روبرت سكيدلسكي
لندن- إن وباء كوفيد-19 هو أول أزمة عالمية كبرى في تاريخ البشرية يتم التعامل معها على أنها مسألة رياضية، حيث تعتبر الحكومات السياسة حلا لمجموعة من المعادلات التفاضلية. وباستثناء بعض الحالات الاستثنائية -بما في ذلك، بالطبع، الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب- فإن معظم القادة السياسيين يعتمدون على “العلم” بخنوع في معالجة الفيروس. وكان أوضح مثال على ذلك، التحول المفاجئ لحكومة المملكة المتحدة إلى سياسة الإغلاق الصارمة في 23 مارس/أذار، بعد توقع مرعب لباحثي كلية “إمبريال كوليدج لندن” بأن البلاد ستسجل ما يصل إلى 550.000 حالة وفاة، إذا لم يتم فعل شيء لمكافحة هذا الوباء.
إن نَمذجة كهذه هي النهج العلمي الصحيح عندما لا تسمح المسألة بإجراء تجارب معينة. إذ يمكنك اختبار دواء جديد عن طريق إخضاع مجموعتين من فئران المختبر لظروف متطابقة، باستثناء الدواء الذي أعطي لهما، أو عن طريق اختباره على أشخاص يتم اختيارهم بطريقة عشوائية في التجارب السريرية.
ولكن لا يمكنك حقن البشر بفيروس ما عمدا لاختبار آثاره، مع أن بعض الأطباء في معسكرات الاعتقال النازية فعلوا ذلك. ويستخدم العلماء، بدلاً من ذلك، معرفتهم حول مسببات الأمراض المعدية، لنمذجة نمط العدوى من المرض، ومن ثم تحديد التدخلات السياسية التي ستقوم بتعديله.
لقد تم تطوير النمذجة التنبؤية لأول مرة للملاريا منذ أكثر من قرن، من قبل الطبيب الإنجليزي الشبه المنسي، رونالد روس. ففي كتاب رائع أصدر عام 2020، أظهر عالم الرياضيات وعلم الأوبئة، آدم كوتشارسكي، كيف حدد روس، لأول مرة، البعوض باعتباره العامل المعدي من خلال التجارب على الطيور. وانطلاقا من هذه الحقيقة، طور نموذجًا تنبئيًا لانتقال الملاريا، والذي أطلق عليه لاحقًا نموذج “SIR” (عرضة للإصابة، الإصابة، الشفاء) للأمراض المعدية.
ولم يكن السؤال الذي أثاره علماء الأوبئة المهتمون حول سبب انتشار الوباء، بل حول سبب نهايته. وخلصوا إلى أن الأوبئة تنتهي بصورة طبيعية، عندما يصاب عدد كاف من الأشخاص بالمرض بحيث تنخفض معدلات انتقال العدوى. وفي الأساس، يخرج الفيروس من جسم المصاب حيث يمكنه إعادة إنتاج نفسه. وفي لغة اليوم، يطور السكان “مناعة القطيع”.
إن العلم الذي طُور من نموذج روس الأصلي مقبول عالميًا تقريبًا، وقد طُبق تطبيقا مثمرا في سياقات أخرى، مثل العدوى المالية. ولكن لا يوجد صانع سياسات مستعد للسماح للوباء القاتل، بأن يدير مجراه الطبيعي، لأن عدد القتلى المحتملين سيكون غير مقبول.
وعلى أي حال، قتلت الأنفلونزا الإسبانية التي تفشت في الفترة 1918-1919 حوالي 50 إلى 100 مليون شخص من بين سكان العالم البالغ عددهم ملياري شخص: وهو معدل وفيات يتراوح ما بين 2.5٪ و 5٪. ولا أحد يعرف على وجه اليقين كيف كانت ستكون معدل وفيات كوفيد-19 لو لم يتم التحكم في انتشار فيروس كورونا.
ونظرًا لعدم وجود لقاح كوفيد-19 حاليًا، كان على الحكومات إيجاد طرق أخرى لمنع “الوفيات الزائدة عن الحد”. واختار معظمهم عمليات الإغلاق، التي تبعد ساكنات بأكملها عن مسار الفيروس، ومن ثم تحرمه من المضيفين.
وبعد شهرين من الإغلاق الأوروبي، تشير الأدلة إلى أن هذه التدابير وحدها لم يكن لها تأثير طبي كبير. فعلى سبيل المثال، سجلت السويد، التي اتخذت إجراءات إغلاق خفيفة على نحو استثنائي، عددًا أقل من وفيات كوفيد-19 بالنسبة إلى عدد سكانها، مقارنة مع إغلاق إيطاليا وإسبانيا. وبينما طبقت كل من المملكة المتحدة وألمانيا إجراءات إغلاق صارمة، أبلغت ألمانيا حتى الآن عن 96 حالة وفاة لكل مليون نسمة، مقارنة بـ 520 لكل مليون في المملكة المتحدة.
ويبدو أن الاختلاف الحاسم بين ألمانيا والمملكة المتحدة يكمن في استجاباتهم الطبية. إذ بدأت ألمانيا الاختبار الشامل، وتتبع الاتصال، وعزل المصابين والمعرضين في غضون أيام قليلة منذ تأكيد أول حالات الإصابة بـكوفيد-19، وبذلك أعطت نفسها فرصة للانطلاق في مهمة إبطاء انتشار الفيروس.
وبالمقابل، فإن المملكة المتحدة متعثرة بسبب عدم الترابط في مركز الحكومة، وما أسماه وزير الخارجية السابق ديفيد أوين (الذي يعمل طبيبا) “التخريب الهيكلي”، الذي لحق بقطاع الصحة الوطنية بسبب سنوات من الاقتطاعات، والتفتت، والمركزية. ونتيجة لذلك، افتقرت البلاد إلى الأدوات الطبية اللازمة للاستجابة على الطريقة الألمانية.
ولا يمكن للعلم تحديد ما يجب أن تكون عليه استجابة كوفيد-19الصحيحة لكل بلد. ويمكن اعتبار النموذج صالحا إذا كانت تنبؤاته تتوافق مع النتائج في الحياة الواقعية. ولكن في علم الأوبئة، يمكننا أن نثق في أن هذا لن يحدث إلا إذا سمح للفيروس ذي الخصائص المعروفة بتشغيل مجراه الطبيعي في مجتمع معين، أو إذا كان هناك تدخل واحد مثل اللقاح، والذي يمكن التنبؤ بنتائجه بدقة.
إن الكثير من المتغيرات- بما في ذلك، على سبيل المثال، القدرة الطبية أو الخصائص الثقافية- يخلِط النموذج، ويبدأ في وضع سيناريوهات وتنبؤات مثل الروبوت المجنون. واليوم، لا يمكن لعلماء الأوبئة أن يخبرونا عن آثار مزيج سياسة كوفيد-19الحالي. ويكتفون بقول: “سنعرف فقط في غضون سنة أو نحو ذلك”.
ومن ثم سوف تعتمد النتيجة على السياسة. وسياسة كوفيد-19 واضحة بما فيه الكفاية: إذ لا يمكن للحكومات أن تخاطر بالانتشار الطبيعي للعدوى، وتعتقد أنه معقد للغاية، أو محفوف سياسيا بمحاولة عزل الأشخاص الأكثر عرضة لخطر الإصابة بمرض شديد أو الموت، أي 15-20٪ من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا.
لقد كانت الاستجابة الافتراضية للسياسة هي إبطاء انتشار المناعة الطبيعية حتى يكون تطوير لقاح ممكنا. وما يعنيه “تسطيح المنحنى” حقًا هو تباعد عدد الوفيات المتوقعة على مدى فترة طويلة بما يكفي لتتكيف المرافق الطبية مع الوضع، ولتطوير اللقاح.
ولكن هذه الاستراتيجية لديها نقطة ضعف رهيبة: إذ لا يمكن للحكومات إبقاء سكانها في الحجر حتى وصول اللقاح. وبصرف النظر عن أي شيء آخر، فإن التكلفة الاقتصادية لا يمكن تصورها. لذا، عليها تخفيف الإغلاق تدريجيًا.
ومع ذلك، فإن القيام بذلك يرفع سقف معدل عدم التعرض المكتسب من الإغلاق. لهذا السبب لا يوجد لدى أي حكومة استراتيجية خروج واضحة: ما يسميه القادة السياسيون “التخفيف المحكم” لعمليات الإغلاق يعني، في الواقع، التقدم المتحكم فيه نحو حصانة القطيع.
ولا يمكن للحكومات أن تعلن ذلك علانية، لأن ذلك يعني الاعتراف بأن حصانة القطيع هي الهدف. ولم يُعرف حتى الآن ما إذا كانت العدوى تمنح الحصانة وإلى متى. إذا، من الأفضل بكثير، تحقيق هذا الهدف بصمت، تحت سحابة من التعتيم، وأمل على أن يصل اللقاح قبل إصابة معظم السكان.
رابط المصدر: