأستاذ «راي مادوف» أستاذ القانون في جامعة بوسطن، أن أصحاب الملايين يحققون إعفاءً ضريبياً لا يقل عن ٤٠%- والتي بالنسبة لـ«بيل جيتس» ستبلغ ١٤ مليار دولار، ومنه أنتج وقف مؤسسة جيتس دخلاً أعلى في آخر خمس سنوات مقارنةً بصادرات المؤسسة، قُدّرت المنح الخيرية فيها بـ23,5 مليار، بينما بلغ دخل الاستثمار 28,5 مليار[15].
على الرغم من الانطباع بأن بيل جيتس «يتبرع» بثروته للأعمال الخيرية؛ فإن صافي ثروته المقدرة يتزايد باستمرار، فوفقاً لـ Forbes ارتفعت ثروة جيتس الشخصية من 56 مليار دولار في عام 2011م إلى 78,9 مليار دولار في عام 2015م، بزيادة قدرها 23 مليار دولار في أربع سنوات، وهو نفس المبلغ تقريباً من الأموال التي دفعتها مؤسسته منذ إنشائها، وفي يناير 2014م ذكرت صحيفة الغارديان أن زيادة بنسبة 40% في أسهم Microsoft عززت ثروة بيل جيتس بمقدار 15,8 مليار دولار في عام 2013م، وفي العام نفسه قدّمت المؤسسة منحاً بقيمة 3,6 مليار دولار[16].
وداخل سلك التعليم؛ هناك عدة اهتمامات تتداخل فيه مصالح جيتس، فما بين عامي ٢٠١١م و٢٠١٤م قدّمت مؤسسة غيتس ما يقرب من ١٠٠ مليون دولار إلى In Bloom، وهي مبادرة تكنولوجيا تعليمية أثارت الجدل حول قضايا الخصوصية، وجمعها للبيانات والمعلومات الشخصية حول الطلاب، أوضحت «ديان رافيتش»، أستاذة التعليم في جامعة نيويورك، أن تلك المبادرة تعمل على دعم التكنولوجيا في الفصول الدراسية لاستبدال المعلمين بأجهزة الكمبيوتر.
في مجال الصحة؛ يقول مدير منظمة Knowledge Ecology الدولية غير الربحية، «جيمس لاف»: «إن جيتس يستخدم أعماله الخيرية للتقدم بجدول أعمال مؤيدة لبراءات الاختراع بشأن الأدوية الصيدلانية، حتى في البلدان الفقيرة حقاً»، وأنه ينتمي إلى الجناح اليميني لحركة الصحة العامة، ويحاول دائماً دفع الأشياء في اتجاه مؤيد للشركات لا المرضى، حيث يمكن اعتبار المؤسسة، وأمنائها الثلاثة (بيل وميليندا جيتس، و وارن بافيت) أو شركاتهم، مستفيدين مالياً من الأنشطة الخيرية للمجموعة. تمتلك شركة بيركشير هاثاواي Berkshire Hathaway التابعة لبافيت استثمارات بمليارات الدولارات في الشركات التي ساعدتها المؤسسة على مَرّ السنين، بما في ذلك MasterCard وCoca-Cola، وأقام بيل غيتس لفترة طويلة في مجلس إدارة شركة Berkshire، وأعلن رحيله بعد أن امتلك هو ومؤسسته مليارات الدولارات من أسهمها. على ما يبدو أن عمل المؤسسة يتداخل أيضاً مع عمل Microsoft، الذي خصّص له جيتس في السنوات الأخيرة ثلث أسبوع عمله.
في الجانب الآخر؛ برنامج مؤسسة جيتس Gates Foundation، الذي بلغت تكلفته ٢٠٠ مليون دولار، والمخصص لتحسين المكتبات العامة، دخل في شراكة مع Microsoft التي ستتبرع ببرامجها للبرنامج، وقد أثارت تلك الشراكة انتقادات بأن التبرعات كانت تهدف إلى «تمهيد السوق» لمنتجات Microsoft و«تسهيل المبيعات المستقبلية».
وفي جانبٍ ثالث؛ تستثمر Microsoft الأموال في دراسة البعوض للمساعدة في التنبؤ بتفشي الأمراض بالعمل مع نفس الباحثين في المؤسسة، وفي الوقت نفسه يتضمن كلا المشروعين إنشاء روبوتات ومصائد متطورة لجمع وتحليل البعوض[17].
إن «صندوق الاستثمار الإستراتيجي» التابع لمؤسسة جيتس، والذي تقول إنه مصمم لتحقيق أهدافها الخيرية، وليس لتوليد دخل استثماري، تبلغ حصة أسهمه في شركة AgBiome الناشئة، التي يشمل مستثمروها الآخرون شركتي الكيماويات الزراعية Monsanto و Syngenta 7 ملايين دولار، كما منحت المؤسسة الشركة ٢٠ مليون دولار من المنح الخيرية لتطوير مبيدات الآفات للمزارعين الأفارقة، وبالمثل؛ فإن المؤسسة لديها حصة ٥٠ مليون دولار في شركة إنتارسياIntarcia ، واستثمار ٨ ملايين دولار في شركة جست بيوثيرابيوتيكس Just Biotherapeutics، والتي منحت لها ٢٥ مليون دولار و٣٢ مليون دولار من المنح الخيرية على التوالي، للعمل المتعلق بفيروس نقص المناعة البشرية والملاريا. وفي مرحلةٍ ما كانت المؤسسة تمتلك حصة بـ٤٨% في شركة تشخيص فيروس نقص المناعة البشرية Zyomyx، والتي منحت لها سابقاً ملايين الدولارات من المنح الخيرية، خلق العطاء الخيري الضخم لبيل جيتس: ٣٦ مليار دولار حتى ذلك الوقت [18].
تُعزّز إستراتيجية مؤسسة جيتس «للتنمية» السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وعولمة الشركات، ومن المحتمل أن يكون بيل جيتس، الذي يتمتع بإمكانية الوصول المنتظم إلى قادة العالم، ويموّل شخصياً مئات الجامعات والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام، هو الصوت الوحيد المؤثر في التنمية الدولية، بل إنه في الواقع أكبر من معظم الحكومات المانحة، توفر مؤسسته مساعدات للصحة العالمية أكثر من أي بلد مانح، وهو خامس أكبر مانح للزراعة في البلدان النامية، في عام 2013م أنفقت 11 دولة فقط على المساعدات أكثر مما أنفقته «مؤسسة بيل وميليندا»، مما جعلها تحتل المرتبة 12 بين أكبر الجهات المانحة في العالم، أصبحت مانحاً أكبر من دولٍ مثل بلجيكا وكندا والدنمارك وأيرلندا وإيطاليا[19].
المبحث الثاني: دور مؤسسة بيل جيتس وميليندا في الزراعة الإفريقية:
لقد دشن بيل جيتس تحالفاً من أجل مكافحة الجوع، واستخدام التكنولوجيا في الزراعة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، مأسوراً بعبقريته التكنولوجية، واضعاً نصب عينيه المبادئ النيوليبرالية، وجد تحالفه هذا مؤيدين ومعارضين، من خلال العرض التالي عرض البرنامج ونتائجه.
المطلب الأول: التحالف من أجل الثورة الخضراء في إفريقيا.
المطلب الثاني: نتائج التحالف من أجل الثورة الخضراء في إفريقيا.
المطلب الأول: التحالف من أجل الثورة الخضراء في إفريقيا AGRA: Alliance for a Green Revolution in Africa:
لحل أزمة الجوع في العالم؛ نصح بيل جيتس بعددٍ من الابتكارات في مجال التكنولوجيا الزراعية، أو بما يسميه «البذور السحرية»، وهي عبارة عن محاصيل مصممة للتكيف مع تغير المناخ ومقاومة الآفات، مؤكداً أن أزمة الجوع هائلة لدرجة أن المساعدات الغذائية لا يمكنها معالجتها بشكلٍ كامل، وأن المخرج يتمثل في الابتكارات في مجال التكنولوجيا الزراعية[20]، اتهمه النقاد بتبنّي رؤية هنري كيسنجر بأن «مَن يتحكم بإمدادات الغذاء؛ يتحكم بالعالم»[21].
في عام ٢٠٠٦م؛ قرّر بيل جيتس توسيع مشاريعه الخيرية لتشمل مكافحة المجاعة في إفريقيا، المشروع كان عبارة عن تخصيص 150 مليون دولار لمساعدة أكثر المزارعين فقراً في القارة، وذلك في إطار برنامج تحت اسم «التحالف من أجل الثورة الخضراء في إفريقيا»، والهدف منه أن يتم رفع إنتاجية الحبوب مثل القمح والذرة والأرز لمساعدة الفقراء[22].
واستجابةً لدعوات دول الجنوب العالمي، و170 منظمة من منظمات المجتمع المدني، أنشأ المجتمع الدولي «منتدى عبر الإنترنت حول البيولوجيا التركيبية» Online Forum on’ Synthetic Biology، لتقييم آثار تلك التقنيات الجديدة، والتي فتحت عدداً لا يحصى من الاحتمالات لتغيير أشكال الحياة، حيث تحظى ظاهرة تُسمّى «محركات الجينات» باهتمامٍ خاص، ونظراً لأن الضغوط التجارية يمكن أن تؤدي إلى تطبيقات متهورة لهذه التقنيات دون تقييم النتائج السلبية المحتملة بشكلٍ كافٍ، تشارك مؤسسة بيل جيتس في المنتدى، بل وأشار موقع Gates Foundation على الويب إلى أنه: في عام 2017م منحت المؤسسة 1,6 مليون دولار كأموال أولية «لزيادة الوعي وفهم وقبول تطبيقات محرك الجينات المحتملة لأغراض الصالح العام» لشركة إمرجينج إيج Emerging Ag Inc، وهي شركة علاقات عامة في مجال التجارة الزراعية والتكنولوجيا الحيوية، حيث كان جيتس دائماً مروجاً للهندسة الوراثية، مدعياً أن التكنولوجيا ضرورية لحل مشكلات العالم، تعتقد المؤسسة بأنه يجب أن يكون القطاع الخاص هو الذي يوجّه هذه التقنيات، وهذا ما تطبقه في برنامج التنمية الزراعية للمؤسسة في إفريقيا، فمن عام 2009م إلى عام 2011م أنفقت المؤسسة حوالى نصف مليار دولار على التنمية الزراعية الإفريقية، إضافةً إلى قيمة المنح منذ ذلك الحين، حتى إن نفقات المؤسسة المباشرة وغير المباشرة للتأثير على الزراعة الإفريقية حتى 2018م ربما وصلت إلى ملياري دولار[23].
يتمتع بيل جيتس بنظرة عالمية ملوّنة بتجاربه الشخصية، وهي أن التكنولوجيا العالية توفر الحلول المفضلة- إن لم تكن الوحيدة- للمشكلات الاجتماعية، ليس فقط فيما يتعلق بإيمانه بالهندسة الوراثية ولكن أيضاً في نظامٍ زراعي صناعي بالكامل، ولكن أيديولوجيته التكنوقراطية تتعارض مع ما توصل إليه التقييم الدولي للعلوم والتقنيات الزراعية لتحقيق التنمية عام 2009م الممول من البنك الدولي والأمم المتحدة، على المستويين الفلسفي والعملي، والذي خلص إلى أن التكنولوجيا الحيوية وحدها لن تحل الاحتياجات الغذائية لإفريقيا، واقترح أن أساليب «الزراعة الإيكولوجية»، وليس نماذج الزراعة الصناعية، توفر أكثر الوسائل جدوى وثباتاً وموثوقية لتعزيز الأمن الغذائي العالمي، ولا سيما في ضوء تغير المناخ، حتى يتجنب المزارعون تعطيل دورات الكربون والنيتروجين والمياه الطبيعية[24].
عزّز «أوليفييه دي شوتر» المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، تقييم البنك الدولي، كما خلص إلى أن «الزراعة الإيكولوجية» لديها إمكانيات أكبر كثيراً لمكافحة الجوع، ولا سيما خلال الأحوال الاقتصادية والأوقات المناخية المضطربة[25]، ومع ذلك؛ في فبراير 2012م أعلنت مؤسسة جيتس أنها ستمنح 200 مليون دولار للصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد)، وفي يوم الإعلان تمت دعوة بيل جيتس للتحدث في مجلس محافظي الصندوق، ناشد جيتس في خطابه الدول أن «تقدم العلوم والتكنولوجيا الزراعية للمزارعين الفقراء»، «حيث تكمن الخبرة الحقيقية في شركات القطاع الخاص»، كانت هذه إشارة إلى «الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية»[26]. وأثبتت الممارسات الزراعية البيئية باستمرار قدرتها على زيادة الإنتاجية بشكلٍ مستدام، وعلى العكس من ذلك؛ فإن المحاصيل الحالية المعدلة وراثياً، القائمة على الزراعة الصناعية، لم تزد بشكلٍ عام الغلات على المدى الطويل، على الرغم من زيادة تكاليف المدخلات[27]، ثم تكرر نشر هذه الاستنتاجات عام 2016م في صحيفة نيويورك تايمز[28].
وبتحليل المنح الخمس الأولى التي روّجت لها مؤسسة بيل جيتس بهذه الطريقة؛ وجدنا أن أياً منها لم يستوف المعايير المقبولة، مثلاً: روّجت المؤسسة لمنحة بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي لمنظمة كونسريفيشن إنترناشونال Conservation International في عام 2012م، وهي منظمة مختصة بالزراعة البيئية، كانت هذه المنحة مجرد برنامج لرصد ما كان يحدث على أرض الواقع في الزراعة الإفريقية، وكان البيان الصحفي للمؤسسة كما يأتي: «توفير الأدوات لضمان أن التنمية الزراعية لا تؤدي إلى تدهور النظم الطبيعية والخدمات التي تقدمها، وخاصة للمزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة، وسيلبي أيضاً حاجة ماسة غير ملباة لدمج قياسات الزراعة وخدمات النظام الإيكولوجي ورفاهية الإنسان، من خلال تجميع البيانات في لوحة معلومات متاحة عبر الإنترنت، يمكن لصانعي السياسات استخدامها وتخصيصها بحرية لاتخاذ القرار المناسب، سيتم عرض البيانات في ستة مؤشرات شاملة بسيطة، تنقل معلومات تشخيصية حول النظم الإيكولوجية الزراعية المعقدة، مثل: توافر المياه النظيفة، ومرونة إنتاج المحاصيل مع تقلب المناخ، أو مرونة خدمات النظم البيئية، وسبل العيش للتغيرات في النظام الزراعي»[29].
هذا في الواقع برنامج تكنوقراطي من أعلى إلى أسفل، ولا يمكن اعتباره برنامجاً إيكولوجياً زراعياً، على الرغم من أنه قد يكون نشاطاً مفيداً، فقد تم تمييزه بعلامة جذابة لتبييض طبيعته الحقيقية، ادعى مسؤول في «مؤسسة جيتس» أن هذه الأداة عالية التقنية ستكون لـ«صناع القرار»، ولكن هؤلاء المستخدمين سيكونون من النخبة الزراعية، وليسوا من المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة الذين ليس من المرجح أن يكون لديهم «لوحة تحكم مفتوحة الوصول عبر الإنترنت»، قالت «مريم ميت» من المركز الإفريقي للتنوع البيولوجي عن منحة «مؤسسة جيتس»، إن «المحاصيل المثبتة للنيتروجين المعدلة وراثياً ليست هي الحل لتحسين خصوبة التربة في إفريقيا، المزارعون الأفارقة هم آخر من يُسأل عن مثل هذه المشاريع، وغالباً ما يؤدي هذا إلى تطوير تقنيات خاطئة، والتي لا يستطيع العديد من المزارعين تحمل تكلفتها»[30].
في عام 2002م؛ صرّحت «لي إيمي سيمونز»، التي كانت آنذاك مساعدة مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أنه «في غضون أربع سنوات، سيتم زرع ما يكفي من المحاصيل المعدلة وراثياً في جنوب إفريقيا، بحيث تلوث حبوب اللقاح القارة بأكملها»، لا يمكن أن تتعايش التكنولوجيا الحيوية مع تقنيات الزراعة الإيكولوجية والمعارف التقليدية أو أصناف البذور. ومع ذلك؛ أصبحت «مؤسسة جيتس» الممول الرائد في العالم للبحث في التعديل الوراثي للمحاصيل، وفي الوقت نفسه تموّل المؤسسة والجهات المستفيدة من المنح منظمات المجتمع المدني في إفريقيا كمجموعات واجهة تدعم هذه الرؤية، وهو تكتيك يجعل الأمر يبدو كما لو أن هناك طلباً كبيراً على هذه التقنيات على أرض الواقع. وتضغط مؤسسة جيتس أيضاً على الحكومات لسنّ تشريعات وسياسات بما يتوافق مع ذلك (مثلاً في كينيا وأوغندا مؤخراً)، حيث تتطلب هذه البذور المعدلة وراثياً زيادات هائلة في استخدام المواد الكيميائية، وتعمل المؤسسة أيضاً على تعزيز استخدامها، وتشارك المؤسسة في خصخصة إنتاج البذور بالضغط على الدول الإفريقية لتمرير قوانين ملكية فكرية جديدة تقيد حفظ البذور وتداولها وتبادلها وبيعها، والانضمام إلى أنظمة ملكية فكرية دولية صارمة، ومن ثَمّ يتم تجريم الممارسات القديمة للمزارعين، وتحويل البذور بالكامل إلى سلع خاصة يتم شراؤها وبيعها، مما يعود بالنفع على الأعمال التجارية الزراعية الأمريكية والأوروبية[31].
من الجدير بالذكر؛ أن الرجل الذي وظفه جيتس للإشراف على البرنامج في إفريقيا هو «روبرت هورش» نائب رئيس شركة مونسانتو Monsanto السابق، تلك الشركة التي يستثمر بها بيل جيتس، وهي نفسها التي صنعت «العامل البرتقالي» قاتل الحشائش المشهور عالمياً، والمادة الكيميائية القاتلة والتي أضرت بالشعب الفيتنامي وما زالت آثارها باقية بعد أربعين عاماً، كان «هورش» شخصية رائدة في تطوير بذور Monsanto المعدلة وراثياً، والتي كانت مقاومة لمبيدات الأعشاب والمبيدات الحشرية، وتكسب الآن المليارات من العائدات، استخدمت تلك البذور في الغرب الأوسط بأمريكا، حيث يجد المزارعون حقولهم مليئة بحبوب ذرة لم يزرعوها، سيعمل «هورش» كمسؤول أول للبرنامج، وسيطبق تكنولوجيا الكائنات المعدلة وراثياً لتحسين غلة المحاصيل في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث أطلقت المؤسسة مؤخراً حملة بالتعاون مع مؤسسة روكفلر[32].
المطلب الثاني: نتائج التحالف من أجل الثورة الخضراء في إفريقيا:
«التحالف من أجل ثورة خضراء في إفريقيا» هو الطفل المدلل للمانحين الغربيين، فمن خلال استثمار الملايين يريد التحالف مساعدة المزارعين الصغار وتقويتهم، لكن يبدو أن النتيجة مخيّبة، في العادة يتحدث التحالف عن الأرقام التي تظهر بكثرة على صفحة الإنترنت التابعة له، الذي استفاد منه نحو 23 مليون مزارع صغير، واستثمر أكثر من 550 مليون يورو، وأسّس 119 شركة بذور، وموّل 700 بحث علمي، لكن أرقاماً أخرى تظهر في الأثناء على موقع[33] www.agra.org؛ فحتى 2020م كان التحالف يعتزم مضاعفة دخل 20 مليون مزارع صغير، وتخفيض نقص المواد الغذائية في 20 بلداً إفريقياً إلى النصف، وهو ما وعد به التحالف أثناء تأسيسه عام 2006م.
في المقابل؛ تقول خبيرة الزراعة الزامبية، «موتينتا نكيتاني»، التي شاركت في إعداد تحليل أصدرته عدة منظمات تنمية بالتعاون مع مؤسسة «روزا لوكسمبورغ» المقربة من حزب اليسار الألماني، في التحليل توجد أرقام تكشف جانباً ليس مشرقاً للتحالف؛ فعدد الناس الجوعى في البلدان الشريكة للتحالف الـ13 لم ينخفض، بل ارتفع بحوالي الربع، وإنتاجية الزراعة في ثمانية بلدان منذ بداية أنشطة التحالف تقدّمت ببطءٍ عما كانت عليه في السابق، وفي بلدَيْن تراجعت حسب التحليل.
والتحالف يدعم- حسب عرضه بالأساس- المزارعين الصغار، فحوالي 500 مليون يورو استثمرها التحالف من أجل ذلك، «المزارعون يحتاجون إلى مدخل للتقنية، والبذور الجيدة، والسماد الجيد» كما قالت رئيسة التحالف من أجل ثورة خضراء «أغنيس كاليباتا»، في مقابلة مع دويتشه فيله عام 2017م، واقترض مزارعون في زامبيا أموالاً لشراء السماد والبذور، وبما أن المحاصيل المرجوة لم تتحقق، لم يتمكنوا من دفع الديون المستحقة عليهم، وحتى حكومة زامبيا تتحمل عبئاً من الديون، إذ اشترت أيضاً بذوراً وسماداً بأسعار مرتفعة لتوزيعها على مزارعين صغار، وتصل الفواتير المستحقة إلى 106 مليون دولار، وفي بلدان إفريقية أخرى حالات مشابهة، في غالبية الحالات كان المستفيد الشركات الخاصة من منتجي البذور والسماد، وهي في الغالب شركات دولية، كما أن التربة حسب التحليل تتدهور أكثر بسبب الاستعمال المفرط للأسمدة، و«التحالف من أجل ثورة خضراء» يراهن على الزراعة ذات المحصول الواحد مثل الذرة؛ في حين أن النباتات المحلية تندثر[34].
الحقيقة؛ هي أن برنامج «الثورة الخضراء» في إفريقيا لم يحقق وعود الازدهار من خلال الزراعة التجارية كثيفة الاستخدام للموارد، وفقاً لبيانات عن «التحالف» التي جمعها معهد «تافتس العالمي للتنمية والبيئة»، حيث أشار تحليل لبيانات «التحالف» من قِبَل مجموعات المجتمع المدني الإفريقية والألمانية إلى أنه بعد 14 عاماً من الوجود، وأكثر من مليار دولار من الاستثمار، لا يوجد دليل على زيادة دخل صغار المنتجين، ولا يوجد تحسّن كبير في الإنتاجية في البلدان التي يخدمها البرنامج[35]، زاد الجوع بالفعل بنسبة 30% في البلدان التي يركز عليها برنامج AGRA؛ مما يعني أن ثلاثين مليون شخص يعانون منه أكثر مما كان عليه عندما بدأ. بحلول عام 2018م؛ زادت الغلات الزراعية في البلدان التي تم التركيز عليها بنسبة 18% فقط، وهي نفس نسبة الزيادة قبل البرنامج الذي كان يستهدف زيادةً بنسبة 100%، وانخفض إنتاج الحبوب بنسبة 21% منذ إطلاق البرنامج، وتم تسجيل انخفاض في غلة المحاصيل الجذرية والدرنات بنسبة 7%، مع انخفاض التنوع في حقول المزارعين والبذور المستخدمة، وهذا التطور بدوره يجعل الزراعة أكثر عرضة لعواقب أزمة المناخ[36]، ناهيك عن تحوّل المزارعين إلى عبيد على أرضهم بسبب معايير برنامج التحالف AGRA[37].
اعتمد برنامج «الثورة الخضراء» على زيادة المساحات المزروعة الأحادية، مما زاد من استخدام مبيدات الأعشاب والمبيدات الحشرية والأسمدة، وإدخال أنواع جديدة من المحاصيل عالية الإنتاجية، ضمن نظامٍ يحتاج إلى الكثير من الآلات والطاقة، والتي تحتاج إلى تكلفة تفوق قدرة المزارعين الصغار، كان الائتمان جزءاً أساسياً من «الثورة الخضراء» مما خلق ديوناً لا يمكن سدادها.. الأهم من ذلك؛ أن تلك الثورة الخضراء لم تقض على الجوع في إفريقيا.
كما أن شركات البذور الخاصة ستنتج وتبيع أصناف البذور «المحسنة» للمزارعين بدلاً من منحها، وأن ربع المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة فقط في إفريقيا يمكنهم الوصول إلى البذور الجيدة، والبذور الجيدة- في نظر ممولي وشركاء التحالف- هي بذور معدلة وراثياً، ويجب شراؤها كل عام، أما قوانين البذور التقليدية التي تسمح بالادخار والتبادل بين المزارعين فقد «عفا عليها الزمن» وفقاً لـ«التحالف»، مع تواصل الضغط من أجل تغييرات في قوانين البذور التي من شأنها حماية البذور الحاصلة على براءة اختراع، ففي غانا قدّم البرلمان الوطني الدعم الكامل لمشروع قانون مربي النباتات، والذي من شأنه أن يحد من توفير البذور وتبادلها بدفعٍ من التحالف ومجموعة الثماني والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والشركات الزراعية[38]. وكان الأرز أحد تلك المحاصيل، تم الترويج له كجزء من برنامج الغذاء للمستقبل التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وكان محصولاً رئيسياً في مشروع الزراعة التجارية التي أدت إلى تدهور صناعة الأرز في غانا[39].
المبحث الثالث: برامج بيل جيتس في مجال الصحة في إفريقيا:
لم يستخدم بيل جيتس هوسه بالتكنولوجيا في مجال الصحة، ولكنه تبنّى نهج خَلْق الطلب أو تحفيزه، وصناعة مستهلكين جدد في البلدان الإفريقية، من خلال أعماله الخيرية المقنّعة والمغلّفة بالفكر الرأسمالي، وهو ما سنتعرف عليه من خلال:
المطلب الأول: تدخلات بيل جيتس في مجال الصحة في إفريقيا.
المطلب الثاني: نتائج تدخل بيل جيتس في الصحة الإفريقية.
المطلب الأول: تدخلات بيل جيتس في مجال الصحة في إفريقيا:
أرسلت الباحثة وعالمة الاجتماع الكندية «أليسون كاتز»، التي قضت 18 عاماً في منظمة الصحة العالمية، رسالة لمديرة المنظمة عام 2007م، تشجب عبرها تحوُّل المنظمة إلى ضحية للعولمة الليبرالية الجديدة، محذرةً من أجندات المتبرعين، وقال الدكتور «ديفيد ليغ» الباحث في كلية الصحة العامة في جامعة ميلبورن: «إن تبرعات جيتس هي في الواقع آلية لفرض أجندته؛ ناهيك عن تشويهها لأولويات ميزانية منظمة الصحة العالمية»، وهو ما أشار له موقع «فورين أفيرز» Foreign Affairs من أن «أولويات جيتس باتت هي أولويات منظمة الصحة العالمية»، وهو ما حذّرت منه مديرة المنظمة السابقة «مارغريت تشان»، وأشار إليه موقع «بوليتكو»، أن جيتس بتبرعاته هو «بمثابة حصان طروادة لمصالح الشركات العالمية»[40].
ففي عام 2010م؛ خصّص جيتس 10 مليارات دولار لمنظمة الصحة العالمية [41] قائلاً: «يجب أن نجعل هذا عقداً من اللقاحات»، بعد شهرٍ قال جيتس في حديث تلفزيوني في TED Talk أن «اللقاحات الجديدة يمكن أن تقلل من عدد السكان ما بين 10 و15% في عام 2014م»[42].
كانت «الملاريا» و«نقص المناعة البشرية» هو تركيز المؤسسة في تطوير اللقاحات، في حين تؤكد الدراسات أن المواد الكيميائية المستخدمة في الخطة تعكس انخفاض معدلات المواليد، وأن مؤسسة روكفلر قد شاركت في ذلك[43].
يروّج جيتس لعمل مؤسسته مع شركات الأدوية؛ ففي عامي ٢٠١٣م و٢٠١٤م ألقى خطباً في معهدَي American Enterprise و Microsoft مفصحاً عن عدد الأرواح التي كانت أنقذتها مؤسسته بحوالي 10 ملايين، بالإضافة إلى 6 ملايين آخرين من خلال شراكات مع شركات الأدوية، المؤسسة تقوم بأكثر من مجرد الشراكة مع هذه الشركات: فهي تدعم تكاليف أبحاثها، وتفتح الأسواق لمنتجاتها، وتموّل أرباحها بطرق لم يتم فحصها بشكلٍ علني[44].
وفي عام 2015م؛ اعتلى بيل جيتس خشبة المسرح في فانكوفر ليلقي محاضرة، أصدر فيها تحذيراً شديداً، قائلاً للحضور: «لو تسبب شيء في مقتل عشرة ملايين شخص في العقود القليلة القادمة، فمن المرجح أن يكون ذلك فيروساً شديد العدوى وليس حرباً»، كان تفسير ذلك من قِبَل منتقدي جيتس؛ أن مؤسسته الخيرية اختبرت لقاحات على أطفال في إفريقيا والهند، مما أدى إلى آلاف الوفيات وإصابات لا علاج لها.
تتفوق مؤسسة بيل وميليندا جيتس على منظمة الصحة العالمية كل عام منذ تأسيسها في عام 2000م، وقد أنفقت أكثر من 6 مليارات دولار لإنقاذ ملايين الأشخاص من الإيدز والحصبة وشلل الأطفال والسل والملاريا، وعلى مدار الخمسة عشر عاماً، منذ ذلك التاريخ، استثمرت أكثر من 9 مليارات دولار في إفريقيا، وفي محاضرة، في جامعة بريتوريا، أعلن أن المؤسسة ستستثمر 5 مليارات دولار أخرى على مدى السنوات الخمس المقبلة، عندما يقول بيل جيتس إنه «يستثمر» في إفريقيا وفي الصحة العالمية؛ فإنه يعني أنه يتوقع عائداً[45].
يبدو أن هوس جيتس باللقاحات تغذيه قناعة إنقاذ العالم بالتكنولوجيا، واعداً بدفع المزيد لتنفيذ ذلك[46].
المطلب الثاني: نتائج تدخل بيل جيتس في الصحة الإفريقية:
أنفق جيتس مليار دولار على لقاح شلل الأطفال في الدول الإفريقية؛ ليتبين لاحقاً أنه يحتوي على فيروس يمكن أن يتكاثر في أمعاء الطفل ويسبب العدوى، وهو ما أثبتته دراسة قامت بها جامعة كاليفورنيا عام 2017م بإصابة عددٍ كبير من الأطفال بالشلل بسبب اللقاح[47].
وخلال حملة جيتس للقاحات 2002 Men Afri Vac، في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، قام موظفوه بتطعيم آلاف الأطفال الإفريقيين بالقوة ضد التهاب السحايا، أصيب حوالى 50 طفلاً من أصل 500 طفل بالشلل، ففي 20 ديسمبر 2012م ضربت مأساة تطعيم قرية «جورو» الصغيرة الواقعة شمال تشاد بإفريقيا، فوفقاً لصحيفة La Voix، من بين 500 طفل تلقوا لقاح التهاب السحايا الجديد؛ أصيب 40 منهم على الأقل- تتراوح أعمارهم بين 7 و18 عاماً- بالشلل، كما عانى هؤلاء الأطفال من الهلوسة والتشنجات[48].
وفي سياقٍ آخر؛ اشتكت صحف جنوب إفريقيا من اعتبار سكانها «خنازير غينيا» لصانعي الأدوية، حيث يصف البروفيسور «باتريك بوند»، كبير الاقتصاديين السابقين في رئاسة نيلسون مانديلا، الممارسات الخيرية لجيتس بأنها «لا ترحم، وغير أخلاقية»[49]، ففي عام 2010م موّلت مؤسسة جيتس تجربة المرحلة الثالثة من لقاح الملاريا التجريبي التابع لشركة GlaxoSmithKline Biologicals، فقتلت 151 رضيعاً إفريقياً، وتسببت في آثار ضارة خطيرة، بما في ذلك الإصابة بالشلل والنوبات والتشنجات الحموية التي أصابت 1048 طفلاً من بين 5949 طفلاً تناولوا اللقاح[50].
واتهمت جمعية الأطباء الكاثوليك في كينيا منظمة الصحة بتسبيب العقم لملايين النساء الكينيات غير الراغبات في حملة تطعيم ضد «الكزاز» كيميائياً[51]، كما وجدت مختبرات مستقلة صيغة العقم في كل لقاح تم اختباره، بعد إنكار الاتهامات اعترفت منظمة الصحة العالمية أخيراً بأنها تطور لقاحات العقم لأكثر من عقد من الزمان. اتهامات مماثلة جاءت من تنزانيا ونيكاراغوا والمكسيك والفلبين[52]. وأظهرت دراسة أجريت عام 2017 أن لقاح DTP للدفتيريا والكزاز والسعال الديكي الشهير لمنظمة الصحة العالمية يقتل أطفالاً أفارقة أكثر من الأمراض التي يمنعها، وعانت الفتيات الملقحات بهذا اللقاح معدل وفيات عشرة أضعاف من وفيات الأطفال الذين لم يتلقوا اللقاح بعد، وقد رفضت منظمة الصحة العالمية القيام بسحب اللقاح المميت الذي تفرضه على عشرات الملايين من الأطفال الأفارقة سنوياً[53].
وفي تقرير أصدرته مؤسسة بيل جيتس، والذي جاء فيه أيضاً أن الاتجاهات الديموغرافية تظهر أن مليار شخص قد انتشلوا من الفقر في العشرين سنة الماضية، لكن التوسع السريع في عدد السكان، لا سيما في أجزاء من إفريقيا، يمكن أن يوقف تلك النجاحات، بل وقد يبدأ معدل الفقر في الارتفاع، وهي النتيجة نفسها التي خلص إليها تقرير «النمو السكاني في إفريقيا يمثل تحدياً»، وهي أن الفقر في إفريقيا يتركز بشكلٍ متزايد في البلدان التي لديها معدلات نمو سكاني مرتفعة، وبحلول عام 2050م يُتوقع أن يعيش أكثر من 40% من سكان العالم الأشد فقراً في بلدَيْن فقط، هما جمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا، ولمعالجة ذلك يقول: «إن تحسين الوصول إلى وسائل منع الحمل يُعدّ أمراً أساسياً، وينبغي أن يقترن ذلك بالاستثمار في صحة الشباب وتعليمهم، وأهم الأشياء هي أدوات منع الحمل الحديثة»، مضيفاً أنه: «إذا كانت لديك هذه الأشياء المتاحة؛ فسيكون لدى الناس سيطرة أكبر على الإنجاب»، داعياً صانعي السياسات إلى «تمكين المرأة من ممارسة حقها في اختيار عدد الأطفال»[54].
يعتقد جيتس أن «وسائل منع الحمل» يجب أن تكون موجودة في كل مكان، إن لم تكن إلزامية، في عام 1997م، بدأ جيتس وزوجته في دفع المال نحو أشكال مختلفة من تحديد النسل، ولا تعني وسائل منع الحمل التي يمولها جيتس عدداً أقل من الأطفال فحسب، بل تؤدي أيضاً إلى مخاطر ووفيات أخرى، على سبيل المثال: موّل جيتس ووزع دواء منع الحمل ديبو بروفيرا Depo Provera، وهو حقنة لمنع الحمل تؤخذ كل ثلاثة أشهر، خاصةً على نساء العالم الثالث، وفي بعض الأحيان اقترن توزيعه بالحث على الإجهاض، وقد اتهم الخبراء هذا الدواء بالتسبب أو على الأقل المساهمة في: سرطان عنق الرحم وسرطان الثدي ومرض السكّري وهشاشة العظام والسكتة الدماغية والنوبات القلبية والعقم والإجهاض، كما أدى إلى انتشار فيروس نقص المناعة البشرية الإيدز والكلاميديا وغيرها من الأمراض المميتة والمزمنة. وقد أنفقت مؤسسة جيتس 2,6 مليار دولار على شراء هذا الدواء والتبرع به لـ100 مليون امرأة إفريقية[55]، وجنت شركة فايزر من عائداته أكثر من 30 مليار دولار بغضّ النظر عن أعراضه الجانبية. ومثله دواء (حقنة) منع الحمل سايانا بريس Sayana Press، الذي تنتجه أيضاً شركة فايزر، حيث مورست الضغوط على وزير الصحة في السنغال- بحسب موقع غراي زون- لتعديل قوانين الصحة في بلاده لتوزيعه، وتبيّن أنه لا يجوز تعاطيه لنساء مصابات بأمراض الروماتيزم، وهذا ما حدث في أوغندا، ناهيك عن تسبّبه بهشاشة العظام وأمراض أخرى[56].
اتُّهِمَ جيتس، في نهاية القرن الماضي، بتمهيد السوق لمبيعات شركته «ميكروسوف»، وقادته أحلامه التكنولوجية إلى موقع باتَ فيه عُرضةً لكثيرٍ من الاتهامات، من المساعدة في التجسس على الأشخاص من خلال أنظمة تتبّع، وصناعة مجتمع مستهلِك، وغيرها، فضلاً عن اتهامه بنشر مناهج تعليم لا تأخذ في الاعتبار طبيعة المجتمعات وخصوصياتها، وهو ما سنتعرف عليه من خلال:
المطلب الأول: بيل جيتس والتكنولوجيا في إفريقيا.
المطلب الثاني: دور بيل جيتس في التعليم في إفريقيا.
المطلب الأول: بيل جيتس والتكنولوجيا في إفريقيا:
سلطت «لينسي ماكجوي»، أستاذة علم الاجتماع في جامعة إسكس ومؤلفة كتاب (لا وجود للهدية المجانية)، الضوء في أبحاثها على المنح الخيرية التي قدّمتها مؤسسة جيتس للشركات الخاصة، ففي عام ٢٠١٤م تبرعت المؤسسة بمبلغ ١٩ مليون دولار لشركة تابعة لـMasterCard ، وكان الهدف منها «زيادة استخدام المنتجات المالية الرقمية من قِبَل البالغين الفقراء في كينيا»، فقالت: «لقد أوضح عملاق بطاقات الائتمان بالفعل اهتمامه التجاري الشديد في تنمية عملاء جدد من سكان العالم النامي، البالغ عددهم 2,5 مليار شخص، فلماذا يحتاج إلى محسن ثري لدعم عمله؟! ولماذا يحصل بيل وميليندا جيتس على خصم ضريبي على هذا التبرع؟!»، تبدو هذه الأسئلة ذات أهمية، وخاصةً أن التبرع لـ MasterCard ربما يكون قد أعطى فوائد مالية لمؤسسة جيتس في ذلك الوقت، ففي نوفمبر ٢٠١٤م كان لدى المؤسسة استثمارات مالية كبيرة في MasterCard من خلال حيازتها في شركتَي Warren Buffett الاستثمارية و Berkshire Hathaway، الجدير بالذكر؛ أن شركة Warren Buffett نفسها تعهدت بمبلغ ٣٠ مليار دولار لمؤسسة جيتس.
كما وجدت الصحيفة ما يقرب من ٢٥٠ مليون دولار من المنح الخيرية لمؤسسة جيتس موجهةً إلى الشركات التي تمتلك فيها المؤسسة أسهماً وسندات، مثل شركة Merck و Novartis و GlaxoSmithKline و Vodafone و Sanofi و Ericsson و LG و Medtronic و Teva، والعديد من الشركات الناشئة، تحت مظلة منح وجِّهت لمشاريع مثل تطوير أدوية جديدة وأنظمة مراقبة صحية وإنشاء خدمات مصرفية متنقلة[57].
وأخيراً؛ دشن البنك الإفريقي للتنمية «مرفق الشمول المالي الرقمي لإفريقيا»، الذي يهدف للمساعدة في تعزيز وضمان سلامة المعاملات المالية الرقمية والإلكترونية في القارة، ويهدف هذا المرفق، الذي يحظى بدعم من مؤسسة بيل وميليندا جيتس والوكالة الفرنسية للتنمية وحكومة لوكسمبورج كمساهمين رئيسيين فيه، إلى ضمان حصول ما لا يقل عن 320 مليون إفريقي، بينهم نحو 60% من النساء، على الخدمات المالية الرقمية والإلكترونية، وسيقدّم هذا المرفق 100 مليون دولار في شكل منح، و300 مليون دولار في شكل قروض من البنك الإفريقي للتنمية، حتى حلول عام 2030م، وذلك بهدف توسيع نطاق الخدمات المالية الإلكترونية للمجتمعات ذات الدخل المنخفض.
وشهدت إفريقيا نمواً سريعاً في حيازة الهواتف المحمولة في النصف الأول من هذا العقد، مما أدى إلى طفرة في استخدام الأدوات والخدمات الرقمية المبتكرة في جميع أنحاء القارة، ولكن مع ذلك لم يستفد الجميع في القارة من فوائد الخدمات المالية الرقمية، حيث تشير التقديرات إلى أن 43% فقط من البالغين في جميع أنحاء إفريقيا لديهم حساب مصرفي.
وأكد «مايكل ويجاند»، مدير الخدمات المالية لبرنامج الفقراء بمؤسسة بيل وميليندا جيتس، أن الإدماج والشمول المالي، الذي تحقق من خلال نماذج الخدمات المالية الرقمية، يمثل في الوقت نفسه إستراتيجية قوية لمكافحة الفقر ومحفز للتنمية الاقتصادية المستدامة للاقتصادات الوطنية والإقليمية، مشيراً إلى أن المشروع الافتتاحي لمرفق الشمول المالي الرقمي؛ سيكون بمثابة منحة بقيمة 11,3 مليون دولار من مؤسسة بيل وميليندا جيتس إلى البنك الإفريقي للتنمية والبنك المركزي لدول غرب إفريقيا، وستنشئ المنحة نظاماً للدفع الرقمي قابل للتشغيل المتبادل، يتيح للأفراد في القارة إرسال واستلام الأموال بين محافظ الهواتف المحمولة، ومن هذه المحافظ إلى حسابات رقمية ومصرفية أخرى[58].
المطلب الثاني: دور بيل جيتس في التعليم في إفريقيا:
يرسل الآلاف من الآباء الأفارقة أبناءهم إلى مدارس تديرها أكاديمية «بريدج»Bridge academies، ويدعم الأكاديمية العديد من رواد الأعمال الأمريكيين، من بينهم بيل جيتس، مارك زوكربيرج، تنتشر الأكاديمية على مستوى العالم، حيث التحق بها ما يصل إلى 100 ألف طالب في الحضانات والمدارس الابتدائية البالغ عددها 520، موزعة في بلدان مثل كينيا وأوغندا ونيجيريا والهند، برسوم أقل من 6 دولارات شهرياً، ويتمثل الهدف الأساسي منها في توفير تعليم أفضل من التعليم الحكومي. ومنذ انطلاقها أنشأت أكثر من 400 مدرسة في كينيا وحدها، يدرس فيها حوالى 126 ألف تلميذ وتلميذة، وتستهدف أن يلتحق بفروعها 10 ملايين طفل في عام 2025 في 12 بلداً بالقارة السمراء. وحاول المنتقدون إضعاف هذه المبادرة العالمية، ولكنهم باؤوا بالفشل، على الرغم من ارتفاع الرسوم الدراسية من 6 دولارات إلى 20 دولاراً شهرياً، ومع ذلك يستمر الآباء في تسجيل أبنائهم بالأكاديمية، حيث يرون أن ما تقدّمه من برامج أفضل مما تقدّمه المدارس الحكومية[59]،
افتتحت بريدج أول مدرسة لها في حيّ فقير في نيروبي، عاصمة كينيا، في عام 2009م، واستهدفت أطفال الأسر التي يقل دخلها عن 2,50 دولار في اليوم، لكن الأكاديمية أصبحت مثاراً للجدل مقارنةً بمنافسها مثل مدارس Omega في غانا، حيث يتم تطوير مناهجها في الولايات المتحدة وفرضها على التلاميذ بما لا يتناسب مع خصائص مجتمعاتهم، وتسببت سرعة توسعها في إثارة القلق في أوغندا وأماكن أخرى.
ويتهم النقاد مدارس بريدج بتقديم تعليم متدنّي الجودة، واستغلال الفقراء من أجل الربح، كما أنها تسهّل انسحاب الحكومات في البلدان الإفريقية من مسؤوليتها في توفير التعليم المجاني للجميع[60].
وأخيراً؛ أوضح الدكتور «بنيامين بايبر»- مدير القطاع العالمي للتعليم في مؤسسة بيل وميليندا جيتس- بقوله: «أود أن يترك هذا التقرير في نفوس قرائه أثرَيْن على الأقل، الأول حزن عميق لضخامة أزمة التعلّم، فبيانات فقر التعلّم تُبرز التفاوت الصادم الذي لا يزال قائماً في نواتج التعلّم، إذ إن 87% من الأطفال في إفريقيا لا يقدرون على قراءة نص بسيط وفهمه قبل تفشي كوفيد-19، ولكن نماذج المحاكاة الجديدة تشير إلى أن هذه النسبة زادت إلى 89%. والثاني: هو أن لدينا حلولاً يمكن أن تُؤثِّر على نطاق واسع وفي الأنظمة الحكومية، والبداية هي الالتزام ببرامج كبيرة للتعويض عن فقدان التعلّم، ولكن المهم هو مكونات تلك البرامج: قياس نواتج التعلّم، وأيضاً الاستثمار في تحسين التدريس، من خلال تنظيم وتهيئة الأساليب التربوية أو أساليب التدريس، من خلال أنشطة مناسبة، مع زيادة الوقت المخصّص للتدريس، والبلدان التي تفعل هذا ستُتاح لها فرصة حقيقية لا للتعويض عن فقدان التعلّم بسبب جائحة كورونا فحسب؛ وإنما أيضاً لتحقيق تقدّم ملموس نحو الحد من فقر التعلّم في 2030م»[61].
خاتمة:
حاول جيتس تحفيز الطلب الكلي في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، من خلال توزيع أمواله على المزارعين الفقراء، والمحتاجين للرعاية الصحية، والراغبين في التعليم، وغيرها من المجالات، وإعادة جمعها مرّةً أخرى، بالإضافة إلى هامش ربح معتبر وإعفاءات ضريبة، وذلك بعد فرض نمط استهلاك وثقافة معينَيْن، لتصبح تلك المجتمعات بعد فترة وجيزة مجتمعات مستهلِكة لمنتجاته، بعد التخلص تماماً من دور الدولة في تلك الأنشطة.
وبالنسبة لبرامجه في دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ فلم يحقق تحالفه من أجل ثورة خضراء نتائج ملموسة في مجال الزراعة، بل أضر بالتربة، وحاول احتكار البذور الزراعية ببرنامجه المهتم بالهندسة الوراثية، بل زاد دَين المزارعين الصغار، واختفت البذور المحلية الجيدة، بل وأرسى نظاماً لاحتكار تلك البذور المعدلة وراثياً، بمساعدة النخب المحلية.
أما في مجال الصحة؛ فقد أودت لقاحاته وتطعيماته بحياة الكثير من الأفارقة، بل خلقت أمراضاً، حيث كانت إفريقيا بالنسبة إليه حقلاً لتجارب اللقاحات والأدوية، ومكاناً لتحقيق حلم تخفيض سكان العالم.
وفي حال تحول الكثير من الأفارقة إلى نمطٍ معيّن من الاستهلاك- كما ذكرنا أعلاه؛ فسيتحولون إلى مستدينين في مجال الائتمان وشراكاته في عملية الشمول المالي بالقارة.
ليتبقى له في نهاية المطاف السيطرة على عقول ملايين من الأطفال الأفارقة، بدخوله العملية التعليمية، وفرض المناهج التي تم التوقيع عليها داخل أروقة الأمم المتحدة أكثر الداعمين لعالم متحرّر بلا دين أو تقليد.
لتحميل الملف بصيغة pdf
الرأسمالية الخيرية في إفريقيا ـ مؤسسة بيل جيتس نموذجاً
[1] A Growing Culture and the Community Alliance for Global Justice. Bill Gates and the Epidemic of White Saviorism. Available at:
https://agrowingculture.medium.com/bill-gates-and-the-epidemic-of-white-saviorism-61d145a088f3
[2] economist ,The birth of philanthrocapitalism The leading new philanthropists see themselves as social investors. Feb 25th 2006. at:
https://www.economist.com/special-report/2006/02/25/the-birth-of-philanthrocapitalism
[3] Philanthrocapitalism: The Gates Foundation’s African Programs are not Charity Phil Bereano, Prof. em., Community Alliance for Global Justice AGRA Watch Project, USA Conference Taking Stock 20 Years of GM Crops, 40 Year of Genetic .
Engineering. 2 December, 2016, Mexico City. at:
https://ensser.org/wp-content/uploads/2017/09/Mex16.Bereano_Mexico_talks__Final.pdf.
[4] Matthew Bishop, Michael Green, Philanthrocapitalism: How the Rich Can Save the World, September 30, 2008. at:
https://www.amazon.com/Philanthrocapitalism-How-Rich-Save-World/dp/1596913746
[5] د. أمل خيري، الرأسمالية.. حين تحاول أن تكون خيرية. يوليو 2019، متاح على الرابط:
https://dramalkhairy.wixsite.com/dr-amal/post
[6] المرجع السابق.
[7] د. أمل خيري. م.س.ذ.
[8] المرجع السابق.
[9] Kavita Ramdas ,Philanthrocapitalism Is Not Social Change Philanthropy.at:
https://ssir.org/articles/entry/philanthrocapitalism_is_not_social_change_philanthropy
[10] Economist ,Op. cit.
[11] Idem.
[12] السفير نعيم محمد قداح، الوقف الاستثماري لحماية البيئة، متاح على الرابط:
http: //env-pro.org/activities/article2.htm
[13] https://www.chaos-international.org.
[14] Tim Schwab, Op. cit.
[15] Idem.
[16] Philip Bereano, Op. cit.
[17] Tim Schwab, Op. cit.
[18] Tim Schwab, Op. cit.
[19] Philip Bereano, Op .cit.
[20] https://arabic.rt.com/technology/1390311
[21] https://tipyan.com/bill-gates
[22] https://masr360.net
[23] Philip Bereano, Op. cit.
[24] International Assessment of Agricultural Knowledge, Science and Technology for Development (2009 Agriculture at a Crossroads, Global Report).
[25] http: //www.srfood.org/en/report-agroecology-and-the-right-to-food
[26] http: //www.ucsusa.org/food_and_agriculture/our-failing-food-system/genetic-engineering/failure-to-yield.html
[27] http: //www.ucsusa.org/food_and_agriculture/our-failing-food-system/genetic-engineering/failure-to-yield.html
[28] Danny Hakim, Doubts about the promised bounty of genetically modified crops’, New York Times, 29 October, 2016, at:
http://www.nytimes.com/2016/10/30/business/gmo-promise-falls-short.html?_r=0
[29] http://www.conservation.org/newsroom/pressreleases/Pages/Global_Tool_to_Gauge_Earths_and_Humanitys_Vital_Signs_Launches_n_Africa.aspx
[30] Philip Bereano, Op. cit.
[31] Philip Bereano, Op. cit.
[32] Clairmont Chung, Another missionary in Africa: the Bill Gates myth
https://www.pambazuka.org/governance/another-missionary-africa-bill-gates-myth
[33] https://agra.org/
[34] https://www.dw.com
[35] Million Belay, Bill Gates Should Stop Telling Africans What Kind of Agriculture Africans Need. July 6, 2021, at:
https://www.scientificamerican.com/article/bill-gates-should-stop-telling-africans-what-kind-of-agriculture-africans-need1/
[36] https://dianeravitch.net/2021/01/04/the-gates-foundations-not-green-revolution-in-africa
[37] https://tipyan.com/bill-gates
[38] JIM GOODMAN, The Re-Colonization of Africa, at: https://www.commondreams.org/views/2015/02/06/re-colonization-africa
[39] Jacqueline A. Ignatova, Contesting Africa’s New Green Revolution, Biotechnology and Philanthrocapitalist Development in Ghana.2021, at: https://www.bloomsburycollections.com/book/contesting-africas-new-green-revolution-biotechnology-and-philanthrocapitalist-development-in-ghana/preface
[40] https://tipyan.com/bill-gates
[41] https://www.gatesfoundation.org/Ideas/Media-Center/Press-Releases/2010/01/Bill-and-Melinda-Gates-Pledge-$10-Billion-in-Call-for-Decade-of-Vaccines
[42] https://www.youtube.com/watch?v=JaF-fq2Zn7I
[43] Clairmont Chung, Op. cit.
[44] Tim Schwab, Op. cit.
[45] https://telljp.com/why-bill-gates-is-investing-another-5-billion-in-africa-and-africans/
[46] Robert F. Kennedy Jr. Gates’ Globalist Vaccine Agenda: A Win-Win for Pharma and Mandatory Vaccination,2020, at:
[47] https://tipyan.com/bill-gates
[48] Christina England, Minimum of 40 Children Paralyzed After New Meningitis Vaccine, 2013, at: http://www.laleva.org/eng/2013/01/minimum_of_40_children_paralyzed_after_new_meningitis_vaccine.html
[49] Robert F. Kennedy Jr, Op .cit.
[50] https://www.nejm.org/doi/full/10.1056/nejmoa1102287
[51] John W. Oller Jr. and HCG Found in WHO Tetanus Vaccine in Kenya Raises Concern in the Developing World” Open Access Library Journal (Louisiana: University of Louisiana, Volume 4, 2017, pp.9-21.
[52] Robert F. Kennedy Jr.Op. cit.
[53] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5360569/
[54] https://arabic.euronews.com/2018/09/18/increased-population-rates-in-africa-and-international-organizations-warn-of-the-risks
[55] https://www.corvelva.it/ar/approfondimenti/sistema-sanita/bill-gates/bill-gates-filantropo-o-mascalzone.html
[56] https://tipyan.com/bill-gates
[57] Tim Schwab, Op. cit.
[58] https://www.findevgateway.org/ar/news/albnk-alafryqy-lltnmyt-ydshn-mrfqa-ltzyz-aldmj-walshmwl-almaly-alrqmy
[59] https://www.ft.com/content/4fe56654-b162-11e6-a37c-f4a01f1b0fa1
[60] John Aglionby, Uganda schools crackdown targets low-cost Bridge academies, at: https://www.ft.com/content/4fe56654-b162-11e6-a37c-f4a01f1b0fa1
[61] البنك الدولي، 70% من الأطفال في عمر 10 سنوات يعانون الآن فقر التعلم، ولا يستطيعون قراءة نص بسيط وفهمه- بيان صحفي، متاح على:
https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2022/06/23/70-of-10-year-olds-now-in-learning-poverty-unable-to-read-and-understand-a-simple-text
.
رابط المصدر: