محمد توفيق
مقدمة
مثّل الربيع العربي عامل تحفيز كبير داخل أروقة الأكاديميا الغربية والعربية لتفكيك ظاهرة الانتفاض المفاجئ لشعوب المنطقة تجاه الأنظمة السلطوية في العالم العربي. وكان الصعود الإسلامي بشكل عام، وفي مصر بشكل خاص، مؤشرًا على انحسار عدد لا بأس به من الأطروحات التي ظلت ذات رواج فيما يتعلق بقدرات الإسلام السياسي في العالم العربي وإمكان انخراطه في العملية الديموقراطية إذا ما أتيحت له الفرصة.
لعل الدراسات المتعلقة بجماعة الإخوان المسلمين في حقبة ما قبل الربيع العربي كانت قد سلطت الضوء بصورة كبيرة على الكثير من الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للجماعة. إلا أن الصعود السياسي السلفي في مصر كان ذا وقع مختلف، خاصة مع الفقر الشديد في الدراسات والأبحاث التخصصية المتعلقة بـ السلفية في مصر.
والحقيقة أن الفترة ما بين يناير ٢٠١١ إلى يونيو ٢٠١٣ كانت قد حظيت بقدر جيد من البحث والفحص والتحليل للحالة السلفية في مصر، خاصة مع التقلبات الكثيرة التي طالت المنطقة برمتها خلال هذه الفترة. إلا أن ثمة مساحة لم تلق بعد العناية البحثية المرجوة والتي تتعلق ببعد إقليمي مهم ومتجذر في بنية الحضور السلفي العربي والعالمي، إذ أن الانتشار السلفي منذ خمسينات القرن الماضي كان بفضل عوامل محلية وخارجية فيما يتعلق بمصر، وكان العامل الخارجي هو الأكثر تأثيرًا في تحقيق هذا الانتشار عبر خمسة عقود تالية، والذي صدّرته السلفية الخليجية، السعودية بالتحديد، لمختلف دول العالم لأسباب عدة ليس هنا مجال بسطها.
إذا ما بنينا على فكرة الارتباط التمويلي والفكري والشرعي بين السلفيتين، الخليجية والمصرية، على مدى عقود طويلة وحتى لحظة الربيع العربي وما تلاه؛ فإننا من الممكن أن نثير تساؤلا مهما بهذا الصدد فيما يتعلق بدور بعض التيارات السلفية، وأخص هنا الدعوة السلفية بالإسكندرية وذراعها السياسي، “حزب النور”، في تدعيم مكونات معادلة “الثورة المضادة” في مصر منذ تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية، ثم رسم الصورة النهائية لمشهد انقلاب ٣ يوليو ٢٠١٣.
السؤال البحثي
بناءً على ما سبق يمكننا أن نصوغ سؤال البحث الرئيسي كالتالي:
ما أثر الارتباط الفكري والعقدي لسلفية الإسكندرية وحزب النور بالسلفية الخليجية (السعودية بصورة مركزية)؛ في ترسيخ موقف السلفية المتوجس من حكم جماعة الإخوان، وبالتالي اصطفافها مع محور الثورة المضادة بصورة مترددة في البداية، ثم بصورة مباشرة لاحقًا؟
سيتفرع عن هذا السؤال سؤال فرعي وهو: هل كانت السعودية من محور الثورة المضادة في مصر، وبالتالي استخدمت بعض تياراتها السلفية في دعم هذا المحور؟
الفرضية
تفترض الدراسة وجود علاقة بين سلفيتي السعودية ومصر، على المستوى الفكري والعقدي وعلى المستوى التمويلي، ساعدت هذه العلاقة بصورة ما على إمكان توظيفها في السياق المصري، ولو بمستوى فاعلية قليل، لتدعيم محور الثورة المضادة، والذي تفترض الأطروحة أن هذا المحور شكلت فيه السعودية بمختلف أدواتها رقمًا فاعلًا ومهما في انتكاس الثورة المصرية وصعود قوى الثورة المضادة داخليًا، وعلى رأسها الجيش.
سينطلق هذا الطرح كفكرة على ما أنجزه الباحث جيمي ألينسون في دراسته الموسومة بـ «الثورة المضادة كظاهرة دولية: دراسة حالة مصر»[1]، بوصفها دراسة سلطت الضوء على البعد الإقليمي للثورة المضادة، وتتبعت اتجاهات البحث في مفهومها، واستدركت على هذه الاتجاهات عددًا من الانتقادات، وبنت وفق إطار نقدي منهجي أطروحتها الأساسية التي تحلل بنية الثورة المضادة في مصر، داخليًا إقليميًا، إبان حكم الإخوان المسلمين وما تلاه.
المنهجية
نظرًا لجدة تناول الدور السلفي كبنية وفاعل في ظاهرة من ظواهر العلاقات الدولية، فإن هذه الورقة ستسعى للسير وفق منهجية تحليل الخطاب لمعالجة أفكارها المركزية، مستعينًا ضمنيًا ببعض أفكار “ميشيل فوكو”، خاصة وأن الورقة تتعامل مع عدة وحدات تحليلية، الدول، والتنظيمات أو الجماعات الدينية، والمؤسسة العسكرية.
سيتطلب اختبار جدوى هذه المعالجة البحث في جانبين؛ الأول: البنية العقائدية والفكرية التي تخلق الروابط بين السلفيتين المصرية والسعودية، ومؤشرات الارتباط التمويلي بينهما. والثاني: دوافع الدور السعودي لوجود المكون السلفي في المشهد الانقلابي في مصر وإبقاء هذا المكون في إطار وظيفي محدد.
وسيعتمد البحث بصورة رئيسية على منهجية تحليل الخطاب كأداة منهجية لفهم بِنى الخطاب العقائدي السلفي المشكل للروابط السلفية -السلفية، وبالتالي تسكين هذا الخطاب في معادلة الثورة المضادة في مصر بناءً على تبريراته الشرعية للتعامل مع الحاكم/ ولي الأمر.
فيما يتعلق بالأدبيات السابقة؛ فموضوع الورقة لم يطرح من قبل، ولم أجد، حسبما بحثت، أية دراسات تبحث في الدور السلفي في الثورة المضادة في مصر.
السلفية المصرية والسلفية السعودية: أبعاد الارتباط
تفيد عدد من الدراسات التاريخية المعنية بنشأة الدولة السعودية، الأولى والثانية والثالثة، وبنية الدولة الثالثة بالتحديد، دولة الأمير والشيخ[2]؛ بأن المكون الوهابي فيها كان رقمًا فاعلًا ومؤثرًا في معادلة الحكم مع المكون السياسي لآل سعود.
هذه المعادلة انعكست على السياسة الخارجية السعودية من حيث الأدوات المستخدمة، حيث اعتبرت فكرة نشر الفكر السلفي من أدوات توسيع مساحات التأثير في المجال الديني إقليميًا ودوليًا، خاصة مع البعد المرجعي التاريخي لمؤسسات كالأزهر في مصر والزيتونة في تونس.
وعبر ما يقارب القرن من الزمان؛ استطاعت السلفية بالدعم الخليجي، سياسيًا وماديًا، تحقيق انتشار في عدة بلدان ومنها مصر، بداية بدعم جمعية “جماعة أنصار السنة المحمدية” التي ترأسها الشيخ محمد حامد الفقي، أحد أبرز شيوخ السلفية آنذاك ممن تعلموا وارتبطوا بالسلفية السعودية بصورة كبيرة، ثم ترأسها الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وهو المصري الوحيد الذي عين عضوًا ونائب رئيس هيئة كبار العلماء بالسعودية عام ١٩٧١. ومن هذا المنطلق كانت منابر نشر السلفية في مصر والمرتبطة فكريًا وعقائديًا بالسلفية السعودية، وكان الشيخان الفقي وعفيفي من المراجع السلفية الكبرى في مصر لفترات طويلة، ويفتخر الكثير من شيوخ السلفية الآن بالتلقي الشرعي المباشر منهما.
فيما يتعلق بالارتباط التمويلي الراهن
ورد في برقية بتاريخ ٣٠ مايو ٢٠١٢، أن وزير الخارجية السابق سعود الفيصل بعث إلى رئيس الوزراء السعودي تقريرًا عن النشاطات التي يقوم بها السفير السعودي في القاهرة لتنسيق جهود ما أسماه ”التصدي لمحاولات المد الشيعي في مصر“، وينقل الفيصل في برقيته أن السفير السعودي في القاهرة أحمد قطان قد تأكد من أن معظم الرموز والمؤسسات الدينية في مصر ترفض إقامة حسينيات شيعية في مصر، ومن بين تلك الرموز والمؤسسات التي تذكرها البرقية شيخ الأزهر، وبعض أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، وجماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية وغيرها. وتشير الوثيقة إلى استمرار متابعة السفير لجهود مواجهة هذا ”المد الشيعي“، وهي المتابعة التي يجريها على مستويين: الأول هو المؤسسات الدينية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية، أما الثاني فهو رموز التيارات السلفية، كجماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية والدعوة السلفية ورموز أخرى كمحمد حسان، حيث أشار الفيصل في تقريره إلى حوار جمع السفير السعودي بحسان[3].
وفي مارس ٢٠١٢، زار الإسكندرية وفد من كلية دار الحديث بمكة على رأسهم مدير الكلية الشيخ سليمان التويجري، واستقبله حينها بمطار برج العرب بالإسكندرية عدد من رموز الدعوة السلفية السكندرية، وقام الوفد بزيارة الشيخ ياسر برهامي، أحد أهم منظّري هذا التيار في مصر[4].[5]
في عام ٢٠١٥، صدر كتاب لباحثين سلفيين مستقلين[6]، تضمن انتقادات ذاتية للداخل السلفي وفق تفاصيل وأبعاد أدركها المؤلفان بالمعايشة الطويلة مع التيار. تركزت أطروحة الكتاب على تفكيك بنية السلفية في العالم العربي وتحليل خطاباتها الشرعية والسياسية، وتنبأت بأفول السلفية ووهجها الذي استمر لعقود. كما ورد في الكتاب في فصله السادس ضمن عوامل الأفول المتوقع؛ أن قنوات الدعم الخليجي للسلفية في مختلف البلدان ستتراجع بشكل كبير[7]، خاصة مع تجفيف محمد بن سلمان لجل الموارد المادية الممكنة، فضلًا عن اعتقال أكثر الرموز الدينية المؤثرة في المملكة.
في أبريل ٢٠١٦، جمع الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودية عددًا من الرموز الدينية المعروفة في المملكة، وصرح حينها لهم أن المملكة ستظل وفية لفكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب[8]، وأن سياسات المملكة تجاه دعم السلفية في مختلف أنحاء العالم ستتغير بعض الشيء نظرًا لحالة الانحسار العام للإسلام السياسي وخاصة في العالم العربي[9]. وصرح بن سلمان من قبل أن سياسة المملكة كانت تتخذ من نشر الوهابية وبناء المدارس والمساجد في الخارج جزءًا من الحرب الباردة التي سلكتها بلاده بطلب من دول غربية[10].
الارتباط الفكري والعقائدي
أما الارتباط الفكري والعقائدي؛ فالسلفية المصرية ترتبط ارتباطًا مرجعيًا وثيقًا برموز السلفية السعودية، سواء بالنسبة لحضور مقولات محمد بن عبد الوهاب، أو الارتباط الفقهي والعقدي والفكري برموز السلفية الثلاثة الكبار: ابن باز[11] وابن عثيمين والألباني[12]. هذا الارتباط خلق موردًا مهمًا لتبرير المسار السياسي لمختلف التيارات السلفية، خاصة وأن الثلاثة يرتبطون بخيط فكري وشرعي ناظم يميل إلى “الكمون السياسي”[13]، ما جعل من استحضار مضمون خطاباتهم، ولو لم يصرح بأسمائهم، حاضرًا في التبرير الشرعي والسياسي لسلفية الإسكندرية لتمرير مواقفهم المتوجسة سياسيًا من حكم الإخوان بعد صعود محمد مرسي للحكم، ثم لتسويغ حضور مشهد انقلاب ٣ يوليو وإضفاء الشرعية عليه وفق مبدأ “اعتبار المصالح والمفاسد” الشرعية المقدرة من قِبلهم، وهو اعتبار ثاوي في خطابات السلفية السعودية بمختلف رموزها في تعاملها في الملفات السياسية[14].
هذا الارتباط تعلق بقضايا أساسية هي: الموقف من الحاكم والخروج عليه، المشاركة السياسية وحدودها، اعتبار المصالح والمفاسد الشرعية (وفق المحددات السلفية)، والموقف من الجماعات الإسلامية الأخرى، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين. وهذا الأخير يعتبر محدِّدًا مركزيًا في العقل السلفي، ومنه سلفية الإسكندرية وحزب النور، إذ إن تفكيك العقل السلفي في تفكيره السياسي والديني يشير إلى وضع جماعة الإخوان كمنافس قوي على الفضاء الديني، بل ويتطور ذلك أحيانًا لاعتباره تهديد وجودي للدعوة السلفية، التي ترى نفسها الممثل الشرعي والفهم النهائي للشريعة في مقابل فهم ”مميّع وغير منضبط“ من قبل جماعة الإخوان.
هذا المحدد هو ما ساهم بصورة كبيرة لاتخاذ الدعوة السلفية السكندرية وحزب النور موقفًا مترددًا من حكم الإخوان في ٢٠١٢، ثم ما لبث أن تطور إلي اصطفافهم مع محور الثورة المضادة، لاعتبارات” شرعية“ وفق ما يعلنون[15]، ثم مشاركتهم في مشهد انقلاب ٣ يوليو ٢٠١٣.
السعودية والربيع العربي والثورة المضادة في مصر
انطلق الموقف السعودي المناهض بكل قوة للربيع العربي من منطلق دفاعي واستباقي لتهديدين رئيسيين:
الأول: التهديد الديني من خطورة صعود الإسلاميين للحكم في بلدان الربيع العربي، مما قد يهدد أحد مرتكزين يكسبان النظام السياسي السعودي شرعيته، وهو المرتكز الديني القائم على أنها دولة “التوحيد” و”تطبيق الشريعة” و”حامية أهل السنة والجماعة”، إذ كان من المتوقع، وهو ما حدث بصورة ما مع حكم مرسي، أن يؤثر خطاب الإسلاميين الصاعدين على عموم المسلمين، وبالتالي ينسحب جزء كبير من هذه الشرعية من آل سعود، وهو ما تسميه “مي درويش” بـ« التهديد الوجودي للهويات المتشابهة The Ontological (In)security of Similarity» [16].
الثاني: التهديد السياسي لاستقرار ووجود أنظمة الخليج بشكل عام، خاصة مع انتفاضة البحرين في ١٤ فبراير ٢٠١١، والتي قمعتها بقوة السلطات البحرينية بمساعدة قوات “درع الجزيرة” التي تشكل السعودية قوامها الأكبر، خاصة مع مؤشرات حضور الفاعل الإيراني/ الشيعي كداعم للحراك البحريني، والذي كثيرًا ما توظفه السعودية كفزاعة خطابية يعتمد عليها خطابها الديني التعبوي، وذلك من خلال منابرها السلفية داخليًا وخارجيًا.
لا يبدو أن جهود السعودية لبلورة محور ثورة مضادة قد بدأ متأخرا بعد صعود الإخوان المسلمين للحكم، فقد سعت السعودية لإطلاق سراح مبارك وابنيه عقب سجنهم بعد ثورة يناير ٢٠١١، في مقابل حزمة مساعدات ضخمة لمصر، وذلك بالتنسيق مع رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، ثم قوبل العرض فيما بعد بالرفض من السعودية خشية رفض الشارع المصري ذلك[17].
ومع وصول الدكتور مرسي للحكم؛ شحّت الاستثمارات والمساعدات المالية لمصر من السعودية، ولم ترد أي تقارير عن دعم سعودي للحكومة المصرية خلال عام من حكم مرسي[18]، بينما تولت الإمارات حينها تمويل المجموعات التي شكلت لمعارضة حكم الإخوان طوال فترة حكم مرسي وحتى الانقلاب عليه في يوليو ٢٠١٣.
وهنا يأتي سؤال الموقف السعودي مجددًا؛ لماذا تتحرك السعودية باتجاه إجهاض مسيرة الثورة المصرية بهذا الشكل؟
يشير “جيمي ألينسون” في ورقته إلى بعض ملامح الإجابة عن السؤال بطرحه البعد الدولي في الثورات، إذ يذكر أنه في لحظة تحول الثوار revolutionaries إلى ثوريين revolutionary؛ لا يقاوم الثوار سلطة حكامهم فقط، بل تمتد مقاومتهم لدول الجوار، ووفق مارت وايت Martin Wight، فإن القوة الثورية تكون أخلاقيًا ونفسيًا في حالة حرب مع الجيران طيلة الوقت[19].
يرى ألينسون أن محور الثورة المضادة ارتكز على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى هي الإرث السياسي والأيديولوجي من الحقبة الناصرية الذي اعتاد استخدام شعارات الحفاظ على التنمية الوطنية والالتفاف حول الجيش. والثاني هو حزمة المصالح الإقليمية والدولية مع الطبقة الحاكمة التي ولدت في الحقبة ما بعد الناصرية في مصر[20]. والأخيرة هي التي تعنينا هنا لتزايد الدور الاقتصادي السعودي في الشأن المصري خاصة في حقبة حسني مبارك.
والحقيقة أن حجج ألينسون كانت منطقية إلى حد كبير في ورقته، فيما يخص الدور الخليجي، عدا القطري، في تشكيل ودعم محور الثورة المضادة؛ لكن يمكن استدراك أمرين على مجمل الأطروحة:
الأول: هو أن الأيديولوجيا الناصرية التي ترسخت في فترات سابقة لدى الجيش المصري، خاصة فيما يتعلق بالعقيدة القتالية؛ قد تراجعت كثيرًا في تأثيرها على رؤية قيادات وقواعد الجيش نفسه، وباتت المصالح الاقتصادية هي النقطة المحورية التي تنسج جزءًا كبيرًا من أسباب ترابط وتماسك الجيش المصري حاليًا[21].
الثاني: أن اعتبار الثورات الراهنة عملية تاريخية مفتوحة الأفق وليست ذات نتائج نهائية حالية؛ هو أمر يمكن نقده من خلال عدة حجج؛ الأولى: أن أدوات وإمكانيات محاور الثورات المضادة قد تطورت بصورة كبيرة تتدخل فيها التكنولوجيا المتفوقة بقوة حاليًا في عمليات التجسس والرصد وتحليل البيانات، وهو الأمر الذي يجعل من الثورات والاحتجاجات التقليدية غريمًا سهلًا أمام الثورة المضادة. والثانية: أن اتجاه الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية المائل صوب الانكفاء النسبي للداخل في ظل إدارة ترامب، والصعود الفج للمحور المصري السعودي الإماراتي غير المُبالي بالأخطاء السياسية الفادحة التي يرتكبها؛ يجعل إمكان دعم أية حركات تغيير واحتجاج على المدى القريب والمتوسط أمرًا صعبًا للغاية؛ والنموذجان السوري واليمني حاضران بقوة للتدليل على غلبة الواقعية على أي اعتبارات أخرى مهما كان لها بعد إنساني وإغاثي. والثالثة: أن الحالة العربية لازلت تتطلب نظرًا تحليليًا واستشرافيًا يضع في الحسبان الخصوصيات والخصائص الاجتماعية والهوياتية والثقافية المعقدة لكل بيئة عربية، فضلًا عن تعقيدات وتغيرات كثيرة تطال بنى النظم السياسية والمؤسسات العسكرية في المنطقة.
لقد طرح “محمد بامية” تفكيكًا أكثر عمقًا للــثــورة الـمـضـادة واعتبر أنها ليست مـجـرد أفراد مــن الـنـظـام الـسـابـق يتـولـون الأمــــور مـــرة أخرى، بل هـي مجموعة مـن الأفـكـار المضادة للثورة التي يتم نشرها بين الناس بهدف نزع الشرعية عن روح الثورات وفكرها وفنها وآمالها وتجاربها؛ هذه الأفكار تهدف إلى إقناع الجمهور أنه بالفعل قد توجد حاجة إلى بعض الإصـلاح، لكن الثورة نفسها كانت خطأ، يبرز مثال مصر أن الثورة المضادة ليست فقط مؤسساتية، أي بمعنى أنها تعتمد على أعمدة النظام السابق في الأجـهـزة العسكرية والأمنية والقضائية والـدولـة العميقة بأكملها، ولكن هي أيضًا مجموعة من (الأفكار). وتـمـّثـل ثـــلاثِة أفــَكار رئيـسـيـة جــوهــر الـتـرسـانـة الأيـديـولـوجـيـة لـلـثـورة الــمــضــادة حسب “بامية”: أولًا: اقـتـلاع الشخصية الثورية للإنسان العادي، وهو الدور الذي تجّلى خلال الثورة، واستبداله بمفهوم “الزعيم المنقذ” باعتباره الصانع الحقيقي للتاريخ. ثانيًا: تشويه صفة “الشعب” مـن الخالق المحق للواقع الجديد والمصدّر النهائي لكل شرعية، إلـى كتلة بشرية موسومة بالجهل والوحشية، وبالتالي هي في حاجة إلى يد قوية تحميها من نفسها. وأخيرًا: تغيير معنى “الواقعية” بعيدًا عن الأهـداف الثورية، وتجليته عبر تمثيله بوضع يظهر خطأ الثورة، بدلًا من أن يكون معالجة للتغيير المنظم[22].
خاتمة
خلصت الورقة من خلال جمعها بين ثلاث حجج رئيسية[23] إلى أن ثمة دور لعبه سلفيو الإسكندرية، وإن كان ليس بالكبير، إلا أنه أصبغ الصورة النهائية لقوى الثورة المضادة والانقلاب العسكري في ٣ يوليو ٢٠١٣ بصبغة شرعية مجتمعية متعددة التوجهات. انطلق هذا الدور من عاملين مركزيين دفعا الدعوة السلفية وحزب النور للسير في هذا الاتجاه؛ الأول: الارتباط الفكري والعقائدي بالسلفية السعودية، بالإضافة لمؤشرات لدور تمويلي سعودي. والثاني: الموقف السلفي المتوجس دومًا من جماعة الإخوان المسلمين، بناء على أدبيات سلفية متراكمة ومترسخة في المخيال السلفي تنزع دومًا لاعتبار الجماعة غريمًا مهددًا للوجود السلفي، دعويًا وسياسيًا فيما بعد.
تتبنى الورقة وفق ما سبق جملة من النتائج:
– الدعوة السلفية بالإسكندرية وحزب النور في حالة من الحصار السياسي تجبره على السير وفق أفق محدود للغاية، سياسيًا واجتماعيًا وإقليميًا، وعلى الرغم من موقفه “البراجماتي” منذ ثورة يناير وحتى الآن؛ إلا أنه أبدى ممارسة سياسية يمكن اعتبارها تكتيكية للإبقاء على وجوده[24].
– النظر لبنية الثورات المضادة للتغيير بشكل عام في العالم العربي بصورة أعمق يشير إلى قدر من الصعوبة في اعتبار الثورات لازلت مفتوحة الأفق للتغيير على المدى القريب والمتوسط.
الهامش
[1] Jamie Allinson, “Counter-revolution as international phenomenon: the case of Egypt”, Review of International Studies (2019), 45: 2, 320–344.
[2] أطلق هذه التسمية الباحث السعودي عبد الله المالكي في مشروع كتاب له بنفس العنوان، ولم الكتاب النور نظرًا لحملات الاعتقال التي قام بها محمد بن سلمان في السعودية في العام ٢٠١٧، وكان المالكي من بين معتقلي الرأي إلى الآن.
[3] عزمي بشارة، «ثورة مصر: (الجزء الثاني) من الثورة إلى الانقلاب»، الطبعة الأولى، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٦)، ص ٥٠١، نقلًا عن محمد حمامة وشادي زلط في: «ويكيليكس: كيف رأى الأزهر والسعودية “المد الشيعي” في مصر»، مقال منشور على موقع «مدى مصر» بتاريخ ٢٥ يونيو ٢٠١٥، وصور الوثائق مرفقة بالمقال بالاتفاق مع ويكيليكس.
[4] «بالصور: وفد دار الحديث الخيرية في زيارة الشيخ د. ياسر برهامي في بيته بالإسكندرية»، منشور على موقع «أنا السلفي» بتاريخ ٢٠ مارس ٢٠١٢، وهو الموقع الرسمي للدعوة السلفية بالإسكندرية.
[5] في الغالب تتضمن هذه الزيارات أبعادًا رمزية وفكرية كثيرة تخاطب قواعد السلفيين ومحبيهم، إلا أنها لا تخلو من دعم مادي ومعنوي سخي إذا ما وجد الزائرون حضورًا وانتشارًا للسلفية، وتكررت زيارات كتلك عقب ثورة يناير، كزيارة الشيخ الكويتي ذو الأصول المصرية عبد الرحمن عبد الخالق، وكان في استقباله أيضًا عدد من رموز تيار سلفية القاهرة، كما أقيمت عدد من المؤتمرات والندوات السلفية التي حضرها عدد من الداعمين السلفيين الخليجيين والتي تضمنت ترتيبات تمويلية وفق رواية المهندس نضال حماد نائب رئيس حزب الإصلاح السلفي في مصر في لقاء معه في مارس ٢٠١٣.
[6] أحمد سالم وعمرو بسيوني، «ما بعد السلفية: قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر»، الطبعة الأولى، (بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، ٢٠١٥).
[7] المصدر السابق، ص ٦٨٠ – ٦٨٣.
[8] المؤسس الديني مع محمد بن سعود للدولة السعودية الأولى، وله بعد رمزي مرجعي كبير في السعودية، ومرجعية من المرجعيات الكبرى للتيارات السلفية.
[9] لقاء جمعني بالدكتور حاتم العوني، أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى، بمنزله بمكة المكرمة في مايو ٢٠١٤، وكان أحد المدعوين والحاضرين في لقاء بن سلمان.
[10] “West Encouraged Saudis to Spread Wahabbist Islam in Cold War to Stop Soviets”, Sputnik, 29/3/2018.
[11] صرح ياسر برهامي بتأثره بالشيخ عبد العزيز بن باز في:
David D. Kirkpatrick, “Into the Hands of the Soldiers: Freedom and Chaos in Egypt and the Middle East”, 1st. edition, (New York, Viking, 2018), p. 106.
[12] يعتبر الشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد صالح العثيمين ومحمد ناصر الدين الألباني (الأخير من أصول ألبانية) رموز معاصرة ثلاثة استمدت منها مختلف السلفيات مشروعيتها ومرجعيتها الفقهية والعقائدية والفكرية على تباينات بينهم، ومثّلت فتاويهم وتزكياتهم قيمة شرعية للتنافس السلفي – السلفي.
[13] For more details about, look at: Jacob Olidort, “The Politics of Quietist Salafism”, The Brookings Project on U.S. Relations with the Islamic World, analysis paper No. 18, February 2015.
[14] اضطرت الحكومة السعودية لإقناع الشيخ عبد العزيز بن باز إبان غزو العراق للكويت، وكان مفتي المملكة وقتئذ، لتقديم فتوى بجواز الاستعانة بالقوات الأمريكية “الكافرة” لدفع ضرر “الظالم الطاغي صدام حسين”، نظرًا لرمزية بن باز وقتها في المجال العام الخليجي، ورمزيته العليا في المخيال السلفي، وهي فتوى تمثل نموذج مثالي للتوظيف الدولتي للرموز الدينية في مسألة سياسية تتطلب دراية ووعي كبيرين بالشؤون السياسية وتفاصيلها، (انظر: «حكم التشكيك بشأن الاستعانة بغير المسلمين في قتال طاغية العراق»، فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز منشورة على موقعه الرسمي: https://binbaz.org.sa/).
[15] ينظر في تبريراتهم الشرعية والفكرية: «جامع بيانات الدعوة السلفية وتوضيع أسباب مواقفها»، أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم، وهي دار نشر تابعة للدعوة السلفية بالإسكندرية.
[16] May Darwich, “The Ontological (In)security of Similarity: Wahhabism versus Islamism in Saudi Foreign Policy”, German Institute of Global and Area Studies (GIGA), Institute of Middle East Studies, Working papers (263), December 2014.
[17] عزمي بشارة، ص ٥٠٠، نقلًا عن: حسام بهجت، «ويكيليكس: فدية إطلاق سراح مبارك: اقتراح من المخابرات المصرية رفضته السعودية»، موقع “مدى مصر” بالاتفاق مع “ويكيليكس”، ٢١ يوليو ٢٠١٥.
[18] عزمي بشارة، ص ٥٠٩.
[19] Allinson, p. 323 – 324.
[20] Allinson, p. 329.
[21] ثمة عدد من الدراسات التي صدرت منذ العام ٢٠١١ تؤكد تصاعد فاعلية هذا العامل في جمع ولاءات القيادات العليا والمتوسطة في الجيش، انظر:
– يزيد صايغ، «فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر»، ورقة بحثية منشورة على موقع «مركز كارنيجي للشرق الأوسط»، في ١ أغسطس ٢٠١٢، على الرابط
– Yezid Sayigh, “Owners of the Republic: An Anatomy of Egypt’s Military Economy”, program on Civil-Military Relations of the Arab States (CMRAS) of the Carnegie Middle East Center, (Beirut, Carnegie Middle East Center, 2019): https://carnegieendowment.org/files/Sayigh-Egypt_full_final1.pdf
[22] محمد بامية، «متى يعود الربيع؟»، مجلة «إضافات»، العدد (٤٥)، شتاء ٢٠١٩، ص ٢٣٤ – ٢٣٥.
[23] أثر السلفية السعودية والدعم السعودي في السلفية المصرية، والمصالح السعودية في دعم الثورة المضادة، الدور الهدمي الذي مارسته الثورة المضادة ضد الثورة (وفق تحليل “بامية”).
[24] تطور حزب النور سياسيًا يظهر من خلال عدة أوجه، أبرزها وهو ما يعنينا في حقل العلاقات الدولية؛ تسويقه لنفسه خارجيًا بصورة جيدة، خاصة بعدا انقلاب يوليو ٢٠١٣، ومثال ذلك حوار المتحدث الرسمي للحزب “نادر بكار” في جلسة حوارية مع محرر النيويورك تايمز “توماس فريدمان”، وأقامها “معهد الشرق الأوسط Middle East institute” بواشنطن دي سي، على الرابط
رابط المصدر: