الحوار مع :رياض عيد
مع بداية القرن الحادي والعشرين طرأت تحوّلات كبرى في مناهج التفكير السياسي، وعاد المنهج الجيوبولتيكي ليأخذ مكانته في تحليل التعقيدات التي يعيشها النظام العالمي ولا سيّما ما يتعلّق بالنّظام الحاكم في العلاقات الدوليّة الراهنة.
في هذا الحوار مع الباحث في العلاقات الدوليّة والباحث في علم الجيوبولتيك رياض عيد نتناول أبرز القضايا في هذا الشأن.
وفي ما يلي نص الحوار
«المحرّر»
* نريد أن نستهلّ حوارنا معكم إنطلاقاً من بحوثكم في مجال الجيوبولتيك والجيوستراتيجيا.. كيف تبدو لكم صورة النظام العالمي اليوم، وما هو أثر الموقعيّة الجيوستراتيجيّة للعالم العربي والإسلامي في إعادة تشكيل عالم ممتلئ بالفوضى وعدم اليقين؟
– يتحكّم الجيوبوليتيك والاقتصاد في حركة الصراع الكوني منذ القدم، وقد عبّر ماكندر وبريجنسكي وغيرهما من الجيوبوليتيكيين العالميين عن هذا الصّراع، والآن يتصدّر ألكسندر دوغين التعبير عن هذا الصّراع بين الأوراسيتين الأميركية والروسية في صراع قوى البرّ مع قوى البحر. وكان لهذا الصراع الجيوبوليتيكي أثره على النّظام العالمي (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي) الذي أصبح برأس واحد تقوده أميركا بنظام أحاديّ القطب سماته العولمة والنيوليبراليّة كنظامٍ اقتصاديٍّ يحكم الكون. لكن أميركا فشلت في قيادة العالم بعد فشل النّظام النيوليبرالي، الذي أصيب بانتكاستين اقتصاديتين في الربع الأوّل من هذا القرن. الانتكاسة الأولى أزمة فقاعة العقارات عام 2008 التي أورثت العالم أزمة اقتصاديّةً خانقةً كان نصيب أميركا خسائر تزيد عن 60 تريليون دولار. وأزمة فقاعة الأسهم عام 2020 التي أكملت الإطباق على الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي الذي بات يرزح تحت مديونيّة تزيد عن 300 تريليون دولار. بالإضافة إلى جائحة كورونا التي ضربت الاقتصاد العالمي عبر توقّف سلاسل الإنتاج والتوريد في العديد من الدول الصناعية، التي ثبت فشل أميركا والغرب في التصدي لها، ما ترك أثرًا كبيرًا على دورهما في قيادة العالم. وكان من تداعياته فشل نظام القطب الواحد، وبروز نظام اللا قطبيّة كمقدّمةٍ لنظامٍ متعدّد الأقطاب، تصارع الصين والهند وروسيا في حجز مواقعهم فيه، خاصّة بعد انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، وبعد تعافي روسيا بقيادة بوتين لإعادة حجز موقعها في الصراع الجيوسياسي في العالم.
كانت منطقة غرب أسيا والعالم العربي هي الساحة التي خيضت عليها وفيها هذه المعارك، بعد ما يسمى بالربيع العربي ، نظرًا لأهميّة موقع هذه المنطقة الجيوبوليتيكي كقلب العالم ، وكنقطة عبور لأنابيب الطاقة إلى أوروبا والعالم، وكبوابة لطريق الحرير والحزام الاقتصادي الصيني على المتوسّط؛ حيث خاضت أميركا والغرب حروبها الناعمة وحروبها بالوكالة علينا عبر القوى التكفيريّة؛ لإعادة تشكيل الشّرق الأوسط وتقسيمه إثنيًا وعرقيًا بما يخدم مصلحة الكيان الغاصب اسرائيل والغرب، والسيطرة الغربية على موارد الغاز وخطوط الطاقة إلى أوروبا، ولعرقلة مشروع الحزام والطريق الصيني. وإرباك روسيا اقتصاديًا في مزاحمتها في تصدير الغاز إلى أوروبا، وتصدير القوى التكفيرية إليها من منطقتنا لإرباكها أمنيًا. ومنطقتنا تمثّل بالنسبة لروسيا جيوبوليتيكيا المنطقة، الوسط من حافة اليابسة التى كانت ولا تزال في الجيوبوليتيك الروسي هي خط الدفاع الأوّل عنها.
* أين أصبحت مركزيّة الغرب الآن، في ظلّ التحولاّت الكبرى التي تشير إلى تشكّل عالمٍ متعدّد الأقطاب، وهل ثمة إمكانيّة واقعيّة لقيام مثل هذا النظام المتكافئ في العلاقات الدولية؟
– بعد انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق؛ بسبب الثورة الصناعيّة الاقتصاديّة التى أقامتها الصين ومشاريعها القارية، الحزام والطريق الذي يُعتبر أهم مشروع أقيم في الكون، وبعد التقدّم الكبير للصين في التكنولوجيا والجيل الخامس من الاتّصالات والذكاء الصناعي، الذي قال عنه صندوق النقد إنّه سيزيد الإنتاج العالمي 30% وستكون حصة الصين 18% من هذه الزيادة. وبعد التحالف الاستراتيجي الصيني الروسي الإيراني مع العديد من دول أسيا في مشروع منظّمة شنغهاي للأمن والتعاون، ومشروع أوراسيا، وبعد إطلاق الصين البنك الآسيوي للبنى التحتيّة المتوقّع أن يضخّ ألف وثمانمئة مليار دولار؛ لتحديث البنى التّحتيّة للدول التي يمرّ بها الحزام والطريق، وبعد الاكتتاب من العديد من الدول الأوروبية في هذا البنك. وبعد إطلاق الصين اليوان الذهبي؛ ليكون عملة تسعير التبادل الطاقوي بين دول أوراسيا ، وإطلاق الجيل الخامس في الاتصالات (G5)؛ حيث باتت قارة آسيا هي قارة القرن الجديد اقتصاديًا وبالتالي سياسيًا. باتت مركزية الغرب في الدرجة الثانية بعد الصين وحلفائها الذين سيشكلون النظام العالمي الجديد المتعدّد الأقطاب. نعم نظام التعدّديّة القطبيّة بدأ يتبلور، وسماته التعاون المتكافئ بين الدول، وإطلاق مشاريع التنمية بين الدول لتأمين المنفعة المشتركة، كنقيض لمشروع النّهب الأميركي الغربي الذي دمّر خيرات العالم ونهبها.
* شهد الربع الأخير من القرن العشرين والعقدان الأوَّلان من القرن الجاري تحولاَّتٍ جذريّةً في المفاهيم التي انبنى عليها الفكر السياسي، لا سيّما لجهة تحكُّم الليبراليّة الجديدة بمصير العالم المعاصر وتحوّلاته. ما هي برأيكم الآثار التي ترتّبت على اتجاهات التفكير في إدارة النّزاعات الدوليّة، وخصوصًا ما يتعلّق منها بمسارات الحرب والسلام؟
– شهد الربع الأخير من القرن العشرين والعقدان الأوّلان من هذا القرن تحوّلاتٍ جذريّةً في كلّ المفاهيم. منها سقوط الاتّحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، وبروز نظام القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وطرح نهاية التاريخ من قبل فوكو ياما والمحافظين الجدد، وضرورة أن يكون القرن المقبل قرنًا أميركيًا بامتياز، وظهور عصر المعلوماتيّة والعولمة، وبروز النيوليبرالية كنظامٍ اقتصاديٍ حاكمٍ للكون. وبالمقابل بدأت في بداية هذا القرن بروز الصين كقوّةٍ اقتصاديّةٍ مزاحمة لأميركا، وتعافي روسيا بعد استلام بوتين الحكم في روسيا بداية هذا القرن. وحدثت أحداث 11 سبتمبر واحتلال أميركا للعراق وافغانستان وتعميم الفوضى الهدّامة؛ لإعادة تشكيل المنطقة العربيّة. لكن حساب الحقل لم يكن كحساب البيدر. فالعولمة التي أطلقتها أميركا (التي كانت مصنع العالم) لسيطرة النيوليبراليّة على الكون فشلت؛ حيث استغلت الصين انتقال الشركات العابرة للقارات ومصانعها إليها بأنّها أخذت التقنية الغربية وطوّرتها وباتت هي مصنع العالم لا أميركا. وبرزت المقاومات ضدّ الوجود الأميركي في المنطقة، مما أربك حسابات أميركا وأفقدها وفق قول ترامب 7 تريليون $. وفي الوقت الذي كانت فيه أميركا تغوص في مستنقع الشّرق الأوسط، كانت الصين تبني اقتصادها وتزاحم أميركا على عرش التجارة الكونيّة. ثم أتت الكارثة الاقتصاديّة عام 2008 وفقاعة الأسهم هذا العام، ووضعت أميركا والغرب أمام تحدياتٍ اقتصاديّةٍ صعبةٍ. لذلك طرح ترامب مشروعه “أميركا أوّلًا” ونظام الحمائيّة كبديلٍ للعولمة والنيوليبرالية، وعمل لتجفيف مستنقع العولمة في بلده، وخرج من كلّ الاتّفاقات التجارية مع العالم، وخرج من اتفاقيّة المناخ، واتفاقيات سباق التسلّح، وأطلق حربًا تجاريّة وعقوبات ضدّ الصين وأوروبا وأميركا اللاتينية وروسيا وإيران، وأطلق الحروب الاستباقيّة خارج القانون الدولي، وهمّش الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وفشل في مكافحة جائحة كورونا، وأقفل حدوده مع أوروبا والعالم. هذا يدلّ على فشل كلّ المفاهيم والنّظام العالمي الغربي الذي حكم العالم بعد الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة. وهذا يرتّب اتّجاهات جديدة لإدارة النّزاعات في العالم عبر الالتزام بروح وستفاليا وبالمواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة. ومنع تقويض الدول من الداخل عبر التدخل في شؤونها الداخلية. وبالنسبة للاقتصاد لعب صندوق النّقد والبنك الدولي دورًا بارزًا في خدمة النيوليبرالية وتقويض اقتصاديات الدول؛ للسيطرة عليها من قبل الغرب، ونلاحظ الآن تراجع دوره أمام بنك الاستثمار الآسيوي. نحن بحاجة إلى نظامٍ اقتصاديٍّ جديدٍ -بعد فشل النيوليبرالية- يؤنسن الاقتصاد ويخفّف جموحه المدمّر، ويُعيد الاعتبار للاقتصاد كخادم للإنسان لا الإنسان في خدمة الاقتصاد كمستهلك فقط، ويُعيد الاعتبار إلى نظام الرعاية الاجتماعيّة. لقد تخلّت أميركا عن العولمة بطرحها أميركا أوّلًا، ونشهد بروز الاقتصاد القومي ودور جديد للدولة الرعائية في دعم الاقتصاد وترشيده، سنرى عولمةً جديدةً تسود العالم لكن بنكهةٍ صينيّةٍ.
* نال العالم العربي والإسلامي قسطه الأعظم من النتائج الكارثيّة المترتّبة على الفوضى الخلّاقَّة خلال العقدين المنصرمين. كيف تقوِّمون ما عُرف بثورات الربيع العربي وما أفضت إليه من تداعيات إلى الآن؟
– شهد العالم العربي قسطاً كبيراً من الحروب بالوكالة والحروب الناعمة بعد طرح الفوضى الهدّامة، التي مارستها واشنطن وحلفاؤها على منطقتنا، عبر ما سمّي بالربيع العربي، الذي ثبت أنّه منسّق ومُدار من أميركا واسرائيل وتركيا والغرب وحلفائهم في المنطقة. نتج عن هذه الفوضى تدمير الجيوش، وضرب بنية المجتمع بتأجيج الحروب المذهبيّة عبر قوى الإرهاب الدّاعشي وأخواته من القوى التكفيرية، التي ضربت وحدة المجتمع ومارست التهجير والتصفية المذهبيّة؛ لتنفيذ مطالب المشروع الصهيواميركي في المنطقة، وهو الاستسلام لإرادة العدو عبر ما سُمّي بصفقة القرن. لقد شرّع ما سمي بالربيع العربي أبواب الدول العربية للتدخلات الخارجية، ولعبت الجامعة العربية دور حصان طروادة في شرعنة هذا التدخل واستباحة الدول العربية أمام التدخلات الغربية. لم تكن تلك الثورات العربية في نتائجها ربيعًا عربيًا بل خريف ماحق.
* أخذت نظريّة ما بعد الاستعمار ولا تزال، جدلاً عميقًا بين النّخب في الغرب والشرق معاً.. وقد ظهرت هذه النّظريّة في حقبة ما بعد الحداثة لتؤسّس لفكر سياسيّ يُعيد تأسيس الهيمنة بأدوات ومناهج كثيرة، وخصوصاً في حقول العلوم الإنسانية. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى ما سمّي بالاستعمار الأكاديمي والمعرفي، الذي يُعيد إنتاج نفسه من خلال اختراق البنية الثقافيّة والفكريّة في مجتمعاتنا العربية والإسلاميّة.. كيف تنظرون إلى هذه النظريّة في ميدان التطبيق، وما هي الأسس التي تقترحونها لمواجهة الآثار الناتجة عنها؟
– تعدّ نظريّة «ما بعد الاستعمار» من أهمّ النّظريات الأدبية والنّقديّة التي رافقت مرحلة «ما بعد الحداثة»، ولا سيّما أنّ هذه النظرية قد ظهرت بعد سيطرة البنيويّة على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت ثقافة الغرب على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلميّة. وبالتالي بات الغرب هو المركز. وفي المقابل، تشكّل الدول المستعمرة المحيط التابع للغرب. نظريّة «ما بعد الاستعمار» تعمل على فضح الإيديولوجيات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية، ونسف أسسها الميتافيزيقية والبنيوية. ويتّضح من منظور عالم «ما بعد الاستعمار» أنّ أعمال الفكر الكبرى في غرب أوروبا والثقافة الأميركية قد هيمنت على الفلسفة والنظرية النقدية، وكذلك على أعمال الأدب في جزء واسع من أنحاء العالم، ولا سيّما تلك المناطق التي كانت سابقًا تحت الحكم الاستعماري.
أعطيت نظريّة ما بعد الاستعمار تعريفات عدّة، ومن أهم تعاريفها أنّ مصطلح «ما بعد استعماري» يُستخدم ليغطي كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحظة الاستعمار حتى يومنا الحالي، وتهدف إلى تحليل كلّ ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطابًا هادفًا، يحمل في طياته توجهاتٍ استعماريةً إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. كما يوحي المصطلح بوجود استعمار جديد يخالف الاستعمار القديم. لذا، يتطلّب هذا الاستعمار التعامل معه من خلال رؤية جديدة، تكون رؤيةً موضوعيةً وعلميةً مضادة، تركز البحث في ملامح مرحلة ما بعد الاستعمار. وتُعَدُّ «نظرية ما بعد الاستعمار»، في الحقيقة، قراءةً للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربةٍ نقديةٍ بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر، تحلّل هذه النّظرية الخطاب الاستعماري، في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية، بالتفكيك والتركيب والتقويض؛ بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسّساتيّة المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي. ومن المفيد التذكير بصورة أكثر وضوحًا بأنّ نظرية «ما بعد الاستعمار» تستند على مجموعة من المرتكزات الفكريّة والمنهجيّة، ويمكن حصرها ومواجهتها بما يلي:
1ـ فهم ثنائيّة الشرق والغرب فهمًا حقيقيًا، برصد العلاقات التفاعليّة التي توجد بينهما، سواء أكانت تلك العلاقات إيجابية مبنيّة على التسامح والتفاهم والتعايش أم مبنية على العدوان والصراع الجدلي والصدام الحضاري.
2ـ مواجهة التغريب: استهدفت نظرية «ما بعد الاستعمار» محاربة سياسة التغريب والتدجين والاستعلاء التي كان ينهجها الغرب في التعامل مع الشرق، بالاستعانة بعلم الاستغراب الذي ينْصبّ على فهم الغرب وتعرية تصوراته الفكرية والذهنية والمعتقدية والإيديولوجية. ذلك لفضح الهيمنة الغربية، وتعرية مرتكزاتها السياسية والإيديولوجية، مع تبيان نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، والتشديد على جشعها المادي لاستنزاف خيرات الشعوب المقابلة الأخرى.
3- تفكيك الخطاب الاستعماري: أي فضح الخطاب الاستعماري الغربي، وتفكيك مقولاته المركزية التي تعبّر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي، باستعمال منهجيّة التشتيت والفضح والتعرية. عبر آلية منهجيّة لإعلان لغة الاختلاف، وتقويض المسلَّمات الغربية، والطعن في مقولاتها ذات الطابع الحلمي الأسطوري.
4- الدفاع عن الهوية الوطنيّة والقوميّة: أي رفض الاندماج في الحضارة الغربية، وسياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة المركزية، ورفض الاستلاب والتدجين. وفي المقابل، الدعوة إلى ثقافة وطنية أصيلة، والتشبث بالهوية الوطنية والقوميّة الجامعة. وتسخير كلّ ما لدينا من آليات ثقافيّة وعلميّة لمواجهة التغريب، ومحاربة المستعمر بلغته، وتقويض حضارته بالنقد والفضح والتعرية.
5- الدعوة إلى علم الاستغراب: إذا كان المفكرون الغربيون يتعاملون مع الشرق في ضوء علم الاستشراق باعتباره خطابًا استعماريًا وكولونياليًا من أجل إخضاعه حضاريًا، والهيمنة عليه سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، فعلى المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «ما بعد الاستعمار» الدعوة إلى استشراق مضاد، أو ما يسمّى أيضًا بعلم الاستغراب؛ بغية تفكيك الثقافة الغربية تشريحًا وتركيبًا، وتقويض خطاب التمركز تشتيتًا وتأجيلًا، وفضح مقصدية الهيمنة على أسس علميّة موضوعيّة.
6- المقاومة المادية والثقافية: لا يكفي قراءة الخطاب الاستشراقي الغربي، بل يجب مقاومة المستعمر بكل الوسائل المتاحة، إمّا عن طريق المقاومة السلمية أو المسلحة، وإمّا عن طريق الاستشراق المضاد، وإمّا بنشر الكتابات التقويضية لتفكيك المفكرين المتمركزين: الأوروبييّن والأميركييّن، وفضحهم بشتى السبل والطرائق.
7- الالتزام بالقيم الحضارية للأمة، وبصالتها والتأكيد على دور هذه القيم في عملية التحديث. لا تستطيع أيّ أمّة من الأمم أن تنهض أو تحقّق قفزةً حضاريةً مطلوبة بدون الاعتزاز بالذات الحضارية، والعمل على تجسيد قيمها ومبادئها في مسيرة المجتمع الحاضرة. فشرط النهوض الرجوع إلى الذات، وأية عملية نهضويّة لا تستند على الجذور الحضارية للأمة في خريطة عملها ومبادئ مسيرتها هي أقرب إلى الابتذال منها إلى الأصالة.
8- الانفتاح على العصر والتعاطي الموضوعي مع ومتطلباته؛ لأنّ الانغلاق والانطواء عن منجزات الحضارة الإنسانيّة الحديثة هو بالدرجة الأولى، إفقار للوجود الذاتي، بحيث تضحى هذه الأمة المنطوية والمنغلقة وكأنّها تعيش في القرون السالفة بعيدةً كلّ البُعد عن إنجازات الإنسان المعاصر، وآثار العلم ومنجزاته.
تأسيس خطاب حضاري منبثق من قيمنا وأصالتنا ينسجم ويتفاعل مع الآخر الحضاري، فالحضارة الإنسانيّة هي نتاج تفاعل الحضارات عبر التاريخ. إذًا، التفاعل هو فعل إيجابي يمارسه الإنسان لصالح أمّته. فهمزة الوصل المقترحة التي تربطنا بالحضارة الحديثة، هي التفاعل لا الانسحاق والذوبان في المنظومة الحضارية المعاصرة. وهذا هو خيارنا المستقبلي إذا أردنا أن نحافظ على هويتنا الذاتيّة ونعيش في العصر الحديث.
* إلى أيّ مدى تستطيع النّخب في مجتمعاتنا صوغ استراتيجيات معرفيّة للمواجهة الحضارية مع الغرب، في إطار مشروع التأسيس لعلم الاستغراب؟
– في دراستنا للتحوّلات الكونيّة التي حدثت في الربع الأوّل من هذا القرن نستنتج أنّ الغرب يتخبّط في أزماته الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولا أغالي إن قلت إنّ الحلم الغربي والحضارة الغربية باتت غاربة وعاجزة عن مقاربة تحديات العصر، أمام حضارة شرقية بازغة تطرح حلول للتحديات التي تواجه العالم. العالم تغيّر، والنّظام العالمي بدأ يتحرّر من أثقال المركزيّة الأوروبية حتى المعرفيّة، تستطيع نخبنا أن تطرح استراتيجيّة مواجهة جديدة مع الغرب في هذه اللحظة التاريخية التي تمرّ بها أمّتنا والعالم، وهي التوجّه شرقًا. فاستراتيجية التّوجّه شرقًا خيار استراتيجي يتضمّن ما هو أبعد من السياسة والاقتصاد والأزمات الحياتية الراهنة، التي نعيشها في بلادنا. هي خيار استراتيجي خلفه إدراك عميق للتاريخ الحقيقي للعالم الحديث والتحوّلات الكونيّة التي حدثت، وللنظام العالمي التّعدّدي الآتي لا محالة، ورؤية تستشرف المستقبل وتراه متحرّرًا من افتراضات وطغيان الاستثنائيّة الأوروبية ومسلّماتها التي تهيمن على التفكير بالماضي والحاضر والمستقبل في الأكاديميا، كما في السياسة والاقتصاد والاجتماع. التوجّه شرقًا قراءة استراتيجية أساسها استنتاج عميق بأنّنا لا نعيش فقط مرحلة أفول الهيمنة الغربية، بل نشاهد أنّ العالم على أبواب انقلاب تاريخي سينتج منه عالم جديد له منظومته المفاهيميّة المختلفة، التي ستعيد تشكيل رؤيتنا للعالم وللتاريخ، وتُغيّر طريقة العيش، وتؤسّس حتى لصوغ اجتماعٍ إنسانيّ جديد. فكرة التوجّه شرقاً دعوة للتفكير بما بعد هزيمة المشروع الصهيوأميركي عن أمتنا، كجزء من استراتيجية شاملة تتضمّن التسلّح بمقدّرات هزيمة وإزالة تبعات الاستعمار، وفي مقدّمتها رؤية عميقة حول مسارات النظام العالمي المحتملة وموقعنا فيها. لذا يتوجّب علينا أن نحدّد، الآن، خياراتنا كشعوب، وكأمّة، وقوى مقاومة، إنْ كنّا حريصين فعلاً على مستقبل شعوبنا. فمن لا يعرف التاريخ لا يستطيع التخطيط للمستقبل، ولن يستطيع حتى مجرّد أن يتخيّل احتمالات المستقبل المتعدّدة الممكنة، والتي سيكون دورنا وإمكانياتنا للتأثير بمساراتها المحتملة مشروطاً إلى حدّ كبير بقدر استثمارنا في المقاومة ضد المشروع الصهيوني وضدّ الإمبريالية الغربية.
العالم يعيش لحظة أفول الغرب وصعود الشرق، بوصلة مستقبل العالم لا تؤشر إلّا شرقاً، تمتلك الصين قدراتٍ هائلةَ من خلال تحكّمها بدورة السلع غيرِ المعسكَرة، أي السلع التي تُجدي الحياةَ البشريّةَ خيراً، وتطرح تنمية الدول لتأمين المنفعة المشتركة خلافاً لمشروع النهب والسيطرة الأميركيّة. لهذا، فالتّوجّه شرقاً الآن يمثّل استراتيجية معرفيّة للمواجهة الحضارية مع الغرب، ويعني ببساطة أن تقرّر الانتساب إلى المستقبل وحضارة المستقبل. يعني أن نكون نحن، وألّا يكون الكيان الصهيوني ومن خلفه الاستعمار. فهل نقدم؟
.
رابط المصدر: