في لقاء مع “سكاي نيوز عربية”، هذا الأسبوع، أكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بوضوح لا لبس فيه، أن المغرب متمسك بموقفه من قطع العلاقات مع إيران، وأن العلاقات ستبقى على حالها في ضوء استمرار تهديدات طهران استقرار المغرب. فعلى مدى سنوات طويلة، عرفت العلاقات المغربية الإيرانية مداً وجزراً كبيرين. في عهد الشاه كان البلدان يتقاسمان كثيراً من الصفات المشتركة، ليس أقلها أنهما يمثلان ملكيتين عريقتين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فضلاً عن تموقعهما في خانة البلدان الحليفة للغرب زمن الحرب الباردة. البعد الشيعي لإيران لم يكن له حضور كبير قبل الثورة التي قادها الإمام الخميني، إذ كان رجال الدين الشيعة يعيشون شبه عزلة عن السياسة وعن الدولة في الحوزات الدينية في قم، وساهمت أخطاء الشاه ومحيطه في تحويل التدين الشعبي الشيعي من مجرد طقوس وعقيدة وتمثل لتاريخ آل البيت، إلى اختيار شعبي جارف يوفر إيديولوجية للتغيير في البلد إلى جانب ما كانت تطرحه القوى اليسارية والليبرالية.
ساهم غياب الشاه وقيام نظام تيوقراطي في طهران في فك الارتباط بين البلدين، بل تحوّل الأمر مع آيات الله بعد الثورة مواجهة ومنافسة تضيقان وتتسعان بحسب الظروف الدولية والإقليمية.
العلاقات المغربية الإيرانية هي أكثر تعقيداً مما يظهر على السطح، هناك مستويات عدة لهذه العلاقات التي لم تستقر منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، لهذا يمكن القول إن التوتر هو السمة الغالبة على العلاقات بين البلدين.. القرار المغربي، قبل سنتين ونصف السنة، القاضي بقطع العلاقات مع طهران والتي كان تم استئنافها أصلاً، سنوات قليلة قبل ذلك، يجد مبرراته في ما أثاره وزير الخارجية المغربي بخصوص تورط السفارة الإيرانية في الجزائر في تيسير دعم “حزب الله” اللبناني ميليشيات البوليساريو، سواء على مستوى التدريب أم على مستوى إحداث تحول نوعي في أسلوب العمليات العسكرية التي هددت بها البوليساريو أكثر من مرة في السنوات الأخيرة. هذا الأمر لم يكن بإمكان الرباط أن تقبله، بخاصة أن “حزب الله” كما يعلم الجميع، يمثل أداة لخدمة المصالح الإيرانية لا يخطئها التحليل السليم، ولو أن تورطه في دعم ميليشيات البوليساريو يبقى غير مفهوم بالنظر إلى أن إيران، على مدى سنوات من الصراع المفتعل في الصحراء المغربية، لم تبد أي تأييد لخيار انفصال جنوب المغرب برغم التوتر الذي كانت تعرفه العلاقات بين البلدين، وهنا يطرح كثير من علامات الاستفهام، بخاصة أن ذلك تزامن مع الموقف الروسي من قرار مجلس الأمن المتعلق بالصحراء المغربية الرقم 2414، إذ يمكن القول إننا أمام ثلاثة احتمالات ربما قد تكون منفصلة أو مرتبطة بعضها ببعض لتفسير قطع العلاقات بين البلدين:
الاحتمال الأول يعود بنا إلى المخاض الذي عرفه القرار 2414 داخل مجلس الأمن الدولي، والدور الذي قامت به روسيا في التضييق على مكاسب المغرب في النسخة الأولى للقرار الذي أعدّته الولايات المتحدة الأميركية، ما يمثل معه احتمال انزلاق النزاع المفتعل في الصحراء تدريجياً إلى نطاق حرب باردة جديدة قائمة عملياً بين روسيا والغرب، فهل يمكن تصنيف دعم “حزب الله” جبهة البوليساريو الانفصالية على أنه عمل من أعمال “المناولة” لخدمة أجندة إيرانية تصب في مصلحة روسيا، وذلك بجعل التوتر في المنطقة أمراً مستمراً يساهم في دفع نزاع الصحراء إلى الواجهة الدولية، وهو ما يخدم مصالح البوليساريو بوضوح؟ يضاف إلى ذلك انخراط المغرب في مشروع أنبوب الغاز الرابط بين نيجيريا والمغرب ثم أوروبا، وهو مشروع يضعف التأثير الروسي المزوّد الرئيسي لأوروبا بالغاز الطبيعي، فإذا علمنا أن الغاز يمثل خلفية رئيسية للحرب الجارية في سوريا، يمكن تقدير حجم الرد الروسي عند إضعاف تحكمه في سوق الغاز في أوروبا…
الاحتمال الثاني الذي يفسّر هذا التوتر هو الصراع الديني في أفريقيا بين البلدين، حيث يسجل هنا العمل المكثف الذي تقوم به إيران في نشر التشيع وفق الرؤية الإيرانية في المنطقة، وهذا يمسّ الحضور التقليدي المغربي، بخاصة في أفريقيا الغربية.
الاحتمال الثالث الذي قد يفسّر استمرار الإصرار على قطع العلاقات، هو التوتر الجاري بين طهران والسعودية وعدد من بلدان الخليج، إذ إن المغرب، بخاصة بعد القمة الخليجية المغربية، يلتزم بعمق بالعلاقات مع الخليج رغم ما عرفته العلاقات بين الرباط والرياض وأبو ظبي من مد وجزر على خلفية الأزمة الخليجية. كما يجب ألا ننسى أن المغرب وإيران كانا في مواجهة عسكرية غير مباشرة في اليمن، إذ كان المغرب في فترة سابقة منخرطاً، ولو رمزياً، في عملية “عاصفة الحزم”، بينما تدعم إيران كما هو معلوم الحوثيين.
هذه الاحتمالات الثلاثة، تفسر، ولو بنسب مختلفة ومتفاوتة، قرار المغرب قطع العلاقات مع طهران وتجديد ذلك من خلال التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية المغربي.
هناك من يفسر قطع المغرب العلاقات مع إيران بكونه يريد توظيف التصعيد ضد إيران، بخاصة من جانب أميركا، من أجل كسب تأييد هذه الأخيرة لإنهاء أوهام البوليساريو في المنطقة، وهو ما لا يسنده أي دليل، وهنا يجدر التذكير بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية المغربي لطهران طلباً للتوضيحات أياماً قبل القرار، وهو ما يؤكد أن خيار قطع العلاقات الثنائية لم يكن خيار المغرب الأول، لذلك يمكن القول من دون تردد، أن مصلحة المغرب في قضيته الوطنية الأولى هي الباعث على اتخاذ قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بعيداً عن لعبة المحاور.
بالتأكيد يتزامن قرار قطع العلاقات مع التوتر القائم بين دول الخليج وطهران والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية على خلفية إلغاء دونالد ترامب إلتزامات الولايات المتحدة بموجب الاتفاق المعروف بالاتفاق النووي الإيراني. لهذا يمكن اعتبار أن هذا التزامن، موضوعياً، يصبّ في مصلحة عزل إيران في المنطقة، أما الموقف الأميركي من قضية الصحراء فهو محكوم باعتبارات مختلفة، فيها ما هو ظرفي وفيها ما هو استراتيجي، والراجح أنه من الصعب تغيير الرؤية الاستراتيجية لواشنطن بخصوص النزاع المفتعل في الصحراء عبر قطع العلاقات مع طهران، كما لا أعتقد أن الدولة المغربية تتوهم ذلك…
رابط لمصدر: