الرد الصيني: توازن في مواجهة الحصار الاقتصادي الأمريكي

تُعاد اليوم صياغة ملامح الاقتصاد العالمي تحت وطأة حرب تجارية متصاعدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، القوتين الأكبر في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي والتأثير في سلاسل التوريد الدولية. ورغم أن هذا الصراع ليس جديدًا في جوهره فقد تصاعدت حدته مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة، مدفوعًا برؤية حمائية أكثر تشددًا وأجندة اقتصادية تُعيد إلى الأذهان شعارات “أمريكا أولًا” التي ميّزت ولايته الأولى. في المقابل، تتعامل بكين مع هذا التصعيد بعقلانية محسوبة، مركّزة على تحصين جبهتها الداخلية من خلال تفعيل أدوات السياسة المالية والنقدية، وتوسيع شبكة شركائها التجاريين عالميًا.

وبينما اختارت واشنطن التصعيد عبر فرض ضرائب جمركية غير مسبوقة، ترد الصين بخطة اقتصادية متماسكة تستند إلى زيادة الإنفاق وتحفيز الاستهلاك وتعزيز الثقة بالعملة المحلية، ما يجعل المعركة الاقتصادية تتجاوز الجوانب المالية لتلامس مكانة البلدين الدولية. ومع التوتر المتزايد ومؤشرات الركود التي تلوح في الأفق، تطرح التساؤلات حول ما إذا كانت الصين قادرة على تحويل هذا الضغط إلى فرصة، وهل تنجح في تخطي هذه العاصفة، أم أن الحرب التجارية قد تُفضي إلى تحولات أعمق في النظام العالمي؟

يشكل الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة أحد أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي في القرن الواحد والعشرين. فمنذ بداية الألفية، شهدت العلاقات التجارية بين الدولتين تقلبات حادة، ما بين فترات من التعاون النسبي إلى اشتعال الأزمات والاتهامات المتبادلة بالإجراءات الحمائية والممارسات غير العادلة.

وجدير بالذكر أن الحرب التجارية الحالية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج لتراكمات اقتصادية وجيوسياسية بدأت تأخذ شكلًا أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة، في ظل تصاعد دور الصين كقوة اقتصادية عظمى، ومواجهة الولايات المتحدة لهذا التحدي. وهذه المواجهة أثارت مخاوف من تأثيراتها على بنية النظام العالمي القائم، مما دفع الطرفين إلى تبني سياسات تجارية تهدف إلى حماية مصالحهما الاقتصادية على حساب الآخر.

وتعود جذور الصراع إلى العقدين الأخيرين، عندما بدأت الصين في تعزيز مكانتها الاقتصادية بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. ومع نمو صناعتها وتوسع صادراتها، تصاعدت المخاوف الأمريكية من ممارسات الصين التجارية، مثل دعم الصناعات المحلية، التلاعب بالعملة، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية. كل هذا هذا دفع الولايات المتحدة إلى فرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية بدءًا من إدارة باراك أوباما، ثم تحت حكم دونالد ترامب في 2018، مما أشعل فتيل التصعيد. ومع تحول المشهد السياسي والاقتصادي العالمي، أصبح النزاع التجاري بين البلدين معركة استراتيجية على الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية في القرن الواحد والعشرين.

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2025، كان الصراع التجاري مع الصين في قلب أولوياته السياسية والاقتصادية. ومع تزايد التوترات الاقتصادية والجيوسياسية، أعاد “ترامب” تأكيد التزامه بالسياسات الحمائية، لكن هذه المرة برؤية أشد صرامة. ونتيجة لفشل السياسات السابقة في تقليص العجز التجاري مع الصين، بالإضافة إلى ما يراه ممارسات غير عادلة من جانب بكين، فإن ذلك دفعه إلى اتخاذ تدابير أكثر حدة. من أبرز تلك الإجراءات فرض رسوم جمركية جديدة على الواردات الصينية، في إطار استراتيجية تهدف إلى تقليص هيمنة الصين في المجالات الصناعية والتكنولوجية التي تمثل تهديدًا للهيمنة الاقتصادية الأمريكية.

وتستند سياسات ترامب في ولايته الجديدة إلى نهج أكثر قسوة تجاه الصين، حيث يواصل فرض رسوم مرتفعة على البضائع الصينية ويعمل على توسيع نطاق الإجراءات الاقتصادية التي تهدف إلى تحجيم القوة الاقتصادية الصينية. ومع أن الهدف الأساسي لهذه السياسات هو تقليص العجز التجاري، فإن دوافع ترامب تتجاوز الجانب الاقتصادي إلى الاعتبارات الجيوسياسية، حيث يركز على مجالات استراتيجية مثل التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي. وتتصدر الشركات الصينية مثل “هواوي” و  “ZTE” قائمة الأهداف الأمريكية، حيث تسعى الإدارة الأمريكية إلى عرقلة توسع الصين التكنولوجي عالميًا.

في مواجهة تصعيد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، اتخذت الصين نهجًا استراتيجيًا قائمًا على العقلانية والتوسع الاقتصادي المدروس. ولم تقتصر ردودها على الرسوم الجمركية المضادة، بل تبنت سياسة تحفيزية متكاملة بهدف تعزيز استقرار الاقتصاد الداخلي وتقليل تأثير الرسوم الأمريكية. على سبيل المثال ارتفع الإنفاق الحكومي الصيني في 2025 إلى أكثر من 8% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 6.6% في العام السابق، في خطوة تهدف إلى تحفيز الطلب المحلي وزيادة الإنتاجية في القطاعات الأساسية. وهذه السياسة تعكس استراتيجية متكاملة لتعزيز الاقتصاد المحلي وتقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية، في إطار توسيع الاقتصاد الوطني.

كما شملت سياسات الصين تعزيز الاستهلاك المحلي من خلال زيادة الإنفاق الحكومي في مجالات متنوعة مثل البنية التحتية والتكنولوجيا، بالإضافة إلى برامج تحفيزية للمستهلكين لشراء المنتجات الاستهلاكية مثل الهواتف الذكية والأجهزة المنزلية. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسات في تحريك السوق المحلي، تبقى التساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق استهلاك طويل الأمد في ظل استمرار التحديات الاقتصادية العالمية.

على الصعيد النقدي، عملت الصين على الحفاظ على استقرار عملتها، اليوان، عبر تجنب خفض قيمتها بشكل علني، واستخدام سياسات نقدية مرنة وتعزيز احتياطياتها من النقد الأجنبي. من خلال تدخلات بنك الشعب الصيني في أسواق العملات، سعت الصين إلى الحفاظ على استقرار اليوان دون تحوله إلى أداة حرب تجارية، مما يعكس رغبتها في موازنة الرد على الإجراءات الأمريكية مع الحفاظ على استقرار اقتصادها الداخلي في ظل تقلبات الأسواق العالمية.

في تصعيدٍ كبيرٍ للحرب التجارية الدائرة، رفعت الصين الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية إلى نسبةٍ مذهلةٍ بلغت 125%. تأتي هذه الخطوة ردًا مباشرًا على فرض الولايات المتحدة رسومًا جمركيةً أعلى على السلع الصينية. وجاء هذا الإعلان عقب تصريحاتٍ قويةٍ للرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أكد فيها على أنه لا رابح في الحرب التجارية، وحثّ الاتحاد الأوروبي على الانضمام إلى الصين في مقاومة ما وصفه بـ”التنمر” الأمريكي.

وفي ظل الحرب التجارية المستمرة مع الولايات المتحدة، أظهرت الصين قدرة كبيرة على إعادة تشكيل شراكاتها التجارية عبر العالم لتقليل تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية. فقد لجأت إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول آسيا، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وهي مناطق تشكل محورًا لاستراتيجيتها في إيجاد أسواق بديلة تعوض خسائر التجارة مع أكبر اقتصاد في العالم. ومن خلال مبادرة “الحزام والطريق”، تقوم الصين بتمويل مشاريع ضخمة في البنية التحتية والطاقة والمعادن، مما ساعد على تقليل الاعتماد على الأسواق الغربية وتوسيع نطاق صادراتها إلى أسواق ذات فرص نمو عالية.

كما اتبعت الصين استراتيجية مبتكرة عبر توجيه صادراتها إلى الولايات المتحدة عبر دول وسيطة مثل فيتنام والمكسيك، حيث يُمكن أن تستفيد من هذه الدول لتجاوز التعريفات الجمركية الأمريكية على السلع الصينية. هذا التكتيك المرن من شأنه أن يُمكّن الصين من اختراق الأسواق الأمريكية بطريقة غير مباشرة، متجاوزة العقبات التجارية التي فرضتها الحرب التجارية.

علاوة على ذلك، تبنت الصين سلسلة من المبادرات لمقاومة العزلة التجارية التي تزايدت مع الضغوط الأمريكية. ومن بين هذه المبادرات، توسعت شراكاتها الاقتصادية مع دول خارج نطاق النزاع التجاري المباشر وزادت من تمويلها للدول النامية في آسيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما قد تعمل على تعزيز استخدام عملتها المحلية (اليوان) في المعاملات الدولية، مما يقلل من اعتمادها على النظام المالي الأمريكي. هذه السياسات تظهر استعداد الصين للتكيف مع الضغوط العالمية وتعزيز قوتها الاقتصادية من خلال شبكة شراكات متنوعة وقوية.

في سياق التصعيد المستمر في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يبرز عدد من السيناريوهات المحتملة لمستقبل هذا الصراع.

السيناريو الأول: التصعيد المستمر؛ في هذا السيناريو، يستمر التصعيد بين الولايات المتحدة والصين في تبادل الرسوم الجمركية والقيود الاقتصادية، مما يؤدي إلى تدهور العلاقات الاقتصادية بين القوتين العظميين. وهذا التصعيد قد يتسبب في بيئة تجارية متقلبة، مما يعوق نمو الشركات والاقتصادات العالمية. بالإضافة إلى ذلك، قد تزيد هذه التوترات من مخاطر الركود الاقتصادي العالمي، ويصبح من الصعب على الدول التكيف مع هذه الظروف المتغيرة. وستظل التوترات الهيكلية قائمة، مما يجعل التحول إلى مرحلة استقرار أمرًا بعيد المنال.

السيناريو الثاني: التهدئة والاتفاقات التجارية؛ في هذا السيناريو، قد يتم التوصل إلى تفاهمات تجارية بين الولايات المتحدة والصين لتخفيف التوترات، مما يسمح بتحقيق استقرار مؤقت في العلاقات التجارية بين البلدين. رغم ذلك، ستظل بعض التوترات الهيكلية بين الطرفين قائمة، وستظل السياسات الحمائية تهيمن على العلاقات الاقتصادية، ولكن سيتم استخدام أدوات جديدة مثل الحواجز التجارية غير الجمركية لتحقيق الأهداف التجارية. هذا السيناريو قد يشهد إعادة تشكيل استراتيجيات التجارة الدولية ولكن مع الحفاظ على التوترات الكامنة.

السيناريو الثالث: التحول البنيوي للنظام التجاري العالمي؛ في هذا السيناريو، قد يفتح الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين المجال لتحول جذري في النظام التجاري العالمي، حيث تتزايد السياسات الحمائية في جميع أنحاء العالم. وقد تسعى الدول إلى تعزيز استقلالها التجاري والابتعاد عن القيم الحرة التي هيمنت على النظام التجاري الدولي لعقود. وهذا التحول قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات التجارية العالمية، خاصة مع تصاعد دور الصين ودول أخرى مثل الهند والاتحاد الأوروبي كمحركات اقتصادية رئيسية. وهذا التحول يعيد ترتيب القوى الاقتصادية عالميًا ويشكل نظامًا متعدد الأقطاب، حيث تكون القوى الاقتصادية الكبرى هي المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي.

في الختام، ورغم التصعيد المستمر في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، تظل الصين في موقع قوي لتعزيز دورها في الاقتصاد العالمي عبر عدة استراتيجيات رئيسية. من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي متعدد الأطراف، وتوسيع شراكاتها التجارية في مناطق مثل آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تواصل الصين بناء شبكة اقتصادية تحصّنها من العزلة. كما أنها تستثمر بشكل كبير في تكنولوجيا المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، مما يعزز قدرتها على المنافسة العالمية.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M