الرئيس القادم والخليج… قراءة هادئة في الانتخابات الأميركية

زهير الحارثي

 

لا يشغل العالم اليوم سوى معرفة الرئيس القادم للولايات المتحدة في 3 نوفمبر (تشرين الثاني)، أي بعد 3 أيام، ما لم تطرأ مفاجآت، بدليل المتابعة الإعلامية الضخمة التي تحظى بها الانتخابات الأميركية، التي حمي وطيسها، وأصبح الجميع يترقب مَن يصل إلى البيت الأبيض؛ الرئيس الحالي دونالد ترمب أم السياسي المخضرم جون بايدن. الاهتمام العالمي الكبير بها وبنتائجها ومعرفة هوية زعيم البيت الأبيض أمر طبيعي ومتصور، فهو حدث غير عادي ومحل اهتمام سكان الأرض، إذا ما علمنا أهمية موقعية هذا المنصب وتأثيره على القضايا العالمية والملفات الساخنة. أميركا بلد الأحلام والفرص والحريات والعجائب والديمقراطية، تبقى رغم كل شيء دولة قانون ومؤسسات مهما ظهرت فيها بين حين وآخر ثغرات وعيوب أو أحداث أو خلافات أو مؤشرات انفلات أمني أو عنف، كونها تكرس دائماً قاعدة «لا يصح إلا الصحيح». البعض يراهن على تغيير الرؤساء الأميركيين، وربط هذا التغيير باحتمالية تأثيره على قضايا منطقتنا، منطلقين من تحليل مضامين خطب المرشح الفائز وتصريحاته لمعرفة آرائه ومواقفه وسياساته المستقبلية، وفي هذا كثير من الصحة، إنما الأكثر صحة هو وجود تصورات وقناعات لدى البعض، فيها شيء من المبالغة ورفع سقف التوقعات من هذا الرئيس أو ذاك.

ليس سراً أن خطب وتصريحات المرشحين وقت الانتخابات إنما تُصاغ لأهداف انتخابية بحتة، أما السياسات التي ترسم عند تولي السلطة فترسمها موازين قوى وجهات مؤسسية، تتحدد وفقاً للمصالح العليا للبلاد عبر الاستماع لنصائح الخبراء والمستشارين، وبالتالي الأمر يختلف كلية عن منطق وأساليب الحملة الانتخابية. ورغم تفوق هذا المرشح أو ذاك في المناظرة التلفزيونية أو حتى في نتائج الاستطلاعات فإنه من الصعوبة الجزم بمعرفة أي منهما سيفوز إلى حين ساعة الحسم ومعرفة نتيجة آخر ولاية.

تداول السلطة في أميركا لا يعني بالضرورة أن تطرأ تغييرات دراماتيكية أو جذرية على السياسة الخارجية. قد تتغير الوجوه والمقاعد، لكن تبقى استراتيجية ومحددات السياسة الخارجية من الركائز التي لا تُمس ولا تتأثر بتفوق حزب أو فوز مرشح، فالمسألة هي اختلاف على الوسائل والآليات والتكتيك وترتيب الأولويات ليس إلا، بينما تبقى نظرة الحزبين للملفات الخارجية مرتبطة بحماية المصالح الحيوية لأميركا، ولا نقلل بطبيعة الحال من تأثير الرئيس حينما يُسلط الأضواء على هذا الملف أو ذاك أو يُعطي زخماً لهذه القضية أو تلك.

تاريخياً ونظرياً نعرف أن الديمقراطيين ينزعون إلى المثالية في تحقيق الأهداف، أي احترام الشرعية ومبادئ القانون الدولي، وحل الصراعات بالطرق السلمية وعدم تشجيع التسلح والاهتمام بقضايا البيئة والمناخ وحقوق الإنسان، بينما نلحظ أن الحزب الجمهوري يرتكز على الواقعية السياسية من أجل حفظ المصالح الوطنية، باستخدام الوسائل كافة لتحقيق الغاية، ويؤمن بالقوة العسكرية لحماية مصالحه الحيوية ويهتم بصناعة النفط. هذه المعادلة لم تعد كما هي منذ وصول الرئيس أوباما للبيت الأبيض. أحدث أول رئيس أسود في تاريخ أميركا آنذاك انقلاباً جذرياً في تلك المفاهيم وانطلق ضمن منحى جديد اتسق مع قناعاته وأفكاره، ما شكل حالة من الارتباك غير معهودة في تاريخ علاقات الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. ذكرنا حال الولايات المتحدة وقتها ببريطانيا الأمس عندما فقدت إمبراطوريتها وتلاشت هيمنتها بعدما كانت ملء السمع والبصر. كانت مرحلة عصيبة توارى فيها نفوذ واشنطن عن الساحة وتراجع بشكل مريع في منطقتنا. غادر أوباما البيت الأبيض، والخشية الآن أن تعود إليه الأوبامية مع بايدن. لا يمكن للمنطقة أن تنسى أحاديثه وأفعاله وتغزله بإيران وانفتاحه عليها وكأنه يكافئها على دعمها للإرهاب، ناهيك عن جماعة «الإخوان».

من حسن الحظ أن أعقبه ترمب الذي أعاد الأمور إلى نصابها، وأعاد شيئاً من هيبة أميركا وحجم الطموحات الإيرانية، ونجحت إدارته في مواجهة دول الإرهاب، فانسحبت من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما عام 2015 وقامت بتصفية الجنرال الإيراني قاسم سليماني المسؤول عن ملفات إرهابية في المنطقة.

الانتخابات الأميركية تهمنا في منطقتنا من جوانب معينة بعيداً عن العاطفة والتمنيات والانفعال، ولن ندخل في تعقيدات التصويت والأرقام، والفارق ما بين المجمع الانتخابي والتصويت الشعبي، ناهيك عن احتمالية تعليق النتائج لحسم النزاع القضائي على النتيجة في حال حدوثه. ليس مطلوباً أن تكون علاقتنا مع البيت الأبيض وردية فيما لو بقي ترمب، وإن كان يبقى هو الخيار المناسب لنا. كما أنه لو فاز بايدن (وربما يكون الأقرب بناء على الاستطلاعات والأرقام) فلا يعني ذلك أن تشهد العلاقات مع دول الخليج أو المملكة تحديداً تحولاً سلبياً أو تدهوراً مفاجئاً، لأنه ليست هكذا تُدار الأمور، فنحن نتحدث هنا عن علاقات دول ومؤسسات ومصالح كبيرة متشابكة. البعض يُسطح الأمور ويفتقر لفهم عميق في دهاليز السياسة وتعقيداتها، ولو لم تكن بهذا التشابك لما فُتحت الجامعات لعلومها، ولا دفعت المطابع بهذا الكم من الكتب حولها.

يجب أن نعترف أن الرياض وواشنطن استطاعتا تجاوز كثير من فترات التوتر والفتور والأزمات الصعبة، بغضّ النظر عمن يكون في البيت الأبيض، لأنه كان من غير المعقول أن تفرط الدولتان في علاقة استراتيجية تجاوزت 8 عقود. الجديد فيها أنها أصبحت لا تنتظر إشارات حسن نوايا أو علاقات عامة، بل اتجهت لعمل مؤسسي مشترك ومستدام لتحقيق الأهداف. جهود كبيرة بذلت من الطرفين في السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما مساهمة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للدفع باتجاه إعادة صياغة العلاقة وترتيب الأولويات. كانت العلاقة البراغماتية المرتبطة بالمصالح المتبادلة كلمة السر في إنقاذ العلاقة، وإن كان هذا لا يعني عدم وجود أوراق ضغط لدول الخليج كفيلة بتصويب مسار العلاقة في حالة الخلل. ومع ذلك نعلم أن أميركا اليوم لم تعد هي التي كنا نعرفها، وأن علينا التهيؤ لذلك.

إذن المسألة ليست في بقاء ترمب رئيساً أو فوز بايدن بكرسي الرئاسة، بقدر ما أن المعيار يرتبط بمن يحقق مطالبي ويخدم مصالحي. فوز ترمب (رغم مزاجيته وعدم التنبؤ بقراراته) يعني تعزيزاً للعلاقات مع دول الخليج وتحجيماً للإرهاب ومواجهة لخطر التمدد الإيراني. كما نتطلع لإيقاف الضوء الأخضر الأميركي للهمجية التركية في الجغرافيا العربية التي استغلت ما تفعله روسيا للحصول على التأييد الأميركي. أما وصول بايدن للسلطة فقد لا يحبذه الخليجيون كخيار، على اعتبار أنه قد يُعيد إحياء مرتكزات سياسة أوباما التي لم تخدم المنطقة، ولكونه لا يستوعب حقيقة ما جرى في المنطقة من تغيير، ولكنهم سيتعاملون معه، وبالتالي بايدن مدرك أن عليه التزامات وواجبات، لتحقيق مصالح بلاده، بغضّ النظر عن توجهاته أو مواقفه الشخصية، ما يتعين علينا التعاطي معه بوضوح، وإطلاعه على حقيقة المخاطر التي تحيق بمنطقتنا. وبغضّ النظر عن مزايا هذا المرشح أو ذاك، ومهما كانت النتيجة، فإن دول الخليج ستتعامل مع مَن يأتي به النظام الانتخابي الأميركي، وتتعاطى معه كرئيس دولة.

ما يريده الخليجيون من الرئيس القادم هو سياسة أميركية جادة، تستشعر حجم المخاطر والتحديات التي تواجهها منطقتهم، سواء التمدد الإيراني الإرهابي والتغول التركي الإردوغاني، وتقديم كل ما يضمن أمن منطقتنا، ما يعني المضي قدماً في السياسة «الترمبية» أو عدم تكرار أخطاء الحقبة «الأوبامية» فيما لو جاء بايدن إلى البيت الأبيض.

استقرار الخليج وأمنه ضرورة استراتيجية ومصلحة أميركية في المقام الأول، وأي تهديد يمسه ينعكس على استقرار الاقتصاد العالمي، ولذا مواجهة المشروعين الإيراني والتركي مطلب أساسي، وغضّ البصر عن ممارساتهما يعني مزيداً من التوتر والصدام والفوضى في المنطقة.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M