مقدمة
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، بدأ الحديث من أطراف عدة عن مستقبل الحكم الذاتي في قطاع غزة، لاسيما أن أحد أهداف الحرب تدمير البنية التحتية والمؤسسية والحكومية، وتقويض حكم حركة حماس للقطاع، وفتح المجال لفرض معادلات جديدة تفضي إلى تحديد شكل جديد لحكم غزة، وجهة جديدة سوى حماس لتنفيذه.
طرحت إدارة الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، مبادرة تدعم عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، وأرفقتها بمطالب ومساع لإصلاح السلطة الفلسطينية وتجديدها وتهيئتها لهذا الدور، لكنْ رفَضَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، بتصريحات عدة له، عودة السلطة إلى غزة أو بقاء حكم حماس فيها. أبدت السلطة موافقتها على العودة إلى قطاع غزة بشروط، منها رفض بقاء إسرائيل وأن تكون هذه العودة جزءًا من مسار التوجه نحو الدولة وتوحيد الضفة وغزة(1). أبدت عدة دول رغبتها بعودة السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، منها الاتحاد الأوروبي ودول عربية. وعلى ضفة الفصائل الفلسطينية، تجري نقاشات داخلية ومحاولات للمسارعة في عقد مصالحة فلسطينية تسهم في التوصل لصيغة مشتركة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس لبحث سبل إيقاف الحرب ومستقبل قطاع غزة.
وبينما تُطرح عدة سيناريوهات حول هذه العودة وعن دور السلطة الفلسطينية المقبل في غزة، تعاني السلطة من ضعف في قدراتها السياسية وإمكانياتها المالية؛ إذ تتحكم إسرائيل بموارد السلطة الفلسطينية بفعل تبعية الاقتصاد الفلسطيني لإسرائيل، ولا تحظى السلطة بسيادة فعلية على أرضها، وتعاني من ترهل إداري. ومنذ تولى رئاستها محمود عباس، عام 2005، تعززت فيها مركزية الحكم؛ إذ لم تعقد أي انتخابات لتجديد السلطة منذ عام 2006. ويرأس عباس أيضًا منظمة التحرير وحركة فتح ما يجعل مواقف السلطة هي الموجه الأساسي لها جميعًا إلى حدٍّ بعيد، وهذا ينطبق على مواقف السلطة المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومن عملية “طوفان الأقصى”، وعلى كل القرارات التي ستتخذها فيما يخص العودة إلى قطاع غزة.
تسعى هذه الورقة إلى مراجعة موقف السلطة الفلسطينية من الحرب على غزة، وتحلِّل ما اتخذته من مواقف أو قامت به من إجراءات عقب الحرب. ومن أهداف الورقة الأساسية الوقوف على توقعات الأطراف الإقليمية والدولية المعنية من السلطة الفلسطينية لاسيما طرح عودتها إلى غزة، فضلًا عن استشراف دور السلطة الفعلي المحتمل في إدارة غزة مستقبلًا.
أولًا: السلطة والحرب على غزة
جاءت مواقف السلطة الفلسطينية إزاء عملية “طوفان الأقصى” انطلاقًا من برنامجها الرافض للمقاومة المسلحة، وفي مواقف ومناسبات سابقة رأت أن “المقاومة” “جلبت الدمار للشعب الفلسطيني”(2)، وستجلب الانتفاضات والمواجهات المسلحة، بوجهة نظر قيادة السلطة، “نتائج سلبية وعكسية” في ظل قوة إسرائيل، مستقيةً هذا الرأي من تجربة الانتفاضة الثانية (2000-2004) كأساس لتقييم تجربة العمل المقاوِم، والتي جرت على إثرها إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية إداريًّا وأمنيًّا بطلب ورعاية أميركية في إطار خطة “خارطة الطريق”. وبهذا، فالسلطة كما ترفض المقاومة المسلحة وتمنع توسعها في الضفة الغربية(3)، فإنها لا تقبل البناء على نتائج فعلها واستغلالها سياسيًّا لأنها تناقض فكرتها وصورتها أمام داعميها، ولأنها يمكن أن تسجل بذلك نقاطًا لصالح “مشروع المقاومة” في ظل التنافس بين مشروعين. والسبب الآخر، هو خشية السلطة من التعرض للمقاطعة الأوروبية والأميركية في ظل الإدانة الدولية الواسعة لعملية “طوفان الأقصى”.
كما جاءت مواقف السلطة من عملية “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية على غزة متأثرة بالعلاقة المتوترة والخلافات السابقة مع حركة حماس على إدارة قطاع غزة. وهذا الموقف شبيه بمواقفها خلال الحروب السابقة على غزة، والتي اتخذت فيها السلطة موقفًا أقرب إلى الحياد، وأدانت استهداف المدنيين من الطرفين، وكررت فيها تصريحات تحصي كلفة الفلسطينيين من الشهداء والخسائر المادية وأنها حروب “بلا نتائج على الأرض”، وأعلنت فيها أنها تحمِّل “حماس” مسؤولية تكلفة الحرب، والتوصل إلى صيغة للخروج منها كونها هي التي اتخذت قرار المواجهة. في حين دخلت السلطة في المفاوضات على اتفاقيات الهدنة السابقة، ودعت إلى وقف الحرب الإسرائيلية، مثل ما حدث خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014(4).
وفي ذات السياق، فإن موقف السلطة ليس بعيدًا عن فشل مباحثات فتح مع حماس؛ إذ لم يستطع الطرفان إلى جانب فصائل أخرى وفي جولات تفاوض متعددة، الاتفاق على إطار وبرامج وأهداف موحدة تعيد دمج حركة حماس -وحركة الجهاد- في منظمة التحرير الفلسطينية، فضلًا عن إعادة تمكين السلطة الفلسطينية من العودة إلى قطاع غزة. والجدير بالذكر أن الطرفين اصطدما في غالبية الجولات بمسألة الترتيبات الأمنية المرتبطة بسلاح “المقاومة” ومشروعها في القطاع، فالسلطة تدعو لتبني فكرة “السلاح الواحد” في إطار اختلاف البرنامجين، وهو ما ترفضه حماس.
رغم وضوح موقف السلطة الفلسطينية من المقاومة المسلحة ومشروعها والعلاقة مع حماس، إلا أنها لم يتبلور موقف نهائي لها من المبادرات المطروحة لعودتها إلى غزة، فقد أظهرت أنها ليست في عجلة من أمرها لطرح أوراقها في الجانب المتعلق بالحكم في قطاع غزة، وظهرت مرتبكة في موقفها من عملية “طوفان الأقصى” التي تعد الأكبر في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وما تلاها من تداعيات وقد جاء تحرك السلطة وموقفها على صعيدين:
- موقف السلطة من الحرب الإسرائيلية: طالبت قيادة السلطة بوقف الحرب وإفشال مخطط التهجير، وأكدت أنها “لم تغادر القطاع حتى تعود اليه”، في إشارة للخدمات التي كانت تقدمها السلطة قبل الحرب، وتنفق ما يقارب 140 مليون دولار شهريًّا(5).
وفي ظل النقاش الأميركي والدولي لليوم التالي للحرب، اشترطت قيادة السلطة لعودتها شروطًا، منها: وقف القتال وقفًا شاملًا، وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثة، ومنع التهجير. وكذلك اشترطت خروج إسرائيل من القطاع، انسجامًا مع موقفها بإعادة توحيد حكمها في الضفة الغربية وقطاع غزة في إطار مشروع “حل الدولتين”(6)، وتعتبر السلطة أن الحرب الواقعة على القطاع تسعى فيها حكومة نتنياهو للتخلص من الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية. وأكدت على ضرورة العمل في إطار حل الدولتين(7). وأكدت رئاسة السلطة الفلسطينية في تصريحاتها على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” وصاحبة القرار فيما يخصه، و”ليست الفصائل الفلسطينية”(8)، وأرادت بذلك قطع سبيل اعتبار حماس ممثلًا للفلسطينيين في قطاع غزة، خاصة أن التفاوض حول الحرب وإنهائها ومرحلة ما بعد الحرب يجري مع حماس حصرًا.
وعلى صعيد الاستجابة الحكومية للحرب الإسرائيلية وآثارها على الفلسطينيين في غزة، ظلت الحكومة الفلسطينية عاجزة عن التدخل لمساندة القطاعات الحكومية المتضررة، بفعل انعدام السيادة والحاجة إلى الحصول على موافقة من إسرائيل التي تحاصر غزة، وصدر عن رئيس الوزراء السابق، محمد أشتية، في جلسة مجلس الوزراء تصريحات أدان فيها جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل باستهدافها للمدنيين في غزة، وسط إدانات مختلفة لإسرائيل من خلال وزارة الخارجية الفلسطينية عبر بيانات صادرة عن السفارات، ودعم وتنظيم لفعاليات ومسيرات في عواصم الأوروبية، مثل لندن دَعَتْ فيها إلى وقف إطلاق النار.
- موقف السلطة من عملية “طوفان الأقصى”: يبدو أن الرئاسة الفلسطينية كانت متحفظة في تصريحاتها حول عملية “طوفان الأقصى”، ولم تحسم موقفها بإدانة العملية بشكل مباشر ومعلن، فقد أدان الرئيس عباس استهداف المدنيين من الجانبين، إسرائيل وحماس، داعيًا إلى إطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين من الجانبين(9). ولكن بعد خمسة أشهر من الحرب، صدر بيان عن حركة فتح في منتصف مارس/آذار 2024، أدان حماس وحمَّلها مسؤولية عملية “طوفان الأقصى” واعتبر ما فعلته “مغامرة”. والبيان جاء في إطار الرد على اعتراض حماس على قرار تعيين حكومة تكنوقراط من قبل الرئيس عباس(10). ويبدو أن هناك اختلافًا في الموقف مما جرى في غزة، داخل حركة فتح نفسها، وإن كانت الغلبة والسيطرة فيه للتيار المقرب من القيادة، فقد أصدرت قيادة حركة فتح بيانًا نفت فيه تصريحات سابقة لعباس زكي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، كان قد أيد فيها عملية “طوفان الأقصى”، واعتبرتها تصريحات شخصية لا تمثل قيادة المنظمة ولا حركة فتح(11).
أما بالنسبة لموقف حركة حماس من السلطة الفلسطينية، فقد سعت منذ عملية “طوفان الأقصى” إلى محاولة التأثير على السلطة للمشاركة في المواجهة أو أن تستفيد منها للبناء عليها وطنيًّا. منها بيان القائد العام للقسام، محمد الضيف، فبعد أن أعلن عن إطلاق عملية “الطوفان” دعا السلطة إلى إنهاء التنسيق الأمني(12)، فيما خاطبت قيادة المكتب السياسي للحركة السلطة ودعتها لاستغلال الحراك الدولي والإقليمي والدفع نحو الدولة الفلسطينية بما يتوافق مع برنامج السلطة نفسها دون أن يلزم ذلك حماس بالاعتراف بإسرائيل.
وتريد حماس “حكومة وحدة وطنية فصائلية” بدل حكومة التكنوقراط، وتعتبر المطالبات الأميركية بتعيين هذه الحكومة تدخلًا خارجيًّا في الشأن الفلسطيني، لكنها ترى أن هناك أولويات أخرى قبل تحديد مصير الحكم في قطاع غزة، أهمها وقف العدوان، وأيضًا صياغة نظام سياسي فلسطيني يتعامل مع اللحظة الراهنة والمستقبل، من قبيل إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، وما جرى التفاهم بخصوصه في اتفاقيات المصالحة السابقة(13). أما الفصائل الفلسطينية فقد دعت إلى استمرار الحوار بما يحقق الوحدة الوطنية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية، وقد أوردت ذلك في اجتماعها الأخير في موسكو، نهاية فبراير/شباط 2024. وبخصوص مواجهة إسرائيل، دعت في البيان الختامي إلى مواجهة مخططات إسرائيل لتهجير الفلسطينيين من القطاع والسعي لفك الحصار عنه، والتمسك بوحدة الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة، فيما أجمعت الفصائل على دعم مقاومة الشعب الفلسطيني(14).
ثانيًا: السلطة ومفاوضة المجتمع الدولي
وجدت السلطة نفسها عقب “طوفان الأقصى” وسط سلسلة من الاتصالات الدولية التي تضعها في موقع المسؤولية لإيجاد مخرج من الحرب، كونها الطرف السياسي الذي يحظى باعتراف أممي وبعلاقة مع إسرائيل. فاتصلت بها الولايات المتحدة وأطراف عربية وأوروبية لترتيب أوراق ما بعد الحرب، خصوصًا فيما يتعلق بمشاريع إعادة الاعمار وضبط “الوضع الأمني” في قطاع غزة بما يحقق معادلة “الاستقرار” التي تريدها هذه الدول. وقد تنوعت مواقف هذه الأطراف من السلطة، منها ما ركز على إحياء مسار “حل الدولتين” وجاء في سياقه، ومنها ما ركز على دور السلطة الفلسطينية بعد الحرب لإدارة قطاع غزة.
فقد شكَّلت الحرب الإسرائيلية على غزة مدخلًا لعودة الاهتمام الأميركي بالسلطة الفلسطينية، انطلاقًا من دعم عودتها إلى غزة بعد الحرب، وإحياء مسار الدولة الفلسطينية في إطار “تحقيق السلام وحل الدولتين”. إلا أنها لم تتحدث عن حدود هذه الدولة وصلاحياتها، وما ان كانت تلك الدولة هي ذاتها التي تريدها السلطة انطلاقًا من قرارات الشرعية الدولية، أم أنها ستأتي في حدود الحلول الأميركية السابقة ومنها “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس السابق “دونالد ترامب”.
وفي هذا الإطار، أطلقت الإدارة الأميركية في مقال نشره “جوزيف بايدن” مصطلح “السلطة الفلسطينية المتجددة”. تضمن المقال دعوة لتوحيد حكم الضفة الغربية وغزة بعد الحرب دون وجود حماس، وأيد الحرب الإسرائيلية ضد هذه الأخيرة وضرورة إزالتها من المشهد(15). ظل المصطلح الجديد الذي أطلقه بايدن مبهمًا، إلى أن جرى توضيحه في لقاءات لمسؤولين أميركيين مع قيادة السلطة، منها لقاء رئيس السلطة، عباس، مع جيف سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي، وأنتوني بلينكنن وزير الخارجية الأميركي(16). فقد طالبت الإدارة الأميركية السلطة بالعمل على مجموعة من الإصلاحات الهيكلية والوظيفية، تشمل ملء عدد من المناصب الإدارية بضخ دماء جديدة، وتطوير المنظومة القضائية والأمنية والإدارية والمالية، وبعض الإجراءات الأمنية بإعادة هيكلة قوى الأمن، وسن مجموعة من التشريعات والقوانين التي تضمن مشاركة المجتمع المدني ودعم الصحافة الحرة، وتشكيل حكومة “تكنوقراط”، ومنحها مزيدًا من الصلاحيات التنفيذية، وصولًا إلى إعلان موعد الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية(17). وقد لاقت الدعوات الأميركية للإصلاحات قبولًا من الرئيس محمود عباس وترجمت مواقفها بخطوات من داخل السلطة بإعلان حكومة رئيس الوزراء، محمد أشتية، عن حزمة من الإصلاحات الإدارية والأمنية والقضائية والمالية بتعليمات من الرئيس عباس، وفي اطار لاحق، أُعلن عن إنهاء أعمال حكومة محمد أشتية، نهاية فبراير/شباط 2024، وتم إصدار مرسوم رئاسي بتشكيل “حكومة تكنوقراط” غير فصائلية دون إشراك الفصائل فيها، وتم الإيعاز بتشكيلها إلى رجل الأعمال والاقتصاد وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، محمد مصطفى، الذي حمل عدة مناصب اقتصادية منها رئاسة صندوق الاستثمار الفلسطيني ومناصب إدارية سابقة في البنك الدولي، وأوعز لحكومته القيام بعدد من المهام منها إغاثة غزة وإعادة الإعمار، وبعض من الإصلاحات التي أوردتها الإدارة الأميركية، ومنها إصلاحات قضائية ومؤسسية، وضمان حرية وسائل الإعلام، وغيرها(18).
ويلاحظ من هذه “الإصلاحات” أن جوهرها يقوم على استبعاد الفصائل الفلسطينية عن الحكم في المرحلة الراهنة، من خلال تعيين “حكومة تكنوقراط” على حساب أي حكومة توافق وطني فصائلية، وتلتقي بذلك مع النظرة الأميركية التي دعت إلى تحييد حركة حماس وإنهاء وجودها. ويظهر من هذه الإصلاحات أيضًا أنها ليست جذرية، بل إصلاحات ذات أهداف إدارية لتجديد نشاط السلطة الفلسطينية، وتعزيز بقائها في ذات الدور وفي حدود سيادتها واختصاصاتها الوظيفية.
تشبه الخطوة الأميركية المطالبة بتجديد السلطة في توقيتها ومحتواها، خطوات أميركية سابقة للخروج من حالات مواجهة مسلحة في الساحة الفلسطينية، مثل خارطة الطريق عام 2003، التي طالبت فيها الولايات المتحدة الأميركية السلطة الفلسطينية بإجراء إصلاحات قضائية وإدارية وأمنية، وكانت ضمن مسار سياسي بهدف إنهاء الانتفاضة وإعادة “فرض الأمن” وإعادة المفاوضات على أساس “حل الدولتين”، وكان من أبرز مخرجاتها استحداث منصب رئيس الوزراء بشكل منفصل عن رئيس السلطة وإعطاؤه صلاحيات ولحكومته، منها صلاحيات أمنية وتفاوضية. إلا أن واشنطن في خطوتها الراهنة لم تفرض على الطرفين مسارًا ملزمًا، فهي لم تفرض على إسرائيل أية شروط أو تجبرها على توقيع اتفاقية، ولم تفرض رأيها عليها بإعادة السلطة إلى غزة، بل استمرت في تأييدها لإسرائيل وفي تقديم الدعم المالي والعسكري واللوجستي لها، وصولًا إلى الشروع بتأسيس رصيف عائم على شواطئ مدينة غزة لدعم استمرار الحرب الإسرائيلية.
أما بالنسبة للحكومة الإسرائيلية فهي ترفض عودة السلطة الفلسطينية لتحكم في غزة، ورؤيتها هذه تصطدم مع الرؤية الأميركية التي تعارض بقاء إسرائيل في القطاع على المدى البعيد، ومع الرؤية الأوروبية التي تؤيد عودة السلطة إلى غزة على المدى المتوسط(19). فنتنياهو يركز على إطالة أمد الحرب وتحقيق أهدافها، ويعتبر الحديث عما بعد الحرب تهربًا من حالة الإجماع العام عليها داخل إسرائيل. ويحظى نتنياهو بدعم الوزراء المتطرفين في حكومته في موقفه الرافض لعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ويرفضون تقديم “تنازلات” تفضي إلى حل الدولتين. وقد دعت الحكومة الإسرائيلية إلى فرض حصار مالي على السلطة الفلسطينية، وأوقفت تسليم عائدات الضرائب “المقاصة” لها بحجة أن السلطة تقوم بتحويل جزء من هذه الأموال لغزة ولدفع مساعدات اجتماعية لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى، واتهمت السلطة بالتحريض على إسرائيل في مناهج التعليم، وأعلن نتنياهو عن عزمه تولي مسؤولية “الأمن” في غزة، بعد أكثر من 19 عامًا على انسحاب إسرائيل التام من القطاع، وبعد 17 عامًا على خروج السلطة الفلسطينية منها. لا شك أن رفض نتنياهو عودة السلطة إلى القطاع يتناقض مع مساعي إسرائيل وحكوماتها السابقة للتنصل من مسؤولياتها والتحلل من كلفة القطاع التي تتحملها لأنها قوة احتلال، وكانت تلقي بالمسؤولية على كاهل السلطة، ومنها مسؤولية وتكلفة الخدمات والأمن وسواها، حتى باتت إحدى مسؤوليات السلطة الفلسطينية المطلوبة دوليًّا وأميركيًّا والتي تضمن بقاءها في ظل انغلاق أفق مشروعها السياسي.
ثالثًا: إمكانات السلطة وقدرتها على مواجهة تحديات إدارة غزة
من المتوقع أن تواجه السلطة الفلسطينية جملة من التحديات في حال أدارت قطاع غزة مستقبلًا، وعلى رأسها إعادة إعمار وترميم ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية، ومدى القدرة على جلب الدعم في ظل حاجات القطاع الآنية والعاجلة من الإغاثة للقطاعات الأساسية ومنها الصحة والتعليم والبنية التحتية للمياه والكهرباء والشوارع والاتصالات وتوفير الغذاء ومكافحة الأمراض والأوبئة، فإمكانات السلطة الفلسطينية الاقتصادية محدودة ولا تستطيع تغطية هذه النفقات، وأرضية العمل المؤسسي باتت ضعيفة بفعل تدمير الوزارات والمؤسسات الأهلية ومقرات الجمعيات والمنظمات الدولية المساندة، وبات من الصعوبة معالجة تراكمات الوضع الاقتصادي الصعب في القطاع، والذي تفاقم بفعل حرب الإبادة والتدمير والتهجير.
فيما لا تمتلك السلطة الفلسطينية قدرات على تحقيق الأهداف الأمنية المطلوبة إسرائيليًّا وأميركيًّا كونها غابت أمنيًا عن المشهد منذ 17 عامًا، ولم يكن لديها مواقع ومقرات أمنية قبل اندلاع الحرب الأخيرة، إضافة إلى عزل من تبقى من عناصرها الأمنية خلال السنوات التي أعقبت الانقسام، لذلك تحتاج إلى تجنيد جديد، وأحد أبرز التحديات تكمن في مدى قدرتها على بناء علاقات شعبية وعشائرية في القطاع.
كما تعاني السلطة الفلسطينية، كما أي جهة ستحكم قطاع غزة، من انعدام السيادة على المعابر وعدم القدرة على التحكم بنقل البضائع والسكان وهي مجبرة على المرور بإسرائيل أو التنسيق معها، وخصوصًا في ظل الحصار الإسرائيلي الذي سيمنع أي جهة فلسطينية تحكم القطاع من إدارة الوضع الإنساني المتأزم بمعزل عن إسرائيل. ومن التحديات الأخرى أيضًا الزيادة المطردة في أعداد السكان في القطاع بفعل النمو السكاني، مما يشكل أزمة ديمغرافية على المدى البعيد، واكتظاظ سكاني لا يتناسب مع المساحة.
رابعًا: مستقبل حكم غزة
في ظل الواقع الراهن للحرب ومواقف الأطراف المختلفة الفلسطينية والإسرائيلية والدولية هناك عدة سيناريوهات لمستقبل الحكم في قطاع غزة:
السيناريو الأول: عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة: والمقصود بهذه العودة أن تكون بكامل الصلاحيات والسيطرة الكاملة التي تمكِّن السلطة من ممارسة دورها إداريًّا وأمنيًّا، ويختلف قطاع غزة عن الضفة الغربية باعتبار إسرائيل انسحبت منه عام 2005، لذلك ترفض السلطة التعامل معه مثل مناطق الضفة الغربية، وتضع السيادة الكاملة على الأرض والانسحاب الاسرائيلي ضمن شروط العودة إلى غزة، أي إنها ترفض العودة الجزئية في ظل سيطرة أمنية إسرائيلية داخل القطاع.
ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو بتحقيق الشروط التي صرحت بها السلطة للعودة إلى القطاع، ويعتمد ذلك أيضًا على مدى تنازل السلطة عن بعض شروطها، لاسيما أنها تعتمد في جانب من مواقفها وقراراتها على التوجيهات الأميركية ومطالب الدول المانحة. أي إن السلطة الفلسطينية يمكن أن تتنازل وتخفض سقف شروط العودة إلى القطاع، كما تنازلت سابقًا عن جانب من دورها وسيادتها في المناطق المصنفة (أ) في الضفة الغربية، وقد وافقت على التعاون مع إسرائيل في ملفات اقتصادية وأمنية على أرضية جديدة لا تمنح فيها إسرائيل السيادة للسلطة. ويعتمد تحقق هذا السيناريو أيضًا على مدى إمكانية تغير موقف الحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه عودة السلطة الفلسطينية، أو تغير في تشكيلة الحكومة الإسرائيلية يفضي إلى الموافقة على عودة السلطة، أو الضغط أميركيًّا على القيادة الإسرائيلية لتحقيق ذلك.
وعلى صعيد العلاقة مع حركة حماس، يمكن أن تعود السلطة إلى غزة بإحدى الطريقين: إما بالاتفاق مع حماس، والذي من شأنه أن يسهِّل على السلطة ممارسة دورها ومواجهة المشاكل والعقبات التي يمكن أن تتفاقم على المدى القصير. وللسلطة في هذا الطريق شروط تجاه حماس، فهي ترفض العودة المنقوصة لحكم قطاع غزة، وقد رفضت سابقًا العودة بصلاحيات حكومية محدودة، وترغب بالعودة في إطار صلاحيات كاملة، منها المهام الأمنية الكاملة التي تعتبرها اليوم جانبًا أساسيًّا من اختصاصاتها ودورها. بالمقابل، مبدأيًّا لا ترفض حماس عودة السلطة، لكنها تختلف معها حول الترتيبات الأمنية والوضع الأمني وصلاحيات كل طرف منهما في إدارة قطاع غزة، وأدت إلى انتهاء جولات التفاوض دون توقيع اتفاق مصالحة، وتعتبر حماس هذه النقطة مفصلية لارتباطها بسلاح “المقاومة” ومستقبلها في القطاع، في ظل اختلاف البرامج لكل من حماس والسلطة الفلسطينية.
ويمكن أن تقرر السلطة العودة إلى غزة دون اتفاق مع حماس، أي في ظل استمرار الخلاف بين الطرفين، ويعني ذلك صعوبة ممارسة الدور، وأي عودة للسلطة إلى قطاع غزة دون التوافق مع حماس والفصائل المقاومة الأخرى، تعني عودة الاشتباكات المسلحة بين جهتين أمنيتين ذواتي مرجعيات وأهداف مختلفة.
ومن تداعيات سيناريو عودة السلطة، إن تحقق، زيادة الأعباء المعيشية والاقتصادية على كاهل السلطة الفلسطينية في ظل مآلات الوضع الناجم عن الحرب في قطاع غزة، وإضفاء مزيد من أوراق الضغط عليها في ظل انغلاق مشروعها السياسي، ومحاولة ترسيخ دورها سلطة حكم ذاتي بصلاحيات محدودة.
السيناريو الثاني: عدم عودة السلطة إلى قطاع غزة: ويمكن أن يعني ذلك بقاء قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس أو تحت السيطرة الإسرائيلية لفترة طويلة ومحاولة إيجاد طرف فلسطيني يتوافق مع الشروط الإسرائيلية، كما سعت من قبل ولم تنجح لإيجاد روابط عائلية تسهم في تسيير الحكم الذاتي في ظل السيطرة الإسرائيلية. وتتمثل أسباب تحقق هذا السيناريو في فشل عودة السلطة برفض نتنياهو لعودتها إلى القطاع، وقد يتجاوز ذلك إلى رفضه للحلول السياسية التي تتطلع لها السلطة وحلفاؤها، ومنها “حل الدولتين”، من خلال دعوته إلى السيطرة الكاملة على قطاع غزة والمناطق الواقعة غرب الأردن -ويقصد بها الضفة الغربية- إلى أجل غير محدد، سواء تم الوصول إلى تسوية أو لا. واعتبر نتنياهو أن إقامة دولة فلسطينية تشكل خطرًا على إسرائيل، وقدم للكنيست مشروعًا برفض ما سماه الإملاءات الدولية لإقامة دولة فلسطينية(20)، وهذا يعني أن النوايا الإسرائيلية بالأصل هي إتمام الاحتلال العسكري المباشر لما تبقى من قطاع غزة، وبسط سيطرتها الأمنية على قطاع غزة كما الضفة الغربية.
ويحتكم هذا السيناريو إلى مدى اتساع هامش الخلاف بين حركتي فتح وحماس وعجزهما عن الوصول إلى صيغة مشتركة يتم بموجبها وقف الحرب وتحديد مستقبل القطاع، لاسيما أن الطرفين لهما توجهات مختلفة بخصوص القطاع ومستقبله، وخصوصًا بعد موافقة السلطة على الشروط الأميركية للإصلاحات، ومنها تشكيل “حكومة التكنوقراط” خلافًا لرؤية الفصائل الداعية إلى تشكيل حكومة وفاق وطني، وما تبعه من تداعيات على المواقف الصادرة عن فتح وحماس بعد صدور مرسوم تشكيل الحكومة، والتي ربما تعيق أو تلغي جولات المصالحة بين الطرفين. ويبقى هذا السيناريو أيضًا متوقفًا على الرغبة الدولية وقدرتها على تحقيق إعادة إعمار غزة في ظل هذه المعادلة، كون إسرائيل والمجتمع الدولي يعتبران ملف الإعمار بتكلفته الضخمة سيشكل مدخلًا لإعادة ترسيم مستقبل القطاع.
خاتمة
وفي ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يبقى مصير الحكم في القطاع بعد الحرب، ومنه الدعوات لعودة السلطة الفلسطينية، مرهونًا بنتيجتها على الصعيدين السياسي والعسكري. ولا يكفي النقاش الفلسطيني حول حكم غزة من مدخل المصالحة والتوافق الوطني لتحديد مصير الحكم هناك، لأن نتيجة هذه المواجهة هي أحد أبرز العوامل التي ستؤثر في المشهد مستقبلًا، أي إن قدرة إسرائيل على حسم هذه الحرب عسكريًّا تعني بقاءها في القطاع وسعيها إلى فرض شروطها لشكل الحكم وصلاحياته وطبيعة علاقتها المستقبلية بالقطاع عبر تقسيمه عسكريًّا أو إنشاء منطقة عازلة وفرض وقائع جيوسياسية على هذا الأساس. كما يشكل بقاء حركة حماس في حكم القطاع بناء على نتيجة المواجهة ومفاوضات وقف إطلاق النار عاملًا مهمًّا في تحديد مصير وشكل الحكم.
وفي حال استطاعت الجهات الوسيطة التوصل إلى اتفاق هدنة لإنهاء الحرب بمشاركة الفصائل الفلسطينية، فإن شكل الحكم في قطاع غزة سيتوقف على طبيعة الاتفاق الداخلي الفلسطيني عليه، وهذا الأخير ستواجهه جملة من التحديات، منها رفض إسرائيل عودة السلطة إلى غزة، والسعي الدولي للتأثير في مستقبل أي سيطرة أمنية لفصائل المقاومة في قطاع غزة.
إن الأوراق التي تملكها السلطة الفلسطينية محدودة وهي عاجزة عن التحكم في المشهد المقبل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإن استطاعت التصالح مع حماس بإيجاد مقاربة معها، فإنها تعاني من ضعف في بنيتها وأدائها، فهي تعاني من انغلاق مشروعها السياسي وخضوعه سياديًّا واقتصاديًّا لإسرائيل وأطراف خارجية، وغارقة في المهام الاجتماعية والخدمية المشروطة بأوضاع أمنية. ولهذا يبقى موقف الأطراف الخارجية منها، عاملًا أساسيًّا في تحديد مستقبلها، ومنه عودتها بشكل كلي أو جزئي لقطاع غزة، أو عقد مصالحة داخلية بين حركتي فتح وحماس.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5888