محمود قاسم
منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر 2014 وقد دخلت الأزمة اليمنية مرحلة مختلفة من التحولات التي تراوحت بين الدبلوماسية والعسكرة، بل ساهم الاستيلاء على صنعاء في تشكيل خريطة التفاعلات داخل اليمن، بحيث فتحت الباب أمام مزيدٍ من الانخراط الإقليمي والدولي في الأزمة؛ إذ سعت بعض الأطراف لتوظيف الأزمة في تعزيز حضورها وتمددها الإقليمي، في حين عملت أطراف أخرى على احتواء التصعيد ومحاولة تجاوز حالة الفوضى وعدم الاستقرار على خلفية التحرك الحوثي تجاه صنعاء.
وبعد نحو سبعة أعوام، لا يزال السلام مفقودًا في اليمن، خاصة في ظل تعقد المشهد وتباين المصالح وتشابكها، سواء تلك المرتبطة بالأطراف الداخلية أو الخارجية، وخلال عمر الأزمة تشكلت التفاعلات بين التهدئة تارة والتصعيد تارة أخرى، دون تغليب لأي منهما على حساب الآخر.
وفي ظلّ الترتيبات الإقليمية التي تشهدها المنطقة، وإعادة صياغة التحالفات وترتيب الأوراق بين عددٍ من الفواعل، والتوجه نحو تجاوز الأزمات، وبحث سبل التهدئة؛ يظل البحثُ عن حلحلة الأزمة اليمنية قائمًا في ظل الارتباط الوثيق بين التفاعلات الإقليمية الراهنة وانعكاساتها المحتملة على الأزمة اليمنية.
عام البندقية والرهانات الدبلوماسية الخاسرة
شهدت الأزمة اليمنية نوعًا من الجمود، خاصة في المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاق استكهولم عام 2018؛ إلا أن عام 2021 كان بمثابة عام التحولات الكبرى في عمر الأزمة، إذ عول عدد من الأطراف على إمكانية بحث سبل التسوية وحل الأزمة خلال العام المنصرم، إلا أن تلك التطلعات اصطدمت بتحولات ميدانية غير مسبوقة، بحيث يمكننا وصف العام المنصرم بعام البندقية، في دلالة على حدود التصعيد العسكري الكبير في عدد من الجبهات بعد الهدوء النسبي خلال عامي 2019 و2020. فمع مطلع العام وتحديدًا في فبراير 2021 كانت محافظة مأرب على موعد مع هجمات مكثفة خاضتها مليشيا الحوثي عبر جبهات متعددة بهدف السيطرة على المحافظة.
وقد استهدفت من وراء تلك الهجمات تحقيق جملة من الأهداف، لعل أبرزها توسيع نطاق سيطرتها الجغرافية، وحصد الجائزة الكبرى ببسط نفوذها على مأرب لما تتمتع به من أهمية استراتيجية ترتبط بكونها المعقل الأخير للحكومة الشرعية، فضلًا عما تتمتع به من ثروات نفطية كبيرة، كما أن السيطرة عليها قد يسمح بالتمدد تجاه الجنوب اليمني، وفي سبيل ذلك حشدت مليشيا الحوثي أدواتها العسكرية لحسم تلك المعركة، إلا أنها لم تنجح في ذلك خلال الأشهر العشرة الماضية.
ولم تكتفِ مليشيا الحوثي بالتصعيد الداخلي فحسب؛ بل شهد عام 2021 تصعيدًا خارجيًا تجاه أهداف استراتيجية خليجية، بحيث باتت المملكة العربية السعودية ضمن بنك الأهداف الرئيسي للهجمات الحوثية العابرة للحدود، خاصة مناطق: جازان، نجران، وعسير، وذلك بسبب التقارب الجغرافي والحدود المشتركة للمناطق الثلاث مع محافظة “صعدة” اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
وقد تصاعدت الهجمات الحوثية تجاه السعودية خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 لتصل إلى ما يقرب من 78 هجومًا في الشهر الواحد، مقارنة بنحو 38 هجومًا خلال المدة نفسها من عام 2020، وفقًا لتقرير صادر عن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” (CSIS). وتشير تلك الأرقام إلى توجه الحوثيين نحو تغليب الأداة العسكرية في الأزمة اليمنية، سواء في الداخل أو الخارج، كما تدل على مدى تطور القدرات العسكرية وامتلاك المليشيا لأدوات نوعية، كالطائرات المسيرة، والصواريخ الباليستية، والكروز. ومن ناحية أخرى، أعلن المتحدث باسم التحالف العربي في اليمن خلال مؤتمر صحفي (26 ديسمبر)، أن الحوثيين أطلقوا ما يقرب من 430 صاروخًا باليستيًا، ونحو 851 طائرة مسيرة تجاه السعودية منذ عام 2015.
كما لم يشهد عام 2021 أية تحولات تُذكر أو تقدمًا في مسار التسوية السياسية. فعلى الرغم من التفاؤل الذي صاحب تغيير الإدارة الأمريكية، والرغبة المعلنة من قبل إدارة “بايدن” في توظيف الأدوات الدبلوماسية في دفع مسار التسوية وحلحلة الأزمة؛ إلا أن الحصاد العام للموقف الأمريكي لم يخرج عن دائرة الرغبات؛ بل إن الرهان الأمريكي لم يحقق أية نجاحات، خاصة أن الإدارة الجديدة وجدت أن اتّباع نهج قائم على المرونة والابتعاد عن التشدد قد يُغير من موقف الحوثيين ويدفعهم تجاه التسوية، حيث قامت الولايات المتحدة برفع الحوثيين من قائمة التنظيمات الإرهابية، كما أوقفت الدعم العسكري لعمليات التحالف.
ومع ذلك، لم ينجح التوجه الأمريكي في احتواء الصراع وتحييد الأداة العسكرية للحوثيين، بل على العكس من ذلك يبدو أن مليشيا الحوثي قد وجدت في المرونة الأمريكية مبررًا لتوسيع هجماتها في الداخل والخارج، حيث بدأت الزخف تجاه محافظة مأرب تزامنًا مع قرارات الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن مبادرة الرياض التي تم الإعلان عنها في مارس 2021 لم تنجح في تسكين الصراع، خاصة في ظل تعنت الحوثيين ورفض وقف إطلاق النار، على الرغم من أن المبادرة حققت مطالب الحوثيين التي ظلت الجماعة متمسكة بها طيلة الأزمة، وفي مقدمتها فتح مطار صنعاء، ورفع الحصار عن ميناء الحديدة.
هل تحدث الانفراجة؟
وسط المتغيرات الميدانية التي تشهدها الساحة اليمنية، يظل البحث عن إيجاد صيغة للسلام والتسوية أمرًا بالغ الصعوبة والتعقيد، مما يجعل من الانفراجة المأمولة خلال العام القادم محل شك، ورغم ذلك ستتوقف مسارات الأزمة اليمنية خلال عام 2022 على جملة من المحددات، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
أولًا- المتغيرات الميدانية والعسكرية: سيتحكم التغير في الميدان وقدرة أطراف الأزمة على تحقيق مكاسب عسكرية في مسار الحركة خلال الفترات القادمة، بحيث يمكن أن تصبح السيطرة الميدانية سلاحًا ذا حدين. ففي حال نجاح الحوثيين في تحقيق هدفهم في السيطرة على محافظة مأرب، فقد يدفعهم ذلك للتمدد ومحاولة توسيع نطاق السيطرة الجغرافيا، كما يمكن أن يقود الحسم العسكري خاصة من قبل التحالف العربي إلى إرغام الحوثيين على القبول بالتسوية، ويتماشى هذا الطرح مع التغير الملحوظ الذي طرأ على استراتيجية التحالف. فبعد تراجع ضربات وهجمات التحالف لفترات طويلة خلال عامي 2019 و2020، شهدت الفترة الحالية نمطًا مغايرًا للضربات والهجمات الموجهة ضد الحوثيين، بحيث باتت تركز بالأساس على شل القدرات العسكرية للمليشيا من خلال استهداف مخازن وورش تصنيع السلاح، بالإضافة للمنصات والتمركزات التي تستخدمها الجماعة لإطلاق المسيرات والصواريخ الباليستية، سواء في الداخل اليمني أو تجاه المملكة العربية السعودية، وهذا التغير يشير ضمنًا إلى أن التصعيد العسكري لقوات التحالف أصبح يمثل خيار الضرورة، في الوقت ذاته توعد الحوثيون برد مؤلم وموجع تجاه المملكة، مما يشير إلى حدود التصعيد العسكري المحتمل خلال الفترات القادمة.
ثانيًا- قدرة الحوثيين على استجماع القوة: على الرغم من سيطرة مليشيا الحوثي على مساحات واسعه في اليمن، إلا أن الفترة الأخيرة كشفت عن عدد من التحديات التي تواجه الجماعة، من بينها ما يُثار حول الصراع الداخلي بين عدد من الأجنحة والقيادات، خاصة فيما يتعلق بإدارة وترتيب المشهد الحالي، كما أن استهداف قيادات وعناصر مؤثرة داخل الجماعة يمكن أن تؤثر بالسلب على مجمل حركة الحوثيين، ولعل مقتل “حسن إيرلو” قد أصاب الجماعة بنوع من الارتباك، في ظل الروايات التي تشير إلى مقتله في إحدى هجمات التحالف العربي، حيث لعب “إيرلو” دور العقل المدبر ومهندس العمليات الحوثية منذ وصوله إلى صنعاء في أكتوبر 2020.
وينظر لاستهداف قيادات مليشيا الحوثي على أنه أكبر التحديات الراهنة التي تواجه المليشيا، إذ شهدت الأشهر الماضية خسائر بشرية كبيرة في صفوف الحوثيين، من بينها عدد من القيادات العسكرية والميدانية المؤثرة، ومن المحتمل أن يزداد استهداف القيادات الحوثية خلال الفترات المقبلة، خاصة بعدما أعلن التحالف العربي اختراق الجماعة، والنجاح في الوصول إلى قمة الهرم والدوائر القيادية العليا لدى الحوثيين. وعليه ستصبح قدرة الجماعة على تجاوز تلك التحديات واستجماع القوة محددًا رئيسيًا في مسار الأزمة.
ثالثًا- الترتيبات الإقليمية والدولية: يُرجَّح أن تنعكس نتائج التفاهمات الإقليمية والدولية والترتيبات التي تشهدها الساحة في الوقت الراهن على عملية السلام في اليمن، بحيث يمكن أن يسهم أي مردود إيجابي وتقدم في تلك الترتيبات في حدوث انفراجه في الأزمة، حيث لا تنفصل الأزمة اليمنية عن تلك التفاعلات، إذ إن التقارب الإيراني السعودي حال نجاحه سيقود لتهدئة الأوضاع في اليمن والتوصل لتسوية بين أطراف النزاع، كما أن التوصل لاتفاق بين إيران والولايات المتحدة الأمريكي بشأن الملف النووي قد ينعكس بشكل كبير على مسار الأزمة.
وبالتالي يمكن ملاحظة حدود الارتباط بين موجة خفض التصعيد الإقليمي ومساعي التهدئة ومستقبل الأزمة اليمنية، فحدود الانفراجة تتوقف على التقدم الذي يمكن أن يشهدها التفاهم السعودي الإيراني ومباحثات فيينا، وما يدعم هذا الطرح وجود رغبة لدى السعودية والتحالف العربي في إنهاء الأزمة اليمنية، كما أن إيران قد تسعى لتوظيف ورقة الحوثيين ودفعهم للقبول بالتفاوض لإقناع المجتمع الدولي برغبتها في تغيير سياستها الإقليمية، خاصة أن هذه المفاوضات ستحفظ لطهران نفوذها في اليمن، إذ ستُبقي على الحوثيين كطرف رئيسي في الترتيبات المستقبلية لكن بأدوات السياسة بعيدًا عن العسكرة.
رابعًا- دور المجتمع الدولي في فرض التسوية: ترتبط التسوية المستقبلية للأزمة بمدى فعالية المجتمع الدولي ونجاحه في الضغط على الأطراف المتصارعة للقبول ليس فقط بالجلوس على طاولة المفاوضات ولكن بالالتزام بمخرجات أية اتفاق مستقبلي، ويظهر خلال الفترات الماضية تصاعد مستوى الرفض والرغبة الدولية في إنهاء الصراع وتسويته سياسيًا، مما قد يحفز من جهود الوساطة خلال العام المقبل، على أمل تحقيق اختراق في هذا المسار.
ويمكن أن تلعب مسقط هذا الدور، خاصة أن تلك الوساطة تجد قبولًا من أطراف الصراع، كما يمكن أن تكثف الولايات المتحدة الأمريكية جهودها في هذا الصدد، خاصة أن إنهاء الحرب في اليمن يظل أولوية للبيت الأبيض. ولكن في حالة الوصول لتلك المحطة، والقبول بالتفاوض، تظل الحاجة لوجود ضمانات تمنع الارتداد للمسار العسكري مرة أخرى، وهي ضرورة يجب على الجماعة الدولية أن تؤمنها، خاصة أن الخبرة التاريخية تشير لانقلاب الحوثيين على كافة المسارات السياسية ومساعي التفاوض، سواء تلك التي حدثت في أعقاب اتفاق السلم والشراكة 2014، أو الانقلاب على اتفاق استكهولم 2018، أو ما حدث من خلال رفض كافة المبادرات الرامية لوقف إطلاق النار كما حدث عبر رفض الجماعة لمبادرة الرياض في مارس 2021. وهو ما يعني ضرورة البحث عن آلية لفرض عقوبات على من يعرقل جهود التسوية في حالة التوافق وقبول أطراف الأزمة بالشروع في المسار التفاوضي، خاصة أن مليشيا الحوثي دائمًا ما كانت توظف جولات التفاوض لتعزيز قدراتها واستجماع قوتها والعمل على تخفيف الحد من خسائرها وسرعان ما تعود مرة أخرى لحالة العسكرة.
في الأخير، لا يحتمل أن يشهد عام 2022 تسوية شاملة للأزمة اليمنية، وما يمكن أن يحدث تحقيق تسويات جزئية ترتبط بعملية وقف إطلاق النار بين الطرفين، والدخول في جولة من التفاوض كمحاولة لرسم ملامح المستقبل، وتظل مسارات التسوية أو التصعيد مرتبطة بالمشهد الإقليمي والدولي خاصة ما يتعلق بالمصالحات والتهدئة الإقليمية أو ما يرتبط بالمفاوضات النووية.
.
رابط المصدر: