محمد محفوظ
لعل من أولى المسائل المنهجية التي ينبغي الانتباه إليها، في دراستنا للفكر الإسلامي، هي تلك المتعلقة بهذا التداخل المعرفي والتاريخي بين السلطة والرمز إلى حد يصعب معه الحديث عن تاريخ سياسي أو فكرة سياسية بعيدة أو مستقلة عن ذلك الرمز الذي يمثل ذلك التاريخ أو هذه الفكرة.
هذا الاعتبار المنهجي أساسي في ضبط الأسس لهذا التداخل والتماهي بين المسألتين. ونظرة فاحصة ومتأملة للأسس التاريخية والسياسية، للكثير من النظريات والدول في عالمنا الإسلامي القديم والحديث، نجدها حصيلة لهذا التداخل والتماهي في مختلف أبعاده ومستوياته بين هذين العنصرين، ومن ثم يمكن القول، إن هذا المستوى من التداخل، يشكل القاعدة الحقيقية لكل تناول لتاريخ الفكر السياسي الإسلامي.
وليس معنى هذا، أن الفكر السياسي الإسلامي هو مجرد كينونة تراثية، تعني الثبات، بل العكس من ذلك تبدو هذه الكينونة متفاعلة ومتحركة ومتنامية، ولكن منطلق الاتصال والتراكم ليس إلغاء جانب الصراع والتدافع، أو البعد المؤسسي للفكرة، أو البحث عن توالد مستمر للقيم السياسية، أو للآفاق السياسية المنسجمة والمتناغمة مع أسس ومنطلقات الفكر السياسي الإسلامي. ولهذا كانت التراكمية على مستوى التاريخ، هي القانون الأساسي الذي لم يلغ بتجانسه وتشابهه الصراع والمدافعة بين المجتمعات البشرية قاطبة.
ولهذا فإن الجانب البنيوي والإداري في الفكر السياسي الإسلامي هام لأنه يعبر عن الثقافة التاريخية والرمزية للمجتمع المسلم في عصوره المديدة.
فالفكر السياسي والإداري له صلة مباشرة، بالجانب العقدي والنظري (الشرعي) الذي وضع الأسس، وحدد معالم العملية السياسية والإدارية والإسلامية من جهة، ويتشكل المجتمع وبناؤه المتعدد من جهة أخرى.
لهذا فإننا ينبغي أن نقرأ الفكر السياسي قراءة متوازنة ومدركة لقوانين التطور والتبدل والتغير وطبيعة العلائق القائمة بين الظواهر الحاضرة والسياسة والتاريخ. ولهذا فإن الفكر السياسي الإسلامي يفترض، حضور الإرث الحضاري والسياسي والرمزي في هذه المرحلة والحقبة من الزمن. فكيف يستوعب الحاضر الراهن العمق التاريخي والكثافة الرمزية الإسلامية؟.
لاشك أن هذا الحضور مسألة ضرورية، وتفاعل الحاضر والراهن مع الإرث الحضاري يرتبط بالعمق التاريخي للمجتمع، إلا أننا على الصعيد المنهجي، لا يمكن أن نحقق كل هذه الأمور عن طريق الشخص الواحد وبتعبير آخر إننا وانطلاقاً من مختلف العناصر المتراكمة، ينبغي الانتقال من نمط عمل الشخص والفرد الواحد، إلى عمل المؤسسات والأطر حتى نتمكن من إيجاد بؤر تفاعلية مستديمة مع الإرث الحضاري والسياسي للإسلام.
ولا بد أن يحكم عملية الانتقال، التدرج البطيء في آليات العمل، وتكون الأطر الجديدة، تجنباً لمنطق الطفرة، إننا بحاجة للذهاب قدماً نحو تفاعل جوهري بين الحالة الرمزية التي نمتلكها، والبنى المؤسساتية، بحيث تكون التعبير القادم عن الفكر السياسي الإسلامي عن طريق هذه المؤسسات والأطر.
وعلى هدى هذا نقول: إننا لا ننكر أهمية وضرورة الرمز في العملية السياسية، لأن الرمز يعني فيما يعني العمق التاريخي من أجل إكساب الممارسة السياسية شرعية خاصة، ولكنا في نفس الوقت نطمح إلى الانتقال بالعملية السياسية (على مستوى المرتكز والبنى) من عالم الأشخاص والرمزية الفردية، إلى عالم المؤسسات والأطر الادارية القادرة على استيعاب جميع متغيرات الراهن.. وعن طريق عملية الانتقال هذه، سنكتسب مجموعة من الفوائد أهمها سنضمن فاعلية النسق السياسي واستمراريته، عن طريق عملية التراكم التي لن تنقطع من جراء اعتمادنا على المؤسسة دون الفرد فقط.
ولتوضيح هذه الفكرة نقول الأمور التالية:
ضرورة التوازن وتأكيد الهوية:
لاشك أن للرمز دورا أساسيا، في تحقيق التوازن المجتمعي، وتأكيد الهوية الأساسية للمجتمع. ولكن وحتى لا يكون هناك خللاً ما في عملية التوازن أو التأكيد على الهوية لسبب ما، كان لا بد أن يكون الضامن لعملية التوازن والمؤكد لمسألة الهوية (المؤسسة) وهي مجال واسع لتوظيف متعدد الوجوه والملامح لإبقاء حالة التوازن المطلوبة في المجتمع.
والمؤسسة كمجال للحركة والعمل ستتم بصفة أساسية وهي القدرة على التلاؤم الطبيعي مع متغيرات العصر وإكساب المحتويات المنسجمة مع المرحلة. ومن هنا فإن الرمز في الفكر السياسي الإسلامي ليس مجرد إمتداد للماضي، بل هو أكثر، إنه امتداد الماضي في الحاضر، كما أنه لا وجود للحاضر والمستقبل خارج دائرة الماضي.
ولذلك فإن دعوتنا تتمثل في حفر الموروث السياسي (النظرية السياسية الإسلامية) للوصول إلى نمط جديد للرمزية، مفاده تبديل وتطوير الرمزية من شخص إلى مؤسسة، ومن حالة فردية إلى حالة جمعية تتجسد في قضية.
وإن ضعف حركة التمأسس المجتمعي، وضعف وتيرتها، ألغى فعالية الكثير من الجهود والطاقات التي بذلتها الشعوب الإسلامية في سبيل بناء البديل الحضاري. ومن المؤكد أن حركة التمأسس هذه، هي البوابة الطبيعية لتشكيل المجتمع المدني، وعن طريق تحويل السلطة إلى مؤسسة تتجاوز مسألة إعطاء الشرعية لحاكم اغتصب الحكم بالقوة والشوكة كما وقع في ذلك بعض العلماء والفقهاء.
فالماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» قدم أقصى جهد من أجل تدعيم الأنظمة القائمة، وأراد تبرير الواقع السلطاني دون النظر إلى أصل السلطة وشرعيتها. والغزالي كتب نصاً صريحاً في «الإحياء» يشرع خلافة بني العباس وذهب إلى قبول إمارات الأمر الواقع الأخرى حتى يصل به القول: (بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الخليفة).
وابن جماعة قاضي القضاة في عهد المماليك، يدعو بصريح العبارة إلى شرعية أي حاكم يغتصب الحكم بالقوة، فقد قال هذا القاضي في كتابه «تحرير الأحكام»: (فإن خلا الوقت عن إمام فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته، لينتظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقاً في الأصح وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر، فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول، وصار الثاني إماماً، لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم) فحتى نتجاوز هذه الأخطار والتحديات ينبغي توفير المحيط الملائم لجعل السلطة سلطة مؤسساتية لا شخصية.
إننا مطالبون جميعاً للعمل على توفير الأرضية المناسبة، والمحيط الملائم للانتقال في كل دوائر عملنا ونشاطاتنا المختلفة، من العمل الأحادي الفردي، إلى العمل الجماعي والمؤسساتي، وصولاً إلى السلطة السياسية.
ومن المعروف أنه قد تداخلت تاريخياً كل العوامل النفسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية لتسهم مجتمعة في وجود ظاهرة السلطة في المجتمع الإنمائي، ويمكننا أن نطلق على هذه العوامل بالضرورات الوظيفية التي استدعت وجود السلطة.
ولهذا فإن السلطة في الواقع الخارجي ليست حالة بسيطة، إنما هي حالة مركبة – معقدة تتشكل من مجموعة قوى عن طريق علاقة هذه القوى المختلفة والمتنافسة تمارس السلطة دورها ونفوذها في المجتمع. وبالتالي فإننا أمام حقل قوي في علاقة هذه القوى المختلفة والمتنافسة تمارس السلطة دورها ونفوذها في المجتمع. وبالتالي فإننا أمام حقل قوي في علاقات دائما فيما بينها، يوزع تبعا لهذه العلاقات ولتنوعاتها.
والسلطة في المفهوم الإسلامي ليست هي القوة التي يتحقق عن طريقها إخضاع المجتمع وقواه المختلفة لقوة السلطة وجبروتها، كما مورست في أغلب التجارب السلطانية في العالم الإسلامي وإنما هي وسيلة متكاملة لإقامة حكم الله في الأرض. أي أنها قوة تعكس إرادة المجتمع الإسلامي بضرورة السلطة لتنظيم شؤون المجتمع والناس وفق الشرع الإلهي، وبالتالي فهي سلطة تعبر بعمق عن مشروع الإسلام في الحياة. وهذا ما يحقق أن تكون السلطة وفق هذا المفهوم والمعنى مجتمعية من حيث البنية والأداء والأهداف.
وعكس ذلك تماماً النظرة الغربية للسلطة، إذ تنظر الأفكار الغربية إلى السلطة باعتبارها كيانا ثابتا في النظام الأنثروبولوجي الغربي، وليس مجرد بنية فوقية تابعة لتحولات البنية التحتية للمجتمع. ويشير إلى هذه المسألة «مطاع صفدي» بقوله (إن كان كلاستر يرد مصطلح الصدفة لتفسير نشأة السلطة الحاكمة، كتعبير عن اللامعقول السياسي الذي يجعل فئة قليلة تسيطر على الفئة الكثيرة، فهو يجدد مدلول النظرية السياسية في المشروع الثقافي الغربي، وهو المدلول الذي وجد دائماً بين السلطة وتجسيد إرادة الأقوياء، اعتباراً من فلسفة القانون الروماني إلى سيطرة الكنيسة إلى الأنظمة الاقطاعية فالبرجوازيات الحديثة. فهناك دائماً عوامل قوة معينة تتوفر لفئة، تستطيع بها أن تخضع الفئات الأخرى. وتأتي التقنية المعاصرة كأعلى أدوات إنتاج للقوة، ولذلك فهم الغرب التقنية دائماً على أنها هي جوهر السياسية، وليس ثمة تقنية ليست سياسية أو غير مسيسة، ومنتجة في الوقت ذاته للمؤسسات التي لها السيطرة العليا والحقيقة على المجتمع الحديث).
ومن هنا فإن السؤال الذي يطرح هو ما هي دواعي مأسسة السلطة؟
وظائف السلطة
إذ ليست وظيفة السلطة الأساسية تحقيق العدل في المجتمع فقط. وإنما أيضاً الحفاظ على استقرار المجتمع وبقائه عزيزاً وشاهداً في المسيرة الإنسانية «وقد قال الإمام علي فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء».
ولا تحقق السلطة وظيفتها هذه إلا إذا أزالت مظاهر الخلل والاعتلال في بنية السلطة، ولاشك أن من المظاهر الخطيرة للخلل هو البعد الفردي أو الشخصي للسلطة، بحيث تكون السلطة وكأنها ملك شخصي لشخص لا مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني.
وبمقدار المأسسة تنجح السلطة في أداء مهماتها والالتزام بوظائفها. والجدير بالذكر في هذا المجال: أن ظهور السلطة في المجتمع ظهر باعتباره رد فعل طبيعيا عن حالة الخلل التي أصابت جوانبه المختلفة، وفي هذه الحقبة من الزمن، لا تتمكن السلطة من أداء وظائفها بدون العمل المؤسسي، لتعقد الوظائف وشمولها وتعددها، ولكن تبقى السلطة ظاهرة وظيفية في المجتمع: فينبغي ألا تقتصر في أدائها لمهامها على الدور العلاجي في إزالة الخلل في مسيرة المجتمع، وإنما لابد لها من الاستمرار في أداء دورها الوقائي الذي يهدف منع عودة هذا الخلل إلى المجتمع. وهذا لا يتأتى إلا بالمأسسة، لأنها القناة الفضلى لجعل جميع طاقات وقوى المجتمع تشارك في السلطة والإدارة ومن هنا فإن النسق السياسي له مدخلية كبيرة في استقرار المجتمع وبقائه.
قيم الإسلام في السلطة:
إذ أن السلطة في المنظور الإسلامي، ليست سلطة مطلقة يمارسها الحاكم كما يشاء، وإنما هي سلطة مقيدة بضوابط الشرع ورضا الأمة. لذلك فإن «المسؤولية السياسية العامة تقع أصلاً على عاتق الأمة كافة، لأنها هي صاحبة المصلحة الحقيقية بمقتضى توجيه الخطاب الإلهي إليها، بتحقيق ما وعدها الله تعالى من الاستخلاف في الأرض، التمكين لها فيها بالنص القرآني الصريح، ولا جرم أن المسؤولية العامة تقتضي التكليف العام وهو إنقاذ التشريع كله، إذ لا مسؤولية حيث لا تكليف، ولا تكليف حيث لا سلطة تمكن المكلفين من الأداء، وهذه هي السيادة الممنوحة للأمة شرعاً، لتدبير شؤونها كافة، والوفاء بالتزامات هذا التمكين لها في الأرض، الذي يعني قيام الدولة تمكيناً قائماً أصلاً على عقيدة الاستخلاف بالنص الصريح القاطع».
وبهذا تتكامل المسؤولية الإدارية والقيادية بين القمة والقاعدة في إطار السلطة الإسلامية. بحيث أن كل طرف يتحمل مسؤوليته ويلتزم بواجبه في سبيل تحقيق عناصر المشروع الإسلامي الحضاري في الواقع الخارجي.
ويشير إلى هذه المسألة أحد المفكرين بقوله: «أما في الإسلام فالشعب إنما يتولاها (السيادة) على الأرض بعهد الخلافة من الله وبشرط الخضوع لله، وتحقق دواعي ذلك الإيمان الجزاءات المترتبة عليه في الدنيا والآخرة. فسلطة الشعب المستمدة من سلطان الله بعهد الخلافة المشروط سلطة الشعب وفقاً على الالتزام بالشريعة» وبهذا يمكننا أن نقرر أن مصدر السيادة في السلطة الإسلامية أمران:
أ) سيادة التشريع عقائد وفضائل ومقاصد.
ب) سيادة الشعب لتوقف مشروعية القيادة والولاية العامة على من يلتزم بشرائع الإسلام وقيمه ومبادئه وتأييد الشعب له.
ومن هنا نجد أن آية الاستخلاف (النور 55) لم يتوجه الخطاب فيها لقمة الدولة أو السلطة مثلاً، وإنما توجه خطاب الآية المباركة إلى الأمة كافة، مما يفيد أن مسؤولية العمل الصالح (بمعناه العام) ليست خاصة بالقائد أو الرمز فقط وإنما لعموم الأمة الإسلامية إذ يقول تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
وعلى هذا فإن جميع قيم الإسلام والحكم لا يمكن أن يتحققا في الواقع الخارجي بدون المأسسة. وبالتالي فإن ممارسة الحاكم للسلطة في المجتمع مرهون بقدراته على أن يكون عادلاً في ممارستها، وأن لا يبدأ إلى الإجبار إلا في الحالات الضرورية التي نص عليها الإسلام. وهذا كله لا يتأتى إلا بتحويل السلطة من حالة فردية إلى واقع مؤسساتي في المجتمع.
التقدم الإنساني:
بما أن المجتمع الإنساني، يتحرك دائماً باتجاه التطور والمأسسة، لذلك ينبغي أن يطال هذا التطور البنيان السلطوي في المجتمع؛ إذ لا يعقل أن أكبر مؤسسة في المجتمع تبقى تدار بعقلية فردية شخصية في زمن تتعاظم فيه دور المؤسسات والأطر الاجتماعية وتختفي فيه تدريجياً كل الأعمال الفردية لصالح الأعمال المجتمعية.
لذلك فإن التقدم الإنساني، يفرض علينا أن نطور من الكيفية التي ندير من خلالها أنفسنا ومجتمعنا. والانتقال من الطريقة الأولية في الإدارة التي تعتمد على الفرد في كل شيء، إلى طريقة عمل المؤسسة بحيث تمتزج الآراء وتتكاتف الجهود وتصقل المواهب ويتأكد التعاون وتخلد قضايانا بخلود المؤسسة ولكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: كيف نحوّل السلطة من حالة فردية إلى واقع مؤسساتي؟
مجتمعية السلطة:
بمعنى أن تأسيس السلطة السياسية في الإسلام لا يتم من الخارج وإنما هي تنبثق من المجتمع الإسلامي ذاته، أي أن معيار الدخول في الحكم السياسي هو قدرة المرء على خدمة مجتمعه وتطويره وتقديمه، لا على ضغوطات خارجية أو توازنات سياسية وإنما وفق ارتباط الإنسان بمجتمعه، ومدى امتلاكه للمؤهلات التي تسمح له أن يباشر عملية الخدمة الرسالية من موقع السلطة السياسية للناس والأمة.
وقد نقل التاريخ ان ابن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على الخليفة عمر بن عبدالعزيز فوجد حاجباً بالباب فاستأذن منه فأذن له الخليفة ورحب به وقال له عظني، فقال حدثني أبي بلال انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول «من ولي شيئاً من أمور المسلمين ثم حجب عليه حجب الله عنه يوم القيامة.. فنادى حاجبه وقال له: الزم بيتك.. ثم قال ابن بلال بن رباح (لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة الحجاب على التوالي ولا أهيب للمسؤولين وللعمال من سهولة الحجاب لأن المسؤولين إذا وثقوا بسهولة الحجاب أحجموا عن الظلم)».
ولذلك وبما أن السلطة جاءت وتشكلت من أجل خدمة الناس والمجتمع وتنسيق أعماله ونشاطاتهم.. لذلك فهي مطالبة أن تكون على علاقة مباشرة بالناس بحيث أن تكون القاعدة الاجتماعية للسلطة واسعة لكي تستوعب كل المجتمع أو أغلبه.
وهذه الاجتماعية التي ينبغي أن تتوفر للسلطة، هي الوعاء الأول الذي يمكن أن ننطلق منه لتحقيق واقع المأسسة في السلطة، لأن حاجات ومتطلبات المجتمع عديدة وكثيرة ولا يمكن أن يستوعبها المرء بمفرده لذلك ومن واقع المجتمع ومتطلباته وعلاقاته بالسلطة نبدأ عملية التطوير والمأسسة.
تركيز قيمة الحرية في نظام السلطة:
الحرية في الإسلام ليست مفهوماً سياسياً وإنما هي جزء من المنظومة القيمية الإسلامية، وتشمل جميع أبعاد وحقوق الحياة البشرية الفردية والجمعية معاً.. ولهذا فإن الحرية الإسلامية مفهوم إنساني وسياسي واجتماعي واقتصادي شامل، بحيث أن قيم الحرية وأشكالها ينبغي أن تتحقق في كل الحقول وعلى مختلف المستويات والصعد.
وعند التحقيق في الكثير من القيم والمبادئ الإسلامية نجد أنها ترتد إلى مقصد الحرية التي جاء التشريع الإسلامي من أجل المحافظة عليها ومنع عوامل وأسباب الاعتداء عليها.. ولهذا نرى أن «القرآن الكريم صريح الدلالة على اعتبار ازهاق النفس الإنسانية دون وجه حق، بمثابة قتل الناس جميعاً وأن إحياءها – وهذا هو اللازم العقلي للحكم الأول جاء به صريحاً تأكيداً له – في حكم إحياء الناس كافة، قال تعالى {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}.
وفي هذا إيماء بوجوب التكافل الإنساني للعمل على استئصال شأفة هذه الجريمة النكراء من المجتمع البشري كله، لأنها – في حكم هذا التشريع – تشكل تهديداً خطيراً لوجوده، وتحدياً لمشاعره وتقويضاً لأمنه، واستقراره، وهو ما يتنافى مع رسالة الإسلام في الإصلاح العالمي».
وعلى هذا وحتى يتحقق تطلع المأسسة لا بد من تكريس قيم الحرية في السلطة وممارساتها المختلفة.
ومن هنا فإن «أزمة الشورى أو الديمقراطية في مجتمعات المسلمين لن تعالج بأشكال دستورية تضفي على نظام السلطان، إلا يؤصل الأمر ويؤسس على أصل الدين المضيع، وبالإسلام تصبح السلطة خلافة مسؤولة في الأرض تحتلها الجماعة ولا تكلها إلى أفراد أو فئة، وبالإسلام تكون الشورى نظام حياة شاملاً لا ممارسة سياسة محدودة.. فالأسرة تقوم على التراضي والتشاور والتكافل لا على الاستبداد، فيتربى فيها الفرد والداً ومولوداً على المشاركة لا على الاستئثار، والتجارة تنعقد عن تراض وتعادل لا عن استغلال وتظالم، والعلم والرأي كله متاح مباح لا يكتم العلم ولا يحتكر ولا يحجر الاجتهاد ولا يقصر على الأفذاذ.
هكذا شؤون الحياة جميعاً تقوم على أصول من حرية الكسب ومن وصله بنظام الكسب العام مع الآخرين، وهذا التوازن أو التوحيد بين الحرية والنظام أو الحقوق والواجبات هو دعامة نهج الشورى وهو ضمانة الدولة الرشيدة التي تستمد من الرعية ولا تستبد دونها ولا تكبتها».. وهكذا نحقق عملية المأسسة المطلوبة على صعيد السلطة والمجتمع.
وهذا كله يقودنا إلى القول:
إننا مطالبون جميعاً للعمل على توفير الأرضية المناسبة، والمحيط الملائم للانتقال في كل دوائر عملنا ونشاطاتنا المختلفة، من العمل الأحادي الفردي، إلى العمل الجماعي والمؤسساتي، وصولاً إلى السلطة السياسية في مجتمعاتنا الإسلامية التي ينبغي أن تكون سلطة ذات قاعدة مؤسساتية بحيث أن تحقق قيم الإسلام في واقع ممارستها وحركتها الداخلية والخارجية.
وتستوعب القوى الاجتماعية والسياسية التي تشكلت في المجتمع.. وبهذه الطريقة نقيم سلطة سياسية منسجمة مع الإرث الحضاري والقيمي لأمتنا، ومتناغمة مع متطلبات العصر وضروراته.
.
رابط المصدر: