إعداد : حمد قدوره – باحث دكتوراه ، كلية الحقوق والعلوم السياسية تونس المنار
من المفاهيم التي طفت على المشهد الدولي بقوة بعد سقوط جدار برلين ، عبارة “العولمة”( mondialisation) أو الكوننة (globalisation). غطت العولمة كل المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، حيث وقعت علمنة الديمقراطية وحقوق الإنسان ، ومبدأ تقرير المصير. تراجع السيادة الإقليمية للدولة الوطنية أمام السيادة الكونية ، وقد ورد في مقال للأستاذ سمير حمياز بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتيزي وزو الجزائر: [1]«فإذا كان عالم السياسة الفرنسي “برتران بادي” ذهب للحديث عن عالم بلا سيادة ، فإن”جيمس روزنو “قال بفكرة السياسة ما بعد الدولية كدلالة ساطعة عن تراجع مكانة الدولة بفعل تنامي دور الفواعل الدولية الجديدة، وهو الأمر الذي يؤكد على تراجع النموذج الوستفالي للسيادة، ومن ثم الدخول في عالم ما بعد وستفالي.اما الاقتصادي الياباني “كينيشي أوهوماي” قد طرح فكرة نهاية الدولة القومية في ظل تنامي دور الاقتصاديات الإقليمية، وهذا جدير بالإشارة إلى بعض الطروحات الكوسموبوليتانية، والمعيارية التي تتجلى بالأساس في إسهامات عدد من الباحثين في السياسة العالمية، من أمثال مارك هوفمان، وبيليس، وسميث، وديفيد هيلد، وجون بورتون في كتابه المجتمع العالمي إن الهدف الكامن من وراء هذه الإسهامات الفكرية هو بناء مسارات جديدة لأنسنة التفاعلات الدولية، وبناء عالم كوسموبوليتاني يقوم على مركزية وسيادة الإنسان» . كل تعد على قيم المجتمع الدولي الجديد في أي مكان من العالم يعد تعد على المجتمع الإنساني بأسره ، يتحمل المجتمع الدولي كافة تبعات ذلك التعدي، ويدعوه للتدخل من أجل حماية الإنسانية وفق مقاييس حددها من نصبوا أنفسهم شرطي العالم. فكيف نشأت العولمة وما هي العولمة ؟ وما هي أبعادها المختلفة؟ ، وما تأثيرها على مبادئ حقوق الإنسان عموما، وعلى مبدأ تقرير المصير خصوصا؟.
الفرع الأول : نشأة العولمة:
يصف المفكر العربي علي حرب العولمة بكونها «واقع العصر، وفتح كوني».[2] العولمة هي مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي الغربي في فترة ما بعد الحرب الباردة ونهاية الثنائية القطبية بتفكك الاتحاد السوفييتي سابقا سنة 1991، وانهيار المعسكر الشرقي، وخروج المعسكر الغربي منتصرا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، منفردا في التحكم في مركز السياسة الدولية. لكن التمهيد للعولمة بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث شرعت الدول الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في التمهيد لبناء نظام عالمي جديد يهدف إلى التحرر من قيود النظام الدولي القديم بادرت إلى إنشاء مؤسسات نقدية عالمية تتمثل في بنك النقد
الدولي(F.M.I) والصندوق الدولي للإنشاء والتعمير(B.I.R.D)، وأبرمت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (القاتG.A.T.T.) سنة 1947 من أهدافها:
- أ- العمل على تحرير التجارة الدولية.
- ب- إزالة العوائق أمام التبادل التجاري بين الدول.
- ج – حل المنازعات التجارية الدولية عن طريق المفاوضات
- د – تهيئة المناخ الدولي والإعداد لإنشاء منظمة التجارة العالمية[3].
منذ سنة 1994، حلت محل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة “القات” المنظمة العالمية للتجارة ، ( انتقلت من اتفاقية دولية إلى مؤسسة دولية)، يطلق عليها عادة “معاهدة مراكش”، وهي تجسيد لمفهوم العولمة الاقتصادية أي العمل على إزالة القيود الكمية في التبادل التجاري بين الدول الأعضاء في المنظمة ، وهذه السياسة يتم تحقيقها إلى أقصى قدر ممكن[4]، أي فتح الحدود أمام سيل السلع ، وتنقل رأس المال والاستثمار، وهي في عبارة أخرى فتح الحدود أمام الأقوياء ، واستثناء الضعفاء لعدم
قدرتهم على المنافسة، ـوكذلك علو نسبة التعريفات الجمركية بالنسبة للدول الفقيرة وتمتع الغنية بتخفيضات جمركية أكبر من السلع المستوردة من بلدان نامية %45 بالمقارنة مع 20 % إلى 25 % ، في حين أن البلدان النامية تواجه الآن كمجموعة تعريفات جمركية أعلى بنسبة 10 % عن المتوسط العالمي فإن أقل البلدان نموا تواجه تعريفات جمركية أعلى بنسبة 30 % لأن التعريفات الجمركية لا تزال عالية على السلع ذات الإمكانات الكبيرة بالنسبة لأفقر البلدان مثل المنسوجات والجلود والسلع الأساسية الزراعية[5]. القوى العظمى هي من بات يحدد مصير العالم . وقعت علمنة مبدأ تقرير المصير حيث تجاوز بعده القومي إلى البعد الكوني .
مهدت الولايات المتحدة وشركاءها الغربيون إلى تكريس مفهوم العولمة الجديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالقول والفعل فعند الرجوع إلى ما ورد على لسان الساسة الأمريكان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروزهم كقوة عظمى عالميا يتبين بكونهم يخططون إلى خلق نظام عالمي جديد على مقاسهم يكونون هم العقل المدبر والمسير فيه دون منازع. يقول الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أثناء حرب الخليج بتاريخ29/01 / 1991 :« إن الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من بين دول العالم تملك من المستوى الأخلاقي، ومن الإمكانيات ما يكفي لخلق مجتمع دولي جديد».[6] كما يرى الأمريكيون في أنفسهم بكونهم الرسل الكرام بعثوا للارتقاء بالإنسان من مرتبة الحيوان إلى مادون الملائكة بقليل، حيث ورد في مجلة نيورك التايم (New York Times) الأسبوعية الأمريكية، في مقال لأحد الكتاب الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية ما يلي: « إن الأمريكيين قادرون على النهوض بالإنسانية من مرتبة الحيوان إلي مرتبة ما قبل الملائكة بقليل».[7] كما أن الأمريكان في النظام العالمي الذي ابتدعوه لأنفسهم، ويعملون على فرضه لا يقبلون أي منازع في ذلك ولا شريك تقول مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة « إن أمر قيادة العالم بلا منازع هو من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية وعلى جميع الدول أن تدرك لو أردنا أي تغيير فلا بد سنفعله، فالعالم لنا، العالم للأمريكان». بينت التجربة أن الأحادية القطبية مدعاة للغطرسة، وسياسة المصلحة تفرضها القوة العسكرية والمدنية والمادية، فلا اعتبار لمبادئ القانون الدولي، ولا حق الشعوب في تقرير مصيرها. حيث يذهب “ريمون أرون ” Raymond Aron” إلى القول « أن هناك شخصان اثنان فقط يسيران ويديران العلاقات الدولية : الجندي والدبلوماسي فكلاهما من موقعه يمثل ويدافع عن دولته».[8]
الفرع الثاني: مفهوم العولمة :
أول من استعمل عبارة العولمة عالم الاجتماع الكندي “مارشال ماك لهان” في كتابه الشهير”الحرب والسلام في القرية الكونية”[9]، في الستينات من القرن الماضي خلال الحرب الأمريكية في فيتنام، الذي بين فيه كيف انتقل الأمريكيون بفضل جهاز التلفاز من مشاهدين إلى فاعلين في مجريات الحرب.[10] سيؤدي ذلك حسب رأيه إلى إلغاء الحدود بين العسكري والمدني، يجعل من الإعلام الإلكتروني محركا للتغيير الاجتماعي. لكنه لم يقتصر على ذلك بل كان مؤشرا لإلغاء الحدود السيادية للدول .
فضل مستشار الأمن القومي الأمريكي، في عهد الرئيس جيمي كارتر،”زبغنيو بريجنسكي”(Zbigniew Kazimierz Brzezinski)،[11] استعمال مصطلح المدينة الكونية(Global City) بدل مصطلح العولمة، وذلك حسب رأيه ما فرضه التطور الذي طرأ على التشابكات الدولية في عصر التكنولوجيا الإلكترونية. طرحت فكرة العولمة عدة إشكالات وتحديات في المجتمع الدولي، الذي بعض من أطرافه لم يتخلص من مفاهيم كرسها النظام الدولي القديم لعدة عقود خلت، منهم من يرى في العولمة غول قادم من وراء المحيط الأطلسي ليبتلع العالم بأسره، ومن يراها شكل من أشكال إرهاصات المجتمع الإنساني ، وهناك من يعتبرها حتمية تاريخية أفرزها عصر ما بعد الحداثة، عصر تكنولوجيا الاتصال والأقمار الاصطناعية. يذكر حسان مطر « ومن مصطلحات العولمة: العالم قرية صغيرة، أمركة العالم، الكوكبة، السلعنة، الإخطبوط الاستعماري، النظام العالمي الجديد، وغيرها من المصطلحات».[12] أمام هذا التباين في الاتجاهات حول تحديد طبيعة العولمة، يكون من الصعوبة بمكان أن يجمع كل الفقهاء في القانون الدولي حول مفهوم موحد للعولمة . برزت عديد التعريفات تختلف باختلاف الخلفية الإيديولوجية لهذا الفقيه أو ذاك . ويرى الباحث المصري السيد حسين إن العولمة تقوم على ثلاث عمليات:
- العملية الأولى تتمثل في انتشار المعلومات حيث تصبح مشاعة لجميع الناس.
- العملية الثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول .
- العملية الثالثة تتمثل في زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات
والمؤسسات.[13] بعضهم أعطى تعريفات للعولمة ، طبقا لأبعادها الرئيسية الأربعة
البعد الاقتصادي، البعد السياسي، البعد الاجتماعي، البعد الثقافي .
التعريف الأول : العولمة ظاهرة اقتصادية : هناك من يعتبر العولمة هي شكل من إشكال التعاون المتنامي بين الدول مدعوما بتطور تكنولوجيا الاتصالات، حيث عرفها الصندوق الدولي بكونها:« التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم، والذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود، إضافة إلى رؤوس الأموال الدولية، والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله». في حين يراها “روبنز ريكابيرو” الأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والنموـ بكونها اقتصاد كوني إنتاجا وتسويقا يحل محل الاقتصاديات الوطنية، حيث يرى في العولمة بأنها: «العملية التي تملي على المنتجين والمستثمرين التصرف، وكأن الاقتصاد العالمي يتكون من سوق واحدة ، ومنطقة إنتاج واحدة مقسمة إلى مناطق اقتصادية، وليس إلى اقتصاديات وطنية مرتبطة بعلاقات تجارية واستثمارية». قال محمد الأطرش[14] العولمة:« تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، وتاليا خضوع العالم لقوى السوق العالمية، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات.»، بهذا التعريف للعولمة ركز على أن العولمة تكون فتح الحدود الدولية أمام تنقل المنتجات دون قيود جمركية ودون سياسة حمائية للمنتج الوطني مما يضر باقتصاديات الدول الضعيفة والمفقرة، لأنها لا تقدر على منافسة الاقتصاديات المتقدمة تزايد عدد العاطلين، ركود الاقتصاد المحلي، تراجع سيادة الدولة الإقليمية، سيادة الدول من سيادة شعوبها، فكيف لشعب فقد سيادته على اقتصاده، وثرواته الطبيعية أن يتمكن من حقه في تقرير مصيره بنفسه في عالم اليوم، الذي أصبحت فيه القوة الاقتصادية العماد الأول لمبدأ تقرير المصير، واستقلالية القرار السياسي. يرى صادق العظم بكون العولمة :« حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ». . التعريف الثاني: العولمة تعني هيمنة النمط الأمريكي : يقول محمد عابد الجابري : « العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات،على بلدان العالم أجمع». فبهذا التعريف تكون العولمة هي ربط مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها الثقافي، والاقتصادي، والسياسي والاجتماعي بإرادة دولة الولايات المتحدة الأمريكية. لعل المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما صاحب كتاب”نهاية التاريخ وآخر البشر” يرى في نهاية في الحرب الباردة المحصلة النهائية للمعركة الإيديولوجية ، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفيتي سابقا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الحقبة التي تم فيها هيمنة التكنولوجيا الأمريكية.[15]
التعريف الثالث : هي ثورة تكنولوجية واجتماعية يقول عالم الاجتماع جيمس روزناو في تعريفه للعولمة: « العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل الاقتصاد، السياسة الثقافة، الايدولوجيا، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج ، تداخل الصناعات عبر الحدود انتشار أسواق التمويل، تماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة».[16]عرفها بعضهم بأنها: «الاتجاه المتنامي الذي يصبح به العالم نسبياً كرة اجتماعية بلا حدود. أي أن الحدود الجغرافية لا يعتد بها ، حيث يصبح العالم أكثر اتصالاً مما يجعل الحياة الاجتماعية متداخلة بين الأمم .». هناك من يعرفها بأنها: « زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات». عرفها إسماعيل صبري تعريفاً شاملاً فقال : « هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية». يصف المفكر العربي علي حرب العولمة بكونها « مقولة راهنة من مقولات ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة ارتبطت بانفجار تقنيات الاتصال على نحو ضاقت معه الأمكنة، وتقلصت المسافات، إلى حد جعل الأرض قرية تسبح في هذا العالم العددي الذي يتشكل من الفضاء السوبراني[17]… على أساسها يتوحد العالم اليوم، وبواسطته يجري الاتصال بين البشر» .[18]
بعض التعريفات والأقوال التي تناولها الباحثون حول العولمة :
العولمة ترجمة للمصطلح الفرنسي globalisation وهي تعني إكساب الشيء طابع العالمية.[19] فالعولمة مشروع حضاري غربي متكامل البنيات، أوجده التلاقي بين التطلعات والحاجات الغربية من جانب، والإمكانيات المادية الهائلة التي أوجدتها الطفرات الكبيرة في تقنيات الاتصال والمعلومات والصناعات المتقدمة من جانب آخر.[20]كما يراها الكثير من المفكرين والكتاب هي سيطرة وغلبة ثقافة من الثقافات على جميع الثقافات في العالم،[21]وهناك من فرقَّ بين العالمية والعولمة ، فقال إن العالمية تفتُّح على العالم وعلى الثقافات الأخرى، واحتفاظ بالخلاف الأيديولوجي أما
العولمة نفي للآخر أما العولمة فهي نفي الآخر، وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي.[22]
من الملاحظ مهما اختلفت تعريفات العولمة، وتعددت تتفق جميعها حول مقاصد العولمة وهي التوجه نحو بناء نظام عالمي جديد تتراجع فيه السيادة الإقليمية لمصلحة السيادة الكونية، وهو ما يدخل تغيرات ومقاربات جديدة على المبادئ والقيم التي بني عليها النظام الدولي القديم، وخاصة مبدأ تقرير المصير الذي كان إطاره بالأساس الدولة بمكوناتها الثلاث: الإقليم، الشعب، السلطة التي تتمتع بالسيادة المطلقة داخل إقليمها، وفي علاقاتها مع الدول الأخرى. أي يتعلق بشعب يطالب بتحرير إقليمه المحتل من طرف قوة أجنبية، يهدف من ورائه بناء دولته الوطنية الحرة المستقلة ذات سيادة تامة في الداخل والخارج.
الفرع الثالث: أبعاد العولمة
تغلغلت العولمة في شتى مناحي الحياة المعاصرة الاقتصادية، والسياسية والثقافية والاجتماعية،هذه الإبعاد الأربعة اتخذت من الإعلام والاتصالات الحديثة من قنوات تلفزيونية ، وشبكات التواصل الاجتماعي ( الفايسبوك، تويتر…) كوسيلة أساسية لزيادة التغلغل، وتنفيذ غزوها الإعلامي لبلدان العالم، وأصبح مبدأ تقرير المصير رهن الكلمة والصورة المنقولة عن بعد عبر الأثير، بعد إن كان رهن الجندي والبندقية والدبلوماسية المباشرة . إذا تأملنا في واقع الفوضى التي عمت البلدان العربية في شتاء 2011، حيث نجد لشبكات التواصل الاجتماعي،[23]والفضائيات الدور الرئيس في تحرك الشارع في تونس، ومصر، وليبيا، في مقال بنيورك تايمز ( New York Times) لسنة2011 للكاتب الأمريكي (Thomas Friedman ) ، يصف فيه ما وقع في الوطن العربي بالثورات الفايسبوكية ( Face book révolution) .
أولا البعد الاقتصادي : وهو البعد الأساسي للعولمة ، العولمة الاقتصادية تعني ظهور فضاء كوني بلا حدود يتم فيه تنقل السلع ، والأفراد ، والأموال ، والاستثمارات في انسياب مطلق وحر،[24]وغير مسبوق. حيث تتم عملية البيع والشراء وكل المعاملات بين المتعاملين عن بعد دون تكبد مشقة السفر أو أخطاره ، حيث يذهب المفكر علي حرب إلي القول « تحدث انقلابا وجوديا يتجسد في إنتاج سلع من نوع جديد، ذات ماهية أثيرية افتراضية أو شبحية بات يتوقف عليها الإنتاج المعرفي والمادي على السواء…».[25] البعد الاقتصادي كفيل بمفرده بالتأثير في الأبعاد الأخرى : السياسية الثقافية الاجتماعية في عالم اليوم الذي أصبح رأس المال فيه سيد الموقف في كافة المجالات، الشركات المتعددة الجنسيات ذات رؤوس الأموال الضخمة تتحكم في مصير الدول الضعيفة وتحدد سياسة وتوجهات الدول العظمى لأنها تتحكم في مصادر الثروة والطاقة وإنتاجها، التي هي اليوم العصب المحرك، لكل أدوات الحضارة والتمدن ما نشهده اليوم في المنطقة العربية من حروب، ودمار، وتمزق لأقاليم،و انهيار دول بالأمس القريب كانت ذات سيادة، وأقاليم ذات حدود محترمة، ومؤمنة من طرف حكومات دولها، هذه الأقاليم أما بكونها منتجة للطاقة أو بكونها ممرا استراتيجيا لها، وحكام تلك الأقاليم امتنعوا عن الدخول تحت معطف القوة العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية، أرادوا بناء دولهم، وتقرير مصير شعوبهم بعيدا عن التدخلات الأجنبية، واستغلال ثرواتهم الباطنية بعيدا عن نهب الشركات المتعددة الجنسيات ذات رأس المال الكبير، الذي يفوق موازين العديد من الدول النامية وإن اجتمعت، والأمثلة على ذلك متعددة أزمة العراق واحتلاله سنة 2003 من طرف الولايات المتحدة الأمريكية،[26] وتدمير كل مكوناته الحضارية والمادية والبشرية، ونهب مخزونه من البترول والغاز الذي يعد من أكبر المخزون في العالم من تلك المواد. التدخل العسكري في ليبيا سنة 2011،[27] واغتيال زعيمها ، والتنكيل به أمام مسمع ، ومرأى، من العالم أجمع وتركت ليبيا لشأنها دون سلطة ، وشعب غير قادر على تقرير مصيره. أصبحت ليبيا ساحة للصراع الدولي على مراكز النفوذ بين القوى العظمى، والكل عينه على موقعها الاستراتيجي وثروات هذا البلد الغني جدا بثرواته الطبيعية.
ثانیا البعد السیاسي: إن الحماية الاقتصادية التي تجدها الشركات الأجنبية داخل الدول من طرف حكومات الأصل (شركات صينية ، أمريكية ، روسية ، أوروبية…) وسياسة التدخل من أجل حماية الشركات الاقتصادية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لم تكن وليدة عصر العولمة بل سبقته بعشرات السنين لكنها زادت توسعا في عصر العولمة ، فمنذ بداية القرن العشرين قال الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت إن للولايات المتحدة حقا يكفل لها التدخل في شؤون أمريكا اللاتينية، لتعزيز الشركات الأمريكية الاقتصادية.[28] هذه التدخلات في الشؤون الداخلية للدول لها انعكاسات سلبية على النظام السياسي لهذه الدول، إذ تؤدي إلى تقليص دور الدولة، وتراجعه أمام تلك الشركات على حساب المصلحة الوطنية ومزيد النهب لثروات تلك الشعوب ، تلك الشركات الاقتصادية تتحرك من منطلق قوانين العولمة وبدعم ومساندة من الفاعلين في المجتمع الدولي الجديد ، فالشركات متعددة الجنسيات هي من تقرر مصير العالم.[29] تتدخل الدول الأجنبية لحماية شركاتها، فتظهر انعكاسات ذلك على الأوضاع السياسية عامة في الدولة المضيفة يكون ذلك أكثر وضوحا في الدول النامية ، حيث يتم الحديث عن الديمقراطية ، عن الحريات العامة ، وحرية الإعلام ، ويتبعه الحديث عن قوانين الدولة وسياستها الاجتماعية والاقتصادية، وأنظمتها تجاه الأقليات، وحقوق الإنسان، والإرهاب وغير ذلك مما يسفر عنه من أهداف وأبعاد سياسية تكمن وراء تلك الاتفاقيات الاقتصادية. كما أن المؤسسات المالية الدولية المانحة والمقرضة، تساهم في توتر الأوضاع في الدول الفقيرة ، حيث تتبع أي منحة أو قرض بشروط غالبا ما تكون تعجيزية، وتمس بالتوازنات الاجتماعية داخل تلك الدول الفقيرة ، واختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما يجعل تقرير مصيرها رهن أملاءات القوى المانحة أو المقرضة. ما نشهده اليوم في لبنان من ضرب لاقتصادياته وعملته الوطنية ( الليرة اللبنانية) ، أمام الدولار الأمريكي، لأن الحكومة اللبنانية لم تستجب لإملاءات صندوق النقد الدولي التي من بينها إبعاد مكون سياسي لبناني بعينه عن السلطة وتجريده من سلاحه، لأن أغلب الدول المانحة تعتبر ذلك المكون تنظيم إرهابي مسلح. وأخيرا وليس آخرا ، دخول ما أطلق عليه بقانون قيصر حيز النفاذ ضد الدولة السورية خلال صيف 2020، وهو حزمة من العقوبات الاقتصادية سلطتها الولايات الأمريكية على سوريا بدعوى إن النظام السوري مارس التعذيب ضد مواطنيه، وتشمل العقوبات العقوبات كذلك كل المتعاملين مع النظام السوري: دول ، شركات، أفراد، منظمات …
ثالثا : البعد الثقافي: يلخص المفكر اللبناني علي حرب البعد الثقافي في كونه عولمة الهوية والغزو المضاد ، ويعتبر أن المشكلة الثقافية في البلدان العربية ،لا تتمثل في قوى العولمة أو غزو الأمركة ، بل لدى أهل الهوية وحماتها من النخبة المثقفة، التي عجزت عن مواكبة التطورات العالمية.[30] من أهداف العولمة في البعد الثقافي ، أن يسير كل البشر على النمط الغربي ، ووفق تقاليده وسلوكه ، ويبدو ذلك أكثر وضوحا في أنشطة المؤسسات الغربية في الدول النامية ، وعلى سبيل المثال ما تقوم به هيئة المعونة الأمريكية ، والمعونة الأسترالية، وسيدا كندا وهي تتبع للحكومة الكندية ودانيدا الدنمارك ، وفنيدا فلندا ، ونورادا النرويج ، وسيدا السويد ، وغيرها . توفر المؤسسات المذكورة التمويل للجمعيات المدنية الإنسانية في دول العالم الثالث ، مستغلة ندرة مواردها . ومما يشير إلى الاتجاه الاستغلالي لهذه المؤسسات أن تمويلها قاصر على الدول الفقيرة كمصر ، والمغرب ، وتونس ، والجزائر ، والسودان ، وموريتانيا… ولإضفاء الهدف الثقافي لمؤسسات التمويل فإنها لا تغيب عن النشاط الثقافي لهذه الجمعيات، بل تنفذ للمشاركة في الأنشطة المختلفة كالمؤتمرات، والمعارض والمحاضرات[31]. من الأنشطة التي تعتبر مظهرا من مظاهر السيطرة الثقافية أيضا، مؤتمرات المرأة العالمية، كمؤتمر بكين الذي انعقد في عام1995، الذي خرج بوثيقة مشهورة تدعو إلى إلغاء التحفظات التي تستند إلى أساس ديني أو حضاري . اعتبار أن الأسرة والأمومة والزواج من أسباب قهر المرأة ، وأن حق الإنجاب حق مكفول للأفراد والمتزوجين على حد سواء ،وقد خاطبت الوثيقة مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي لضمان تطبيقها حيث تكون مساعدات المؤسسات المالية الدولية مشروطة بتبني نمط ثقافي محدد ولو كان ذلك على حساب ثوابت الثقافات الوطنية وهو يعتبر خرقا فاضحا للقرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 ديسمبر1966 ، وتبنيها للعهدين الدوليين المتعلقين بحقوق الإنسان حيث تنص المادة الأولى الموحدة لكليهما على: «أن الحق في تقرير المصير هو حق عالمي وتدعو الدول إلى العمل على تحقيق ذلك الحق واحترامه. كما تقر حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وهي حرة في تقرير مركزها السياسي ، وحرة لتحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي »،[32]ومن انعكاسات العولمة على الجانب الثقافي ما بدا، واضحا في مؤتمرات الأمم المتحدة ، كمؤتمر الأمم المتحدة للسكان الذي انعقد في القاهرة عام1992 ، ومؤتمر حقوق الإنسان الذي انعقد في فيينا عام 1993 ، التي كشفت عن تغليب معايير الثقافة الغربية ، يبدو واضحا أن ما تخرج به مثل تلك المؤتمرات من مقررات ، وما تقوم به مؤسسات التمويل الغربية من أنشطة ينم عن انعكاس حقيقي لمفهوم العولمة في بعدها الثقافي . وهو ما يتنافى مع قرارات لأمم المتحدة ومبدأ حق الشعوب في تقرير المصير. كما برزت في العقود الأخيرة منظمات تدعي نشر الديمقراطية ، وحقوق الإنسان وجمعيات تحمل في ظاهرها العمل الخيري وفي باطنها بسط نفوذها ونفوذ دولها ونشر أفكارها من خلال الإغراءات المادية ، وهو ما يتعارض مع ما ورد في إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر1960. حيث نصت المادة الثانية منه على ما يلي : « لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي، وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي ، والاجتماعي، والثقافي.».[33]
الفرع الرابع : حق تقرير المصير والغزو الإعلامي يعد الإعلام في حد ذاته بعدا من أبعاد العولمة الرئيسة،[34] كما يعتبر أيضا آلية من الآليات التي لا يمكن الاستغناء عنها في تنفيذ الأبعاد الأخرى للعولمة ، وإن من القوى الرئيسة التي تعتمد عليها العولمة ، عالمية الاتصالات التي تترتب على تطور تقنيات الأقمار الصناعية. من هنا يبرز دور القنوات الفضائية التلفزيونية ، ووسائل التواصل الاجتماعي ، بصفة خاصة في ترسيخ العولمة، ومقصود العولمة الذي يطفو إلى السطح،هو إزالة الحواجز، والحدود بين الثقافات، وحركة الاقتصاد، والمجتمع وإتاحتها للجميع على طول العالم وعرضه. وهذا أمر مقبول من حيث النظرة العامة. لكن السؤال المطروح هو: هل يمكن للقضايا والمشاغل العاجلة والآجلة أن تكون نفسها لكل الشعوب والأمم؟ وهل إمكانياتها المالية، والتكنولوجية، والعلمية متساوية؟ وأجهزة الاتصال متكافئة لديها ؟ ، فلا شك أن العالم النامي هو الذي سيخرج خاسرا من هذه المعادلة، وذلك لضعف إمكانياته المادية وقدراته الاتصالية ومحدودية تطوره العلمي والتكنولوجي. وفي الواقع أن العولمة هي الآلية التي يراد من ورائها عبر غزو إعلامي ممنهج ، ومحدد المقاصد والأهداف ، ويعمل على تجريد الشعوب من قيمها الثقافية التي تميز كل شعب من الشعوب الأخرى ، الثقافة هي الهوية ، الغرب يريد تجريد الشعوب من هويتها الوطنية والقومية وأن تتحلى بهويته الغربية ، وأن يسير العالم وفق مفاهيمه تجاه قضايا الاقتصاد ، والثقافة ، والسياسة ، والأمن ، والسلام ، وحقوق الإنسان، والحرية … الخ ، وهو عمل دءوب من أجل مصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها، وكأنما الاستعمار الذي أخرجه مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير في النظام الدولي القديم عبر البحار عاد في النظام الدولي الجديد عبر الأثير. تحتكر المعلومات من طرف أربع وكالات عالمية لم يقتصر احتكارها للمعلومات على تلك المعلومات العلمية السرية التي يبرر احتكارها على المصالح الأمنية والاقتصادية فحسب ، بل انعكس ذلك على الأخبار وغيرها من المعلومات . وهذه الوكالات هي : آسوشيتد برس Associated Press، ويونيتد برس إنترنا شونالUnited Press Internationalالأمريكيتين، ووكالة رويترزReuters الإنقليزية ، ووكالة الصحافة الفرنسية France Press Agency ، تسيطر هذه الوكالات الأربعة على80% من المعلومات المتداولة دوليا، و 90 %من كمية الأخبار المتداولة على مسرح الأحداث العالمية.[35]
مفاهيم ورؤى، وتوجهات تقيس عليها مختلف قضاياها، ومن هنا تجد وسائل الاتصال في البلدان النامية عموما ، والقنوات الفضائية على وجه الخصوص نفسها أمام تحد كبير، وهو تأثير تيارات العولمة المتعددة ، والمتشعبة والمتداخلة ، حيث أصبحت بيوت الناس مشرعة أمام كم هائل من القنوات في مجملها غربية تبث نماذج ثقافية مغايرة تماما للثقافات الوطنية ، مظهرة بأن الثقافة الغربية ثقافة الحرية، وحقوق الإنسان، ورفاهة الحياة عكس ما هو موجود لديهم في بلدانهم ، مما يؤثر في عقول الشباب، ويصبح همه الشاغل هو الهجرة نحو الشمال. الشواهد كثيرة في عصرنا الحاضر تدفق أفواج المهاجرين من القارة السمراء ودول شمال إفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط نحو القارة الأوروبية. كثير منهم يبتلعه البحر قبل وصوله لشاطئ الأمان لتحقيق حلم أقرب ما يكون سرابا ووهما قامت بنسجه في مخيلته تلك البرامج الخلابة والخداعة التي تبث عبر القنوات الغربية المدفوعة الثمن ، محددة الأهداف، وما لذلك من أثر سلبي على مصير البلدان النامية في كافة المجالات. كما أن الثقافة الغربية لا تعترف في الواقع، بأي ثقافة أخرى غيرها. حتى وإن عرضت مظاهر ثقافية لمجتمع مغاير فأنها تعرضها بصفة فولكلورية تحي للمشاهد بكون تلك الثقافة ثقافة تقليدية تحكمها عادات ونواميس عقائدية لا يمكنها مجاراة مقتضيات عصر العولمة. بعض الكتاب الأمريكيين يحاولون من خلال كتاباتهم الإيحاء بأن ثقافات البلاد الأخرى هي ثقافات تقليدية غير ملائمة لعصر العولمة لأنها إما ثقافات نخبة أو صفوة ، أو ثقافات مكبلة، بالقيود، أو هي ثقافات ذات توجهات دينية. تناسى هؤلاء أن في اختلاف الثقافات عامل إثراء فالثقافة الغربية اليوم هي تراكم طمي من الثقافات الإنسانية، وخاصة الثقافات الشرقية ( الحضارات الهندية، الصينية…) والشرق أوسطية ( حضارة بلاد ما بين الرافدين ، حضارة اليونان القديم الحضارة الفرعونية ، الحضارة العربية الإسلامية … ). الثقافة هي وليد جغرافي منشأها تاريخي ، هي تفاعل مستدام بين الأرض والإنسان. يمكن أن تتأثر ثقافة مجتمع ما بثقافة مجتمع آخر في إطار بعض عناصرها من المتغيرات الثقافية، كاللباس، وأنواع الأطعمة، ومراسم الزواج ، أما الثوابت الثقافية كالمعتقدات واللغة فأنها لا تقبل الانصهار بسهولة في ثقافة أخرى، مهما كانت المغريات وقوة التأثير التي تمتلكها الثقافة الغالبة. لنا خير مثال الشعب الجزائري الذي حافظ على هويته العربية الإسلامية متصديا لكل حملات المسخ والتشويه الثقافي التي مارسها المستعمر الفرنسي طيلة مائة وثلاثين سنة من الاحتلال المباشر للإقليم الجزائري ( 1830 إلى 1961 ) ، لأن الشعوب تعتبر مكوناتها الثقافية الوطنية هي من ثوابت حقها في تقرير مصيرها الثقافي ، كما نصت لوائح الأمم المتحدة . يقول الشاعر عبد الكريم العراقي :
الشمس شمسي والعراق عراقي + ما غير الدخلاء من أخلاقي .
الفرع الخامس : العلاقة بين مبدأي السيادة الإقليمية و تقرير المصير زمن العولمة بعد تناول تعريفات العولمة وأبعادها المختلفة ، يمكن أن يقال فيها : بكونها صياغة إيديولوجية للحضارة الغربية من فكر وثقافة ، واقتصاد ،وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام الوسائل الإعلامية المتطورة، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على العالم. حيث كان في السابق الاستعمار المباشر يحتل الأرض معتمدا في ذلك على كثرة الجند وقوة التسليح لحرمان الشعوب من حقها في تقرير مصيرها . في زمن العولمة تغيرت الوسيلة لبلوغ نفس الأهداف ، حيث أصبحت وسيلة الهيمنة تعتمد على أنواع عدة من الغزو: الاقتصادي ، والثقافي ، والسياسي والإعلامي دون أن تراق قطرة دم واحدة من الغزاة لكن في المقابل يتم تدمير مصير أمم وشعوب غير قادرة على التصدي لما فرضته تحديات العولمة . العولمة واقعة من وقائع المجتمع الدولي الجديد لقول علي حرب في ثوب جديد يقوم على سلب العقول ، وإعاقتها عن تدبير شؤونها بنفسها، وبقائها رهن إرادة القوى العالمية النافذة. جند للعولمة الخطاب الإعلامي، والسياسي على المستويين الوطني والدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت القوة العالمية العظمي دون منازع لامتلاكها كافة أسباب القوة المعاصرة: اقتصادية، عسكرية، تكنولوجية، ثقافية وإعلامية، ولما تمتلكه من تقنيات اتصال وتواصل عسكرية ومدنية متقدمة جدا ، غزو الفضاء الجوي عبر الأقمار الاصطناعية، وغيرها من أجهزة التجسس والرقابة عبر العالم. وقوة الدبلوماسية مما جعلها تستقطب أغلب دول العالم إلى جانبها وهيمنت بذلك على منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتوجيه المواقف الدولية لصالحها. تمكنت من فرض مشروعها لعولمة نمط نظامها الليبرالي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا. نصبت نفسها بمثابة الوصي على العالم ، جعلت من دعواها الدفاع عن حقوق الإنسان ، ونشر الديمقراطية مبررا لتدخلها في الشؤون الداخلية للدول ، متجاوزة في ذلك كل المواثيق الدولية التي تقر بمبدأ المساواة بين الدول في السيادة وعدم التدخل في شؤون اختصاصاتها داخل أقاليمها، دون مراعاة لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها القومي، الذي أصبح قاعدة من قواعد القانون الدولي الآمرة ، وفق منطوق محكمة العدل الدولية[36]. یعتبر كلا من مبدأي السیادة الإقلیمیة للدول وحق تقریر المصیر من المبادئ الأساسیة في القانون الدولي والمكرسين بموجب میثاق الأمم المتحدة، الذي جعلهما في مستوى واحد من الأهمیة؛ إذ نصت الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي« يمنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة» ، وعبارة أي وجه آخر لا یتفق ومقاصد الأمم المتحدة ، ومبدأ حق الشعوب في تقریر المصیر من هذه المقاصد ، حيث تمت الإشارة إليه في المادتين الأولى (1) والخمس وخمسين(55) ، من نفس الميثاق. والعلاقة بین المبدأین ظلت ایجابیة وتكاملیة وهذا على الأقل سابقا وعلى المستوى النظري ، لكن كشفت الممارسة في النظام الدولي الجديد عن تعارض نشأ عند إعمال تقریر المصیر مع السلامة الإقلیمیة للدولة، حيث أصبح تطبيق مبدأ تقرير المصير يهدد السلامة الإقليمية للدولة الوطنية .
مبدأ تقرير المصير القومي وقع تجاوزه في عصر العولمة ، وأن إرادة الشعوب لم تعد وحدها المحدد لحق تقرير المصير مهما ارتفعت نسبة التأييد الشعبي لها ، فتقرير مصير الشعب السوري والدولة السورية تحدده ملتقيات سوتشي منتجع روسي، وجنيف بسويسرا بين القوى العالمية، وهي المشرفة على كتابة الدستور السوري الذي سيحدد نظامها السياسي وهويته الوطنية كما سبق فعل ذلك مع العراق، ومصير ليبيا تحدده قوى أجنبية همها ليس الشعب الليبي بل تقاسم ثرواته الهائلة ، أما مصير الشعب الفلسطيني قد غطت عليه الأحداث التي ألمت بالعالم العربي ، الجرب في العراق وفي اليمن ، وفي سوريا والتحولات التي طرأت على الواقع السياسي في كل من تونس ومصر والسودان … جعلت من القضية الفلسطينية تتراجع من الاهتمامات العربية الأولى ، ويجدر القول أن : قد لفها النسيان.
إلى جانب تقرير المصير الكلاسيكي، برزت مفاهيم جديدة زادت من تعقيد مفهوم تقرير المصير، وظهور تيارات فكرية تبرر التخلي عن مبدأ المقاومة المسلحة من أجل التحرر وتقرير المصير، وتجرمها في بعض الأحيان، وتصفها بالإرهاب، وحركات التحرر الوطني تصنف بالتنظيمات الإرهابية. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001[37]، شاع مفهوم جديد من مفاهيم العولمة ، وهي : “الحرب على الإرهاب،”[38] حرب لا تنطوي على مفهوم ولا على حيز زماني ولا مكاني، حرب استباحت كل الفضاء الكوني الزماني والمكاني ، ودون إعلان مسبق.
[1] سمير حمياز ، إشكالية مفهوم السيادة الوطنية في ظل المتغيرات الدولية الراهنة ، مجلة العلوم الاجتماعية العدد 24 ، جامعة ميلود معمري تيزي وزو ، الجزائر ، جوان 2017 ، ص. 12 .
[2] علي حرب ، حديث النهايات فتوحات العولمة ومأزق الهوية ، ص ص. 9 -10 .
[3] د. أحمد جامع ،مرجع سابق، ص .51
[4]عبد المنعم السيد علي، العولمة من منظور اقتصادي وفرضية الاحتواء، ط1 ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية ، الإمارات، 2003 ، ص. 41-43 .
[5]تقریر التنمیة البشریة لعام 1997 م : منشور لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، مجلة الاجتهاد ، العدد 38 ، السنة العاشرة ، شتاء العام ،1998 ، ص. 7 .
د. عبد المجيد العبدلي ، مصدر سابق ، ص..498 . [6]
مدكور في الدتور العبدلي ، مصدر سابق ،ص.24 .[8]
[9]إ د.ميمون الطاهري، دور وسائل الاتصال في العلاقات الدولية المعاصرة (الدراسة قدمت في الأصل كمساهمة في ندوة الإعلام والعولمة التي شهدتها مسقط عمان في الفترة 20 -، 21 اكتوبر 2008 ) ، منشورات جامعة السلطان قابوس ، مسقط ، 2008 .
[10] Marshall Mc Luhan and Questin Fiore ,War and Peace in the global village :An inventory of Some of current Spastic Situations . Thatcould be Eliminated .BY More feed forwar,New York ; 969 .
[11] عالم سياسي ، أمريكي من أصل بولوني ، شغل منصب مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي في سنوات 1977 – 1981 في عهد الرئيس جيمي كارتر .
[12] العولمة بواسطة: Hasan Matar.U2W – آخر تحديث:31.12 ، 7 مارس 2015، موضوع. كوم http://mawdoo3.com/%D9%85%D8%A7_%D9%87%D9%8A_%D8%B3%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D9%84%D9%85%D8%A9
السيد يسين ، في مفهوم العولمة ، مجلة المستقبل العربي ،عدد 22 ، فيفري 1998 ، ص.7 .[13]
محمد الأطرش، العرب والعولمة : ما العمل ؟ ،مجلة فكر ونقد ،عدد 7 ، مارس 1998 ،ص. 97 .[14]
فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر،ط.1، مركز الأهرام للترجمة والنشر،القاهرة،1993.(ترجمة أحمد أخمين) .[15]
[16] جيمس روزناو ، ديناميكية العولمة : نحو صياغة عملية، قراءات إستراتيجية ، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة، 1997 .
cybernétique[17] السبراني السبرانيات هي علم التحكم والضبط . والسبراني هو وصف للواقع أو العالم الناتج عن ثورة المعلومات التي تتيح بتقنياتها المعقدة والفائقة ، الاتصال والمراقبة والعملمن على مسافات بعيد .( على حرب مصدر سابق ، معجم المصطلحات ، ص. 199 .)
[19] الدكتور منصور زوید المطیري : العولمة في بعدھا الثقافي ، مجلة كلیة الملك خالد العسكریة ، العدد 58 ، صفر 1420 ھ مایو 1999 م ، ص 33 .
. [20] د. أحمد عثمان التویجري : الدین والعولمة ، المجلة العربیة ، العدد 273 ، شوال 1420 ھ فبرایر 2000 م ، ص 38.
[21] . بربر علوي السادة : العولمة طریق الھیمنة ، مجلة الوعي الإسلامي ، العدد 409. ، رمضان 1420 ھ دیسمبر 1999 م / ینایر 2000 م ، ص. 6
[22] محمد عابد الجابري : العولمة والهویة الثقافیة .. عشر أطروحات ، مجلة المستقبل العربي ، العدد 248 ، أكتوبر 1999 ، ص 15
[23] Jean Philippe Bichard, Quel rôle jouent les réseaux sociaux dans le printemps arabe ?.
عبد العزيز سرحان ، الأصول العامة للمنظمات الدولية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1997 ،ص. 6 .[24]
علي حرب ، مصدر سابق ، ص.8 .[25]
د. عبد المجيد العبدلي ، مرجع سابق ، ص.514 .[26]
د . عبد المجيد العبدلي ،مرجع سابق، ص. 589 .[27]
م.م. علوان الدرويش ، مصدر سابق ، صص. 15 -16 .[28]
[29] Serge Latouche ,« Les nouveaux maitres du monde » , Le monde diplomatique, novembre 1995,p.3.
علي حرب ، مصدر سابق ، ص. 14 .[30]
[31] د . عبد الرحمن یسري : نحو سیاسة اقتصادیة موحدة للعالم الإسلامي في مواجهة العولمة ، مجلة الاقتصاد الإسلامي ، العدد 217 ، جويلية 1999 ، ص. 5.
د . عبد المجيد العبدلي ، مصدر سابق ، ص. 108 .[32]
د. عبد المجيد العبدلي ، مصدر سابق ، ص. 692 . [33]
ميمون الطاهري ، دور وسائل الاتصال في العلاقات الدولية المعاصرة ، منشورات جامعة السلطان قابوس ، مسقط ،2008 .[34]
[35] محمد نجيب الصرايرة ، التدفق الإخباري الدولي : مشكل توازن أم اختلاف مفاهيم ، مجلة العلوم الاجتماعية ، العدد الأول ، المجلد السابع عشر ربيع 1989 ، ص. 240 .
[36] C.I.J, 30 JUIN 1995 , T imor Oriental ,(Portugal / Australie ), Rec. 1995 , p. 90 .
انظر الدكتور العبدلي ، مصدر سابق ، ص.109 .
[37] Sofie Body Gendord , La société américaine après le 11 septembre 2001, Presse des sciences politiques, France 2002, p.124 .
[38] Abdelli Abdelmajid :Organisations régionales et d&finition de terrorisme . Etude de deux cas (la L.E.A et l’ O.C.I ), Acte du colloque : Le droit pénal à l’épreuve du terrorisme , Tunis 26 – 27 – 28 juin 2002,Association de droit pénal ( sans date) أنظر د. العبدلي، مصدر سابق ،ص. 553 .
رابط المصدر: