على مدار أربعة أيام خلال الفترة من 14 وحتى 17 يونيو الجاري، شهدت روسيا الاتحادية انعقاد منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي (SPIEF)، في دورته السنوية السادسة والعشرين، بحضور أكثر من 17000 مُشارك من 130 دولة. وقد ركزت جلسات المنتدى بشكل عام على التحولات في الاقتصاد العالمي، وموضوع بناء السيادة خاصة المتعلقة بـ “السيادة التكنولوجية”، إضافة إلى الاستجابة إلى التحديات الجديدة.
ويُعد منتدى سانت بطرسبرج أهم مؤتمر اقتصادي يُعقد سنويًا في روسيا، وغالبًا ما يُشار إليه في الصحافة باسم منتدى “دافوس الروسي” على غِرار المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يُعقد في مدينة “دافوس” بسويسرا. وهذا المنتدى بمثابة منصة يجتمع من خِلالها قادة الدول ووزراء المالية ورؤساء الشركات الروسية والأجنبية والممولين والخبراء لمناقشة القضايا الاقتصادية التي تواجه روسيا وأسواق البلدان النامية والعالم.
ويتم تنظيم عمل المنتدى في شكل جلسات عامة، وموائد مُستديرة، ومعارض، ومؤتمرات افتراضية، وعروض تقديمية. ومُنذ عام 2005 والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يحرص بشكل شخصي على حضور المنتدى. وقد اتخذ المنتدى هذا العام من شِعار “التنمية السيادية أساس عالم عادل.. فلنوحد جهودنا من أجل الأجيال القادمة” أساسًا لجلساته وأجندة أعماله. وسعت روسيا من خلال هذا المنتدى إلى إظهار استقرارها الاقتصادي في الوقت الذي تُمارس عليها ضغوطات أمريكية وغربية كبيرة، نتيجة للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في فبراير 2022.
نظرة عامة حول المنتدى
ركز المنتدى هذا العام على تطوير العلاقات التجارية وتوسيع الاتصالات مع الشركات التجاريين من رابطة الدول المُستقلة والعالم العربي والهند والصين والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا المعروفة بـ “الاَسيان” ودول أمريكا اللاتينية.
وعلى هامش المنتدى، تم عقد أكثر من 200 حدث كجزء من برنامج أعمال المنتدى؛ شمل كافة المواضيع حول قضايا: التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والبيئة، والرعاية الصحية، والنقل، والثقافة، والسياحة، والتعليم، والعلوم، والتكنولوجيا. وتحدث خلال المنتدى أكثر من 1500 فرد من كافة التخصصات والمجالات ومن جميع الجنسيات.
كانت دولة “الإمارات العربية المتحدة” ضيف النسخة السادسة والعشرين للمنتدى، والتي ترأس وفدها رئيس الدولة الشيخ “محمد بن زايد اَل نهيان”. وحضر المنتدى على مستوى القادة كل من رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية “عبدالمجيد تبون” والذي أكد في كلمته خلال الجلسة العامة على أن العالم يواجه اليوم حربًا اقتصادية جديدة غير مُعلنة ودعا إلى “عدم تسييس الاقتصاد”، وشارك رؤيته لدور روسيا في العالم وفي القارة الأفريقية، إضافة إلى أكثر من 150 من كبار المسؤولين، فضلًا عن رؤساء المنظمات والمؤسسات الدولية، وعدد من وزراء الخارجية ووزراء التجارة والاستثمار.
كانت وفود الإمارات العربية المتحدة والصين والهند وميانمار وكازاخستان وكوبا الأكثر عددًا، وشارك في المنتدى أكثر من 6000 ممثل عن الشركات الروسية والأجنبية من أكثر من 3000 شركة من 75 دولة ومنطقة. هذا وتبلورت النقاشات والجلسات الخاصة بالمنتدى انطلاقًا من الشعار الرئيس له وهو “التنمية السيادية أساس عالم عادل.. دعونا نوحد الجهود من أجل الأجيال القادمة”.
وتم التطرق خلال أيام المنتدى إلى خمس قضايا أساسية وهي:
- الاقتصاد العالمي في عصر التحول العالمي.
- الاقتصاد الروسي: من التكيف إلى النمو.
- بناء السيادة التكنولوجية.
- مدخرات الناس وجودة الحياة بوصفها أولوية رئيسة.
- سوق العمل: الاستجابة للتحديات الجديدة.
في سياق آخر، فإن ما يقرب من ثلث المناقشات التي دارت خلال المنتدى تعلقت بشكل رئيس بقضايا الاقتصاد الروسي، خاصة فيما يتعلق بضمان استقراره، وتحسين الإدارة العامة، وتقديم الدعم الاجتماعي للسكان، والتطوير العسكري، وخلق مناخ مناسب للأعمال والاستثمار، وتطوير البنوك الروسية.. إلخ. ففي إحدى جلسات المنتدى، تم عرض سيناريوهات واتجاهات تنمية روسيا في السياق العالمي حتى عام 2040. وسلط المنتدى الضوء كذلك على الإمكانات الكاملة للشركات المحلية في مختلف مجالات الاقتصاد.
وتم التأكيد على نجاح الاقتصاد الروسي في مقاومة العقوبات الغربية، وأن الاقتصاد الروسي يعمل على ما يرام بعيدًا عن “الشركاء الغربيين”. ولم تلعب العقوبات دورًا سلبيًا فحسب، بل لعبت أيضًا دورًا إيجابيًا: فبفضلها شهد الاقتصاد الروسي عملية “شفاء وتطهير” وتطوير اَليات للتعامل مع العقوبات، وتوقع الخبراء أن ينمو الاقتصاد الروسي هذا العام بنسبة 5%.
رسائل “بوتين”
خلال الجلسة العامة للمنتدى، ألقى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” كلمة مُطولة، تطرق فيها إلى العديد من القضايا خاصة القضايا الاقتصادية، وتطرق للحديث حول العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فضلًا عما وصفه بالأفعال العدوانية للغرب. واصفًا أن النظام الدولي الأحادي القطب الذي ساد طويًلا؛ بأنه لم يعد موجودًا اليوم، وأن العالم يتجه نحو نظام مُتعدد الأقطاب.
وأشار “بوتين” في كلمته إلى التقدم الملحوظ في استخدام العملات الوطنية في التجارة الخارجية، وأن روسيا والصين ودول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي باتت تعتمد بنسبة كبيرة على “الروبل” الروسي واليوان الصيني في معاملاتها التجارية والاقتصادية. وعلى وقع العقوبات التي تم فرضها من الغرب، طمأن “بوتين” الحاضرين بأن موسكو تؤكد على سياسة الانفتاح الاقتصادي رغم كافة الصعوبات والعقبات التي تواجهها، وأن روسيا لم تنعزل عن العالم، بل قامت بتوسيع اتصالاتها وشراكاتها مع الشركاء ذوي الثقة خاصة في البلدان والمناطق التي تُعد اليوم بمثابة قاطرات ومحركات للاقتصاد العالمي.
اتفاقيات عِدة
خلال فعاليات المنتدى، تم التوقيع على أكثر من 900 اتفاقية بقيمة 3 تريليونات و860 مليار روبل روسي (ما يعادل 46 مليار دولار)، كانت غالبية الاتفاقيات في مجالات الصناعة والبناء (206) اتفاقية، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية (185) اتفاقية، والتعاون الدولي (85) اتفاقية. وتم توقيع 43 اتفاقية من قبل ممثلي الشركات الأجنبية، بما في ذلك شركات من إيطاليا وإسبانيا، وعدد من الاتفاقيات في كافة المجالات الأخرى. منها على سبيل المثال:
● توقيع اتفاقيات بقيمة 400 مليار روبل لبناء مصفاة لتكرير الألومينا، وتطوير البنية التحتية للموانئ لتزويد المؤسسات الصناعية الروسية بالمواد الخام في مدينة “لينينجراد” الروسية. فضلًا عن توقيع اتفاقيات بقيمة 323.2 مليار روبل لمشروعات بنية تحتية في المدينة ذاتها.
● توقيع اتفاقية لبناء طريق سريع بمبلغ 300 مليار روبل روسي في مدينة “سانت بطرسبرج” وسيتيح بناء هذا الطريق إزالة التدفق الكبير لحركة المرور من الشوارع المزدحمة.
● توقيع اتفاقية بين منطقة روستوف وشركة YugStroyInvest-Don في اتفاقية لبناء منطقة سكنية في “روستوف أون دون” مقابل 132 مليار روبل.
● توقيع مذكرات تفاهم بين بعض الشركات بشأن إنشاء منشأة بنية تحتية سياحية واسعة النطاق في شبه جزيرة القرم بقيمة 120 مليار روبل، ومن المقرر الانتهاء من المرحلة الأولى من المشروع بحلول نهاية عام 2026.
● توقيع منطقة “نيجني نوفجورود” وJSC Molochny Lekar اتفاقية لبناء مجمع لإنتاج الحليب ومعالجته بشكل متقدم في منطقة “نيجني نوفغورود” بمبلغ 120 مليار روبل.
● ودخلت “شبه جزيرة القرم” وبنك RNKB وIC Invest في اتفاقية بشأن تنفيذ مشروع استثماري لإنشاء منشأة بنية تحتية سياحية واسعة النطاق في مقاطعة لينينسكي بجمهورية القرم.
رؤية تحليلية
يُمكن النظر إلى أبرز نتائج منتدى سانت بطرسبرج ليس على الصعيد الاقتصادي، أو توقيع عدد من الاتفاقيات وحسب، بل يُمكن القول إن هناك نتائج جيوسياسة نجحت روسيا في انتزاعها خلال هذا المنتدى وذلك بتسليط الضوء على عدد من القضايا الهامة منها:
تراجع الهيمنة الغربية: فعندما يحضر 17000 مُمثل من 130 دولة ومنطقة مُختلفة فعاليات المنتدى، فهذا الأمر يجعل منه واحدًا من أكبر الأحداث في العالم، وهذا الأمر يؤكد على أن العديد من دول العالم باتت تتبع أجندتها الخاصة، وتتوجه في سياساتها انطلاقًا من مصلحتها الوطنية. فحضور هذا العدد الضخم للمنتدى يؤكد أن العديد من الدول لم تعد مُلزمة بأجندة الغرب، وأن عالمًا مُتعدد الأقطاب في طريقه إلى التبلور. وهذا الأمر قد تجلى في نقاشات المشاركين في المنتدى حيث أظهروا سعيًا ورغبة في تشكيل تكتل جديد من الدول التي تناضل من أجل السيادة والمستعدة لبناء جسور من التفاهم والتعاون المتبادل حول العالم.
الحد من الدولرة: مُنذ أوائل التسعينات والولايات المتحدة الأمريكية هي المتحكمة في النظام الاقتصادي العالمي، من خلال مُمارسة الهيمنة سواء بشكل فردي أو من خلال هيمنتها على المؤسسات المالية العالمية؛ لكن وفي ظل عدم الاستقرار الجيوسياسي. توصل الخُبراء في منتدى سانت بطرسبرج إلى أن هناك حاجة مُلحة لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي بعيدًا عن هيمنة النخب الأوروبية والأمريكية التي سيطرت على الاقتصاد خلال ال 30 عامًا الماضية. وكانت دول البربكس قد أعلنت بالفعل عن رغبتها في إنشاء عملتها الخاصة.
التأكيد على القيم التقليدية: في ظل القيم الغربية المرتبطة بعالم ما بعد الحداثة، والتي تتنافي في كثير منها مع الثقافة والقيم الشرقية؛ تعمل روسيا باستمرار على استغلال هذا الأمر لصالحها، وذلك بإظهار نفسها كقائد للتنمية، وكحامل للقيم التقليدية، وأنها بلد ذات تراث ثقافي عظيم وإمكانات علمية هائلة.
جذب أنظار الشرق والعالم الإسلامي: رأت روسيا أنه وفي ظل سياق العولمة والتكامل المتزايد للاقتصاد العالمي للاتحاد الروسي، من الضروري تطوير التعاون في “مجال الأطعمة الحلال” مع دول العالم الإسلامي من أجل الصالح العام والحفاظ على سوق الحلال للتجارة بما يعود بالمنفعة للاقتصاد الروسي.
تعزيز الحضور الدولي: رأت روسيا أهمية تعزيز حضورها على المسرح الدولي؛ وذلك من خلال تطوير العلامة التجارية “صُنع في روسيا”، استنادًا إلى بنية تحتية قوية للتواصل مع الجماهير الروسية والأجنبية، وإنشاء منصة لتعزيز مصالح روسيا وأعمالها وثقافتها وعلومها وأفكارها.
التغلب على التحديات: رسمت روسيا من خلال المنتدى خريطة لمواجهة التحديات التي تواجهها، من خلال تأكيدها على ضرورة إيجاد بنية جديدة للتجارة الدولية؛ والعثور على موردين بديلين للغرب، والموازنة بين احتياجات الميزانية وأهداف التنمية، وتكييف السياسة الصناعية مع الظروف الجديدة.
مسألة السيادة: سلط الخبراء الضوء على قضايا السيادة العالمية في المجالات العسكرية والغذائية والمالية والتكنولوجية والرقمية والثقافية. هذا وقد نجحت روسيا من خلال تعاملها مع الأزمة الأوكرانية حتى اليوم، في إثبات أنها دولة تستطيع أن تقف في وجه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لما تمتلكه من اكتفاء ذاتي من الغذاء والطاقة.
السيادة التكنولوجية: توصل الخبراء إلى أنه لا توجد دول حاليًا تتمتع بسيادة كاملة على ذلك المجال، ولذا تسعى روسيا إلى التعامل مع التقنيات الخاصة بها، وتوسيع الإنتاج والقدرات التكنولوجية الروسية.
السيادة الرقمية: أصبح الاقتصاد الرقمي مكونًا مهمًا للبنية الاجتماعية والسياسية للعالم. وتستمر روسيا في تطوير تقنياتها الرقمية، وتكييف الاتجاهات العالمية مع الاحتياجات السيادية للبلد وليس العكس.
السيادة الثقافية: تم تضمين السيادة الثقافة لروسيا ضمن الأهداف الرئيسية لسياسة الدولة. ونوقشت خلال جلسات المنتدى مفاهيم مثل “الذاكرة التاريخية” و”التراث الثقافي” و”الصناعات الإبداعية”. كان من أبرز أحداث SPIEF 2023 مهرجان “روح روسيا الدولي” لشعوب الشمال، حيث أظهر المهرجان تنوع التراث الثقافي للشعوب الشمالية لروسيا، وقد حضر أكثر من 5000 شخص فعاليات المهرجان.
الإعلاء من قيمة الفرد والعائلة: خلال المناقشات، تم تحديد الأولويات الاجتماعية في السياسة الداخلية. وفي هذا السياق، ناقش المتحدثون مشاكل تعزيز الوعي العام من منظور القيم التقليدية. واعتبروا أنه من الضروري الاستثمار في “العائلة”، ويجب أن تصبح الأسرة الكبيرة المزدهرة فكرة وطنية. من أجل التكوين الكامل لشخصية المواطن وتنميتها، مع ضرورة توفير تعليم جيد وتغذية صحية وطبية لائقة وثقافة عالية وفرصة لممارسة الرياضة.
التعاون الدولي: شهد منتدى SPIEF 2023 مناقشات قوية، وتوفير مساحات للحوار لكافة المتحدثين من دول مثل الجزائر والبرازيل والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والآسيان والهند والصين وقيرغيزستان وأمريكا اللاتينية والإمارات العربية المتحدة. وعلى هامش المنتدى، تم التركيز على السوق الآسيوية.
أجندة القطب الشمالي: تم تخصيص مجموعة كبيرة من المناقشات لتطوير القطب الشمالي وطريق البحر الشمالي، مما يؤكد الدور العالمي والاقتصادي المتزايد لمنطقة القطب الشمالي. وناقش الخبراء وممثلو الشركات الكبرى ورؤساء الأقاليم الفيدرالية مجموعة واسعة من القضايا المتعلقة بجذب موظفين محترفين إلى القطب الشمالي، والتركيز على التعاون العلمي، وقضايا تغير المناخ، والطاقة، والسياحة، والبيئة.
تطوير الذكاء الاصطناعي: أصبح تطوير الذكاء الاصطناعي اتجاهًا مهمًا للتطور الحديث. في جلسة “الذكاء الاصطناعي: أساس اقتصاد المستقبل ومنارة للسيادة التكنولوجية الروسية”، لوحظ أن الذكاء الاصطناعي اليوم هو تقنية عمل تساعد الدول والشركات على أن تصبح أكثر كفاءة على منصة السباق التكنولوجي. وبدون مساهمة في تطوير الذكاء الاصطناعي اليوم، فلن يكون ستتخلف الدول عن ركب هذا التقدم غدًا.
وفي الأخير، توصل الحاضرون إلى أن النظام العالمي الجديد والاقتصاد العالمي يفتحان فرصًا استراتيجية جديدة لروسيا بهدف الشراكة التجارية وليس المنافسة مع أحد. وتم التأكيد على مركزية روسيا لتشكيل نظام عالمي جديد مع الشركاء في منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والشراكة مع رابطة دول الآسيان.
.
رابط المصدر: