مضت زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، لواشنطن، على رأس وفد كبير، على نحو سلس عموما، دون مطبات أو إحراجات، وركزت على معظم القضايا التي أرادها الرجل موضوعا لزيارته: قضايا ذات طابع اقتصادي تتعلق بتفعيل الجوانب الأخرى غير الأمنية والسياسية في “اتفاق الإطار الاستراتيجي” بين واشنطن وبغداد. الأهم أن الزيارة “نجت” من العواقب المباشرة للقصف الإيراني لإسرائيل، إذ مرت تقريبا كل الصواريخ والمسيرات الإيرانية في السماء العراقية في طريقها نحو إسرائيل في الليلة نفسها التي حطت فيها طائرة السوداني في قاعدة أندروز العسكرية بولاية ميريلاند القريبة من العاصمة واشنطن.
لم يحتج السوداني أن يقطع زيارته ويعود إلى بغداد بسبب القصف، كما لم يهيمن القصف على أجواء الزيارة، إذ اكتفى الطرفان، العراقي والأميركي، بحديث عام عن ضرورة ضبط النفس وإنهاء حرب غزة وتخفيف معاناة المدنيين الفلسطينيين وأهمية تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. كما غاب على نحو لافت في هذه الزيارة النقاش الأصعب، والموضوع الخلافي في بغداد، عن تخفيض أو سحب القوات الأميركية في العراق وضرورة أن يحمي العراق هذه القوات من استهداف الفصائل المسلحة المنضوية في “محور المقاومة” بزعامة إيران.
جندي أميركي في قاعدة عسكرية في منطقة مخمور القريبة من الموصل خلال عملية ضد مسلحي “داعش”، 18 أكتوبر 2016
حمل البيان المشترك العراقي- الأميركي الذي صدر بعد اجتماع بايدن والسوداني بصمة هذا التحول من التركيز الأمني إلى الاقتصادي، إذ لم تحظَ قضايا الأمن وارتباطها بالسياسة إلا بجملة واحدة عامة تقليدية في مطلعه عن اتفاق الرئيسين على “أهمية العمل معا ودعم الاستقرار في المنطقة وترصين واحترام سيادة العراق واستقراره وأمنه”. لينتقل البيان مباشرة إلى تأكيد الزعيمين على أن اقتصادا عراقيا متنوعا وناهضا، مندمجا في المنطقة والنظام الاقتصادي العالمي هو الأساس لتحقيق استقرار دائم في المنطقة والرفاهية للشعب العراقي”.
ملف العلاقة المتأزمة بين أربيل وبغداد كان أيضا موضوعا لحديث بايدن والسوداني
هذه اللغة المأخوذة بالنص تقريبا من “اتفاق الإطار الاستراتيجي” الذي أكد البيان التزام البلدين به، تعكس أولويات السوداني بتقديم الاقتصاد على السياسة، وهو ما يمثل إجماعا عراقيا عاما قبل أن يتفكك هذا الإجماع عند الدخول في التفاصيل وهوية شركاء العراق “المخلصين” بهذا الصدد، وكيفية مساعدتهم إياه في تحقيق نهوض اقتصادي معتبر (أميركا الرأسمالية القائمة على التنافس، أم الصين الصاعدة باقتصادها المُدار حكوميا؟ أم خليط من الشراكات مع دول مختلفة حسب الحاجة والعروض والظروف؟).
“استقلال الطاقة”
كعادة هذه البيانات الرسمية المشتركة، كان للجانب الأميركي أولوياته التي أكدها فيه، بينها ضرورة عمل العراق على تحقيق “استقلال الطاقة”، أي تطوير صناعته الغازية كي لا يحتاج إلى الغاز الإيراني الذي يتطلب شراؤه إعفاءات أميركية للعراق كي يدفع بالدولار لإيران الواقعة تحت العقوبات الأميركية، ثمن هذا الغاز، والكهرباء المستوردة منها أيضا.
تتعثر خطوات العراق في هذا الصدد، لأسباب بيروقراطية في معظمها، فبعد أن كان الموعد المقرر لتحقيق هذا الاستقلال هو عام 2025، انتقل الآن إلى 2030 (قبل هذا، منذ 2011، كانت هناك وعود حكومية بحل هذا الملف خلال “سنوات قليلة مقبلة” لكن لم يتحقق أي منها). ثم هناك الإشارة، المأخوذة من نص “اتفاق الإطار” أيضا، بخصوص تحديث النظام المصرفي العراقي ودمجه في المنظومة العالمية. حقق العراق بعض التقدم المهم في هذا الصدد من خلال فرض إجراءات شفافية، بضغط أميركي، تجبر المصارف العراقية على الالتزام بالمعايير الدولية في استخدام وإدارة الأموال، الأمر الذي يقلل من عمليات تهريب الدولار إلى إيران وسوريا، وهو ما يقلق واشنطن كثيرا.
محطة معالجة الغاز المركزية في حقل الرميلة النفطي في البصرة بالعراق، 5 نوفمبر 2020
ملف العلاقة المتأزمة بين أربيل وبغداد كان أيضا موضوعا لحديث الرئيسين، عبر إطراء بايدن على جهود إقليم كردستان والحكومة العراقية “للتوصل إلى اتفاقات دائمة لحل التحديات طويلة المدى، بينها الترتيب الذي تم التوصل له مؤخرا لدفع رواتب موظفي الإقليم والتشجيع على مواصلة التقدم” في هذا الملف.
يشير هذا الذكر الخاص بضرورة حل الخلافات بين بغداد وأربيل إلى نجاح حملة الضغط الكردية ضد القرارات التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العراقية في فبراير/شباط الماضي، المدعومة من “الإطار التنسيقي” الحاكم، التي منعت الحكومة من تسليم الرواتب للإقليم من دون تسليم الأخير عوائد النفط والرسوم الجمركية إلى بغداد، فضلا عن قرارات أخرى للمحكمة بخصوص الانتخابات الكردية البرلمانية المقبلة.
ستواجه الإصلاحات الموعودة بمقاومة شديدة من أطراف كثيرة داخل العراق مستفيدة من استمرار الوضع الراهن
أغضبت هذه القرارات أربيل التي اعتبرتها مسيسة وغير دستورية وتمثل تقويضا خطيرا لمبدأ الفيدرالية ودفعت “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الحاكم في الإقليم للتهديد بمقاطعة انتخابات الإقليم والانسحاب من العملية السياسية.
يُذكر أن رئيس وزراء الإقليم، مسرور بارزاني، قام بزيارة لواشنطن بعد أيام من إصدار هذه القرارات لتحشيد الدعم الأميركي ضدها. ويشي تأكيد بايدن على ضرورة التوصل إلى “اتفاقات دائمة بين الطرفين” بأن واشنطن غير مقتنعة بأن قرارات قضائية تستبدل التفاوض بين الأطراف السياسية المعنية.
لا يكمن التحدي الكبير الذي يواجهه السوداني في الزيارة التي تعتبر ناجحة، وإنما بعد عودته إلى بغداد في كيفية تحويل الشعار الذي رفعه بتفعيل “اتفاق الإطار الاستراتيجي” وجعله واقعا. ويحتاج هذا التفعيل إلى إجراء إصلاحات ضرورية وواسعة في بنية الإدارة والاقتصاد والتعليم في البلد كي يمكن الاستفادة من اتفاق الشراكة المهم هذا. وستواجه هذه الإصلاحات بمقاومة شديدة من جانب أطراف سياسية كثيرة مستفيدة من استمرار الوضع الراهن لإدامة نفوذها في البلد. وبعض أقوى هذه الأطراف من حلفاء السوداني نفسه.
المصدر : https://www.majalla.com/node/315116/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%86%D8%A7%D8%AC%D8%AD%D8%A9-%D9%84%D9%83%D9%86-%D9%8A%D8%B5%D8%B9%D8%A8-%D9%82%D8%B7%D9%81-%D8%AB%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7