سارة فوير
في أعقاب اتفاقيتَي السلام الأخيرتين اللتين أبرمتهما إسرائيل مع كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، ركزت معظم التحاليل والتعليقات العامة على ما قد ينذر به التطبيع بالنسبة لعلاقات إسرائيل مع الدول العربية الأخرى، وإمكانية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ومثلث العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات. بيد أن هاتين الاتفاقيتين تنطويان على بُعدٍ لا يلقى الاهتمام نفسه مع أنه يتمتع بالأهمية نفسها، وهو تداعياتهما على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل عام – سواء من حيث ما تكشفانه عن الاتجاهات الأعمق التي تميّز النظام الإقليمي القائم اليوم، أم ما قد تشير إليه ردود الفعل على الاتفاقيتين حول مسار المنطقة في المستقبل القريب.
وفيما يتخطى الدوافع المباشرة التي حفّزت هاتين الاتفاقيتين – أي شبح عملية ضم الأراضي في إسرائيل، ورغبة الإمارات في انتزاع أكبر قدر ممكن من إدارة ترامب التي قد تنتهي ولايتها قريباً، وتحقيق التقارب بين أبوظبي والحزب الديمقراطي الصاعد [في استفتاءات الرأي العام] قبل انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر – يعكس تطبيع العلاقات بين إسرائيل وهاتين الدولتين الخليجيتين وجود صراع أوسع بين معسكراتٍ إقليمية تتنافس لرسم معالم النظام في المنطقة. وفي حين أن جذور هذا الصراع تعود إلى عدة عقود، إلا أن التطورات التي أحدثتها انتفاضات عام 2011 زادت من حدة الانقسامات بين هذه المعسكرات، فاهتز النظام الإقليمي نفسه بشدة بسبب أحداث ذلك العام وما تلاها.
ويضم المعسكر الأول إيران وحلفاءها (أو وكلاءها)، ومعظمهم من الشيعة في مختلف أنحاء المنطقة، بمن فيهم الميليشيات المختلفة في العراق، والنظام السوري برئاسة بشار الأسد، و «حزب الله» في لبنان، علماً بأنه يمكن أيضاً إدراج حوثيي اليمن ضمن هذه المجموعة، شأنهم شأن حركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين» في غزة بالرغم من هويتها السنية. أما المعسكر الثاني فيتألف من الدول السنية التي اتّحدت – في خطاباتها وإن لم يكن دائماً في أعمالها – حول هدف واحد هو مواجهة جهود إيران لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى هدف آخر برز مؤخراً وهو الحد من نفوذ جماعة «الإخوان المسلمين» والحركات الإسلامية السنية التي تفرعت عنها وبدت لفترة قصيرة مهيّأةً للتنامي بعد عام 2011. وعادةً ما توصف هذه البلدان بـ”المعتدلة” أو “العملية” بحكم علاقاتها الإيجابية عموماً بالغرب، وإيمانها بأفضلية الأمة السيادية على أي كيان أو هوية عابرة للحدود الوطنية، إضافةً إلى انفتاحها النسبي على الوجود الإسرائيلي في الجوار. وتشمل هذه الدول الإمارات والسعودية ومصر والأردن والبحرين والمغرب. وفي المقابل، ثمة معسكرٌ ثالث يضم الدول والحركات السنية المتعاطفة مع «الإخوان المسلمين»، وهي تركيا وقطر وحركة «حماس» في غزة وبعض الأحزاب السياسية الإسلامية التي ما زالت تنتشر في المنطقة. وفي حين أن الترويج للإسلام السياسي ليس المبرر الوحيد – أو حتى السائد في بعض الحالات – الذي يحفز سلوك تلك الجهات الفاعلة، إلا أنه يبقى عنصراً رئيسياً في استراتيجياتها الهادفة إلى تعزيز شرعيتها الذاتية، وعاملاً جوهرياً في تفسير تحالفاتها الإقليمية. وأخيراً، تضم المجموعة الرابعة فلول تنظيمَي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» («داعش») والحركات الجهادية التابعة لهما في جميع أنحاء المنطقة.
ومع احتدام المنافسة بين تلك المعسكرات، ظهرت خلال العقد المنصرم ثلاث حقائق إضافية لها تأثيرٌ مباشر على اتفاقيتي السلام الأخيرتين. أولاً، كان المحور الذي تقوده إيران متماسكاً نسبياً، وهذا ليس هو الحال بالنسبة للمعسكرات الثلاثة الأخرى. فتنظيما «القاعدة» و«داعش»، على سبيل المثال، اعتبر كل منهما الآخر مصدر تهديد أكثر منه حليفاً، على الرغم من الصلات الأيديولوجية بين هذين التنظيمين الجهاديين. وكانت الدول السنية البراغماتية تميل إلى تشكيل تحالفات ظرفية قائمة على تصوراتها بوجود تهديد مباشر وعلى القدرات المتاحة بدلاً من الأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى، ويعود ذلك جزئياً إلى الخلاف فيما بينها حول تحديد أولوية تهديدين رئيسيين هما نزعة التوسع الإيرانية (التي تشكل مصدر قلق كبير للرياض والمنامة) والإسلام السياسي المشابه لأسلوب «الإخوان المسلمين» (وهو مصدر التخوف الرئيسي لأبوظبي والقاهرة). ونتيجة لذلك، واجه هذا المعسكر صعوبةً في التصدي للتوسع الإيراني وإخماد ما تبقّى من جمر الإسلام السياسي.
ثانياً، عززت إسرائيل مكانتها بشكل متزايد كحليفٍ للمعسكر السني البراغماتي، كما يتجلى من حملتها العسكرية المستمرة منذ سنوات لإحباط ترسخ إيران في سوريا، ومساعدتها العسكرية الهادئة لمصر في سيناء، ناهيك عن تعاونها الأمني السري إلى حد كبير، والمفترض على نطاق واسع، مع مختلف الدول الخليجية التي تَعتبر هي أيضاً إيران مصدر تهديدٍ لها.
ثالثاً، على الرغم من استمرار القوة العسكرية النسبية في لعب دور في تكوين التصورات عن التهديدات وفي قيام التحالفات في مختلف أنحاء المنطقة، أصبحت القوة الناعمة تشكل محركاً مهماً للتطورات الإقليمية بشكل متزايد. إذ لم تظهر قطر كطرف فاعل إقليمي بفعل إنجازاتها العسكرية الخاصة بها ولكن بفعل مهارتها في استخدام ثروتها الهيدروكربونية الهائلة – التي استُعمل جزءٌ منها لتمويل العمليات العسكرية لحلفائها في المنطقة، أمثال تركيا و«حماس» – ووجود وسيلة إعلامية مؤثرة على أراضيها هي قناة “الجزيرة”. وإذا كانت كل الأنظار شاخصة نحو خطوات السعودية المقبلة (هل ستقوم الرياض بالتطبيع أم لا؟)، فليس ذلك لأن المملكة تمتلك ترسانة عسكرية مذهلة بشكل خاص، بل لأنها تتمتع بنفوذ كبير في جميع أنحاء المنطقة من خلال قدرتها المالية وشرعيتها الدينية كأرض الحرمين الشريفين.
وأبرز دليل على هذه التوجهات الرئيسية الآنف ذكرها هو الاتفاقيتان الموقعتان في واشنطن في 16 أيلول/سبتمبر. فالصراع الطويل بين المعسكرات، والدرجات المتفاوتة من التماسك بين هذه المجموعات المتنافسة، وظهور إسرائيل كحليف رئيسي للتكتل السني البراغماتي، وظهور القوة الناعمة كعامل متزايد الأهمية في الشؤون الإقليمية، جميعها تطوراتٌ أدت مجتمعةً إلى اتخاذ أبوظبي (ومن بعدها المنامة) قرار التحالف العلني مع إسرائيل. وفي حين أنه من السابق لأوانه الحكم على كيفية تنفيذ هاتين الاتفاقيتين، فمن المنطقي الافتراض بأن التطبيع الذي يعزز المعسكر السني/الإسرائيلي البراغماتي سيعمّق على الأرجح الانقسامات الإقليمية بين البراغماتيين والإسلاميين من جهة، وبين المعسكر البراغماتي والمعسكر الذي تقوده إيران من جهة أخرى. ومن الممكن أن تنتج عن ذلك عدة سيناريوهات.
في السيناريو الأول، سيتدهور الاستقرار بشكل أكبر في شرق البحر الأبيض المتوسط. فما بدأ هناك كصراع للوصول إلى الغاز الطبيعي وخلافٍ على الحدود البحرية بين دول حوض شرق المتوسط، تحوّل إلى مواجهة عدائية متزايدة بين تركيا (وقطر في الخلفية) من جهة والتحالف المؤلف من اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل والأردن والإمارات من جهة أخرى. وفي الأصل، كانت دوافع التوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط محليةً، ولكن بمرور الوقت، أدّى كلٌّ من إصرار أردوغان المتعاظم ورغبة الإمارات اللاحقة في كبح الطموحات التركية إلى توريط شرق البحر المتوسط في الصراع الأوسع على النفوذ بين مختلف المعسكرات في الشرق الأوسط. ولعل الحرب في ليبيا – حيث حلّ الجمود بين القوات المدعومة من تركيا/قطر والقوات المدعومة من مصر/الإمارات (إلى جانب المرتزقة الروس) – هي أوضح مثال على ذلك، وربما تمهّد لمزيد من الاضطرابات في هذا المجال إذا رأى أردوغان أن اتفاقيات التطبيع الأخيرة هي محاولة أخرى لعزله.
وهنا، ثمة احتمال آخر ذو صلة بهذه المسألة ولكنه أكثر دراماتيكية، وهو أن يؤدي التعاظم المتصوَّر للمعسكر “البراغماتي” إلى ترسيخ المعسكر التركي-القطري-الإيراني، أي دمج المعسكر الحالي لجماعة «الإخوان المسلمين» وتركيا مع المحور الإيراني. وقد ظهرت دلالة على هذا الاحتمال بعد وقت قصير من الإعلان عن اتفاقيتَي التطبيع – وبعد شهر تقريباً من استضافة أردوغان لاثنين من قادة «حماس» في اسطنبول – وذلك حين سافر رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية إلى لبنان للقاء أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، وكانت هذه زيارته الأولى إلى لبنان منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً، وكان هدفها المعلن تعزيز “استقرار محور المقاومة” ضد إسرائيل. لذلك فإن الدعم التركي المتزايد لحركة «حماس» خلال العقد المنصرم وتمويل قطر لحكومة «حماس» قد يدفعان هاتان الدولتان إلى إيجاد قضية مشتركة مع إيران بشكل متزايد.
السيناريو الثالث والمثير للاهتمام بشكل خاص قد ينطوي على تحوّل في توجهات نظام الأسد في سوريا. فمن بين جميع ردود الفعل التي ظهرت على اتفاقيتي التطبيع الأخيرتين، ربما كان الصمت النسبي للأسد هو أكثر ردٍّ مفاجئ، نظراً لاعتماد النظام السوري الظاهري على طهران، ودعمه الكلامي الثابت للقضية الفلسطينية على مر السنين، وعدائه المستمر منذ مدة طويلة تجاه إسرائيل. ولكن الرد الصامت من نظام الأسد على الاتفاقيتين الأخيرتين ربما يعكس رغبة دمشق في العودة إلى الحضن العربي بعد عدة سنوات من الاستبعاد النسبي، ويعكس حتماً حسابات الأسد الذي يعتبر أنه سيحتاج على الأرجح إلى الأموال الإماراتية للصمود – ولكنه أيضاً إشارة إضافية على أن القوة الناعمة تطغى على أهمية القوة العسكرية. وسيكون من المهم مراقبة الديناميات التي ستتبلور في سوريا بتأنٍّ، خاصة إذا كانت تمهيداً لتحوّل أعمق في توجه هذا النظام وحتى تغييرات أعمق في تركيبة وقوة المعسكر الذي تقوده إيران.
وعلى وجه التحديد، بما أن التنبؤات عن مسار السياسة في الشرق الأوسط محفوفة بالشكوك، سيتوجب على صانعي السياسات في إسرائيل التفكير فيما قد تكشفه الردود على التطبيع حول الديناميكيات المتغيرة المحتملة في المنطقة ككل، وخاصة التركيبة المتغيّرة وتوازن القوى بين كتلها المختلفة. وبعد مرور ما يقرب من عقد من الزمن على سلسلة الانتفاضات التي قلبت النظام الإقليمي رأساً على عقب، قد يتبين أن اتفاقيتي التطبيع الأخيرتين تشكلان هزّة ارتدادية ضخمة.
رابط المصدر: