مقدمة
شهدت العلاقات السعودية الصينية خلال السنوات الأخيرة تطوراً غير مسبوق شمل التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وقد أظهرت كل من السعودية والصين رغبات متبادلة في تعزيز العلاقات الثنائية؛ تجلّت في زيادة مؤشرات التبادل التجاري، وفتح بنوك صينية في السعودية، وصفقات تسلح، واعتماد السعودية تدريس اللغة الصينية في بعض المدارس والجامعات الحكومية في سابقة عربية فريدة.
وفي الوقت الذي كانت تمر فيه العلاقات السعودية الأمريكية بتوترات، خصوصاً في عهد الرئيس الأمريكي الديمقراطي باراك أوباما، كانت العلاقات السعودية الصينية تتحسن بشكل مطرد، وتتسابق مع الدول الإقليمية إلى الانضمام إلى مشروع طريق الحرير الذي تتبناه الصين؛ رغبة في الاستفادة من مزاياه.
تبحث هذه الورقة دوافع التقارب السعودي الصيني، وما المدى المتوقع لهذا التقارب في ظل التخوفات الأمريكية الأوروبية من تزايد النفوذ الصيني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟
سيرورة العلاقات السعودية الصينية
على الرغم من أن البلدين وقّعا أول معاهدة صداقة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1946 في مدينة جدة السعودية فإن البدايات الفعلية للعلاقات الرسمية الكاملة بين الدولتين تأخرت حتى عام 1990. وكانت العلاقات قد توقفت 20 عاماً؛ بدءاً من 1949 حتى 1979، مع استمرار الاتصالات المحدودة، وتعد زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز، حين كان ولياً للعهد، إلى الصين عام 1998 هي الزيارة الأعلى مستوى من ناحية الوفد الرسمي للجانب السعودي إلى الصين.
وبعد أشهر من تصديق الكونجرس الأمريكي على قانون (جاستا)، والتفاهمات الأمريكية الإيرانية حول اتفاق النووي، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بأول زيارة إلى السعودية في يناير/كانون الثاني 2017، تم خلالها التوقيع على 14 اتفاقية، شملت التعاون في مجالات الفضاء والعلوم والطاقة المتجددة، وقد أُعلن خلال الزيارة رفع مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين إلى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، كما تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة رفيعة المستوى.
وفي مارس/ آذار 2017 قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية إلى الصين، ليكون أول عاهل سعودي يزورها، ووقّع الجانبان فيها اتفاقيات تجاوزت قيمتها 65 مليار دولار، من بينها إنشاء مصنع صيني للطائرات العسكرية من دون طيار في المملكة.
وقد سبقت الزيارة الثالثة للملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى الصين زيارتان له قبل أن يتولى الملك؛ كانت الأولى في عام 1999 حينما كان أميراً لمنطقة الرياض، والثانية عام 2014 حينما كان وليّاً للعهد.
من جهته زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، الصين في فبراير/شباط 2019 كمحطة ثالثة في جولته التي شملت باكستان والهند، تم التوقيع خلالها على العديد من الاتفاقيات، وكانت الزيارة الأولى لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الصين عام 2016، وقع من خلالها اتفاقية مع نائب رئيس الوزراء الصيني لإنشاء لجنة مشتركة سعودية صينية، حيث تم الاتفاق أيضاً على محضر أعمال الدورة الأولى لهذه اللجنة.
وخلال اللقاء بين ولي العهد السعودي ونائب رئيس مجلس الدولة الصيني تم توقيع 15 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الحكومتين الصينية والسعودية في مجالات متعددة، من أبرزها الطاقة، وتخزين الزيوت، ومجالات التعدين والتجارة، وكذلك تم توقيع اتفاقية مع وزارة الإسكان السعودية لإنشاء مدينة جديدة في ضاحية (الأصفر)، وتوقيع اتفاقية أخرى لتنمية (طريق الحرير المعلوماتي)، كما شملت الاتفاقيات مذكرة تفاهم بين وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية للتعاون في المجال العلمي، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الموارد المائية.
زاد حجم التجارة البينية بين السعودية والصين بشكل لافت منذ عام 2000، وفقاً لجريدة الرياض السعودية (23 فبراير/شباط 2019)، وفي عام 2008 بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 32 مليار دولار، وهو ما يجعل السعودية أكبر شريك تجاري للصين في غرب آسيا، ووفقاً لتصريحات السفير الصيني في السعودية (2018)، لي هواشين، فإن التبادل التجاري بين المملكة والصين ارتفع 18% خلال عام واحد، حيث وصل إلى أكثر من 50 مليار دولار في 2017، ويُتوَقع أن تدعم مبادرةُ الحزام والطريق التعاون التجاري بين البلدين.
الدوافع السعودية
ترى الرياض في العلاقة مع بكين مجموعة من المزايا التي قد تنعكس على تحسين مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية بجهود محدودة وكلفة أقل من مثيلاتها في الدول الغربية.
– تعاون غير مشروط
على عكس الدول الغربية ذات النظم الديمقراطية لا تشترط الصين أي شروط على الدول التي ترغب في شراء السلاح، أو تربط تأييدها السياسي بإصلاحات سياسية أو قانونية وبمستوى حقوق الإنسان فيها، وتتميز الصين كذلك باستقرار الحكم فيها بيد حزب واحد مقارنة بالدول الأخرى.
وبالعودة إلى العلاقات السعودية الصينية فمن الغرابة أن التعاون العسكري بين البلدين سبق التعاون السياسي وتأسيس العلاقات الدبلوماسية؛ فقد اشترت السعودية من الصين صواريخ باليستية متوسطة المدى في ثمانينيات القرن الماضي، في حين لم تتأسس العلاقات الدبلوماسية الكاملة إلا في مطلع التسعينيات (1990)، إذ تلجأ السعودية إلى أسواق بديلة لشراء احتياجاتها العسكرية عندما ترفض أمريكا بيعها لها، خصوصاً الأسلحة ذات التكنولوجيا المتطورة، أو الصواريخ ذات القدرات النوعية.
– تعدد البدائل والتحالفات
الانفتاح السعودي على الصين ليس استثناءً، وإنما يعبر عن استراتيجية تبنتها السعودية تهدف من خلالها إلى تنويع الحلفاء، والتوجه شرقاً باتجاه روسيا والهند والصين، لكن الأخيرة أخذت النصيب الأكبر؛ نظراً للإمكانيات والمكانة التي تتمتع بها (الصين) بوصفها إحدى الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، وتعد القوة الاقتصادية الثانية في العالم، كما تهدف السعودية إلى إبعاد الصين، أو إضعاف علاقتها على الأقل مع منافستها الإقليمية إيران، وتقليل الحاجة الصينية إلى النفط الإيراني، وهو ما يزيد ضغط العقوبات الاقتصادية على صانع القرار الإيراني، على أمل أن تحد من سياساته التوسعية.
ومن جهة أخرى ترى السعودية فائدة إضافية في علاقتها مع الصين مبنية على تذبذب علاقة الصين مع تركيا، التي تعكرها سياسات الصين المتشددة تجاه الأقلية المسلمة (الأويغور) من وجهة نظر تركيا.
بالإضافة إلى أن تطور العلاقة مع الصين يعطي رسائل لبعض الحلفاء، وخاصة أمريكا، وتحديداً التيار الديمقراطي الذي ينتهج سياسة متشددة تجاه المملكة، زادت حدتها منذ مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي؛ بأن السعودية لا ترهن مصالحها لخيارات دولة محددة، ولو كانت بمكانة الولايات المتحدة، وإنما لديها (السعودية) بدائل لتحالفاتها الدولية، ولو بمستويات متفاوتة تمكنها من حماية مصالحها.
– سوق متعطشة للنفط
الاقتصاد الصيني اقتصاد كبير، ومن أسرع اقتصادات العالم نمواً، ويحتاج إلى النفط ومصادر الطاقة بشكل عام، وفي الوقت الذي تتراجع فيه طلبات الاقتصاد الأمريكي له؛ نتيجة اعتماده على النفط الصخري المحلي، تزداد الحاجة المتبادلة إلى النفط وتسويقه لكل من الصين والسعودية، ففي عام 2004 استثمرت شركة (أرامكو) السعودية في الصين بقيمة ثلاثة مليارات دولار لبناء منشأة للبتروكيميائيات في مقاطعة فوجيان جنوب شرق الصين، تعالج ثمانية ملايين طن من النفط الخام السعودي، وفي عام 2005 نمت التجارة إلى 59%، وتجاوزت السعودية دولة أنغولا كأكبر مصدّر نفط للصين، وفي الربع الأول من عام 2010 وصلت صادرات النفط السعودي إلى الصين إلى أكثر من مليون برميل، وتجاوز حجم صادرات النفط السعودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وتصدر شركة (سابك) السعودية بتروكيميائيات للصين بأكثر من مليارَيْ دولار سنوياً.
وبحسب جريدة الاقتصادية السعودية (22 فبراير/شباط 2019) فقد سجلت التجارة البينية السعودية – الصينية قفزة كبيرة خلال عام 2018، إذ ارتفعت بنسبة 32%، بما يعادل 56 مليار ريال، لتبلغ نحو 230.3 مليار ريال مقابل 174.3 مليار ريال في 2017، لتكون الصين بذلك أهم شريك تجاري للمملكة خلال 2018.
الدوافع الصينية
– مركزية السعودية في القرار العربي والإسلامي
تنظر الصين إلى المملكة العربية السعودية على أنها دولة مركزية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي سيضفي التعاون معها مشروعية على سياسة الصين الخارجية مع الدول العربية والإسلامية، ويعزز مكانتها الدولية في علاقاتها وثقلها في موازين القوى الدولية.
تعاني الصين خلال السنتين الأخيرتين من تشويه صورتها في العالم الإسلامي؛ نتيجة السياسات القمعية التي تطبقها على مسلمي الأويغور، وتخشى من دعوات المقاطعة الاقتصادية وحالة الكراهية تجاهها، لذلك ترى في تطوير علاقتها مع السعودية بمكانتها الدينية أهمية في تحسين صورتها الخارجية.
ومن جهة أخرى، وفي صراعها مع الولايات المتحدة، وما يستلزمه مشروعها الاستراتيجي (طريق الحرير) من تعزيز وجودها- حتى الوجود العسكري- في المنطقة العربية مستقبلاً، وبحكم الموقع الجغرافي للسعودية وإمكانياتها المادية، فإن الصين تحرص على إيلاء السعودية اهتماماً خاصاً في استراتيجيتها.
خاتمة
ثمة حاجات متعددة ومتبادلة بين السعودية والصين تدفعهما لتطوير علاقاتهما الثنائية في أكثر من مجال، تمكن الدولتين من تعدد خياراتهما وحلفائهما، والتحرر من الابتزازات، بما يمكنهما من ضمان مصالحهما، لكن علاقة السعودية والصين تصل إلى مستوى وحجم محددين، ومن ثم يتوقف تعزيزها على طبيعة علاقات السعودية مع أمريكا، التي تعد محدداً رئيسياً في مسار العلاقات السعودية الصينية.
أبدت السعودية تفهماً غير مسبوق تجاه الإجراءات التي تقوم بها الحكومة الصينية بحق الأقليات المسلمة، كما دعمت الصين موقف السعودية في حربها في اليمن الداعمة للحكومة اليمنية، وهو ما يؤكد بقاء وتطور العلاقات السعودية الصينية خلال الفترة القادمة، خصوصاً إذا ما عاد التيار الديمقراطي إلى البيت الأبيض من جديد بعد الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها هذا العام 2020، وعاد للممارسة الضغوط على السعودية.
إن العلاقات السعودية الصينية، وعلى الرغم من التقارب المتسارع، لا تزال أقرب إلى التكتيك منها إلى التحالف الاستراتيجي، لا سيما أنها لم تختبر بعد، غير أن النفط الصخري الأمريكي والتذبذب والانكفاء في المواقف الأمريكية تجاه بعض الملفات المهمة للسعودية يمكن أن يدفع نحو تحالف سعودي صيني استراتيجي ولو في ملفات محددة، مع الإقرار بأن القيادات السعودية والأمريكية ما زالت تعتقد بأن علاقات الدولتين استراتيجية وتحقق المصالح المشتركة، ولو أنها قد شهدت تراجعاً عن مستواها السابق.
رابط المصدر: