السيارات الكهربائية الأوروبية في نفق مظلم

تشهد صناعة السيارات الأوروبية مرحلة مضطربة وغير واضحة المعالم مع انتقالها نحو التحول الكامل إلى السيارات الكهربائية، وتعاني من شروط غير مساعدة ناجمة عن ضرورة التزام قواعد الاتحاد الأوروبي لحماية البيئة بحلول عام 2035، في وقت تخلت غالبية دول الاتحاد عن برامج دعم شراء السيارات الكهربائية الجديدة. أضف الى ذلك استمرار أزمة الإمدادات المتعلقة بالبطاريات والشرائح وأشباه الموصلات، والمنافسة الصينية الشرسة، مما زاد تكلفة الانتاج وطرح احتمال إغلاق بعض مصانع السيارات في ألمانيا للمرة الأولى منذ 90 عاما.

في الكفة المقابلة، هناك صعوبات معيشية تعانيها شريحة واسعة من الطبقات الوسطى الأوروبية بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، وضعف النمو الاقتصادي الذي يدور حول 1 في المئة، يضاف إلى ذلك عدم اقتناع الأوروبيين تماما بسلامة بطاريات الليثيوم، التي كثر حولها الحديث والانتقاد، بل وحتى المخاوف من ركوب سيارة نصفها السفلي قابل للتفاعل الكيماوي ومهدد بالتحكم عن بعد. وقد زادت التفجيرات اللاسلكية التي حدثت في لبنان الأسبوع الماضي من هذه المخاوف.

ونشرت “المجلة الأميركية للجمعية الكهروكيميائية”، دراسة تقنية كشفت فيها حصيلة أبحاث تجريبية عن “فشل بعض أنواع البطاريات المصنعة من الليثيوم والحديد والفوسفات (LFP)، مما يتسبب في أعطال متكررة في حالة سوء شحن البطاريات يوميا او بشكل يقترب من 100 في المئة على المدى الطويل”.

 

يقدر حجم سوق السيارات الكهربائية بنحو 672 مليار دولار في نهاية عام 2024، وقد يصل إلى 1,9 تريليون دولار في أفق 2032، بمعدل نمو سنوي 14 %

 

 

تتفادى الحكومات الأوروبية حاليا الخوض في هذه النقاشات التي قد لا تجد لها أجوبة مقنعة عما إذا كان التخلي عن المحركات الحرارية بعد عشر سنوات سيحل مشكلة التغيرات المناخية في أوروبا والعالم، وما الذي يبرر للمستهلك دفع 25 في المئة زيادة على سعر السيارة التقليدية، يمكن أن يتحملها الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو الصين.

 

أ.ف.ب. أ.ف.ب.

المدير الإداري لمنطقة أوروبا في شركة BYD مايكل شو، يعرض آخر اصدارات الشركة من السيارات ، خلال معرض جنيف الدولي للسيارات، جنيف، 26 فبراير 2024. 

وكان الأوروبيون اقتنوا 815 ألف سيارة كهربائية كاملة في الشهور السبعة الأولى من 2024، وهو رقم ضعيف مقارنة بـ14 مليون سيارة قيمتها السوقية 501 مليار دولار عام 2023. وجاء في تقرير سري موجه إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي أنه “في عام 2040، ستكون 45 في المئة من السيارات المتنقلة داخل أوروبا تعمل بمحركات حرارية تقليدية أو هجينة”.

تراجع الطلب الأوروبي على السيارات الكهربائية

وسجل تراجع الطلب على السيارات الكهربائية داخل الأسواق الأوروبية نحو 10 في المئة خلال الشهور الثمانية الأولى من السنة الجارية. وكان الانخفاض في ألمانيا هو الأعلى باعتبارها أول مُصنّع للسيارات في أوروبا والثاني عالميا بعد اليابان، بتراجع بلغ 70 في المئة. ولا تمثل السيارات الكهربائية حاليا في الأسواق الأوروبية سوى حصة 12,5 في المئة، في مقابل 30 في المئة في الصين. ويقدر حجم سوق السيارات الكهربائية بنحو 672 مليار دولار في نهاية عام 2024، وقد يصل إلى 1,9 تريليون دولار في أفق 2032، بمعدل نمو سنوي 14 في المئة، بحسب موقع “فورتشن بيزنس إنسايتس”.

 

إذا كانت أوروبا تسعى عمليا لتحقيق هدف 2035 لخفض الانبعاثات، فعليها ضخ 800 مليار يورو في قطاع السيارات الكهربائية على غرار ما فعلته الولايات المتحدة والصين

 

ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي

وسيتعين على ألمانيا وبقية الدول الأوروبية خفض الإنتاج 2,5 مليون سيارة حرارية وتعويضها تدريجيا بسيارات كهربائية لتقليص انبعاث ثاني أكسيد الكربون تحت طائلة غرامة من الاتحاد الأوروبي قد تصل إلى 15 مليار يورو تشمل جميع المصنعين، وفقا لرئيس جمعية مصنعي السيارات الأوروبية لوكا دي ميو، الذي اعتبر الأمر تحديا تقنيا وتجاريا في ظل غياب رؤية واضحة.

السيارات الصينية تهدد مستقبل الأوروبية

ويعتقد محللون لقطاع النقل البري أنه في حال تخلفت أوروبا (صناعيا) في سباق سيارات المستقبل لأي سبب كان، فإن الصين مرشحة بقوة أن تزيحها عن عرش السيارات للمرة الأولى منذ نحو مئة عام، إذ في إمكان بكين طرح سيارات كهربائية أو هجينة بسعر السيارات التقليدية نفسه، وهو ما لا تقوى عليه الشركات الأوروبية والأميركية. وفي إيطاليا لم تتجاوز السيارات الكهربائية المبيعة نسبة 3,9 في المئة بحسب وزير الصناعة الايطالي أدولفو يورسو، الذي يضغط على شركة “ستيلانتس” وشريكتيها “مرسيدس” و”توتال إنيرجي” لإنشاء مصنع للبطاريات بتكلفة ملياري يورو تساهم فيه الحكومة الايطالية بمبلغ 256 مليون يورو، لزيادة إنتاج السيارات وخلق فرص عمل محلية.

وقال الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، “إذا كانت أوروبا تسعى عمليا لتحقيق هدف 2035 لخفض الانبعاثات، فعليها ضخ 800 مليار يورو في قطاع السيارات الكهربائية على غرار ما فعلته الولايات المتحدة والصين”. وهو يعتقد أن استثمارات إضافية في صناعة السيارات أمر حيوي لأوروبا يخرجها من الانكماش ويعيدها إلى التنافسية، خصوصا ألمانيا التي تعاني ركودا اقتصاديا، وفرنسا تواجه مديونية مرتفعة.

“فولكسفاغن” في عين العاصفة

يقال إنه كلما تضخمت الشركة زادت متاعبها. ينطبق الأمر على سيارة الشعب “فولكسفاغن”، التي تراجعت مبيعاتها إلى 9 ملايين سيارة فقط العام المنصرم، بعدما حققت مبيعات تجاوزت 295 مليار يورو عام 2022، عندما كانت تعتبر المجموعة الأولى في صناعة السيارات في العالم. لكنها فقدت هذه الرتبة لصالح “تويوتا” اليابانية التي باعت 11,2 مليون سيارة.

 

تخطط “فولكسفاغن” لتحويل 80% من إنتاج موديلات “بورش” الفاخرة إلى سيارات كهربائية بالكامل في أفق 2030. كما تعتزم طرح سيارة كهربائية شعبية بسعر 20 ألف يورو عام 2027

 

 

وحلت “جنرال موتورز” الأميركية ثالثة بـ6,2 ملايين سيارة، تماثلها بالحصة شركة “ستيلانتس”، التي تصنع “بيجو” و”ستروين” و”أوبل” و”فيات” و”جيب”. وحلت “رينو” خامسة.

وكانت “فولكسفاغن” تخطط لتحويل 80 في المئة من إنتاج موديلات “بورش” الفاخرة إلى سيارات كهربائية بالكامل في أفق 2030. كما تعتزم طرح سيارة كهربائية شعبية بسعر 20 ألف يورو بحلول عام 2027، تكون مصنوعة في أوروبا، وتطوير موديلات “أودي” و”كوبرا” و”شكودا” من نوع SUV (Sports Utility Vehicle).

 

رويترز رويترز

موظف في مصنع شركة “فولكسفاغن” يعمل على خط إنتاج السيارات في أحد مصانع الشركة في مدينة فولسبورغ، ألمانيا 23 مايو 2023. 

وتدرس “فولكسفاغن” التي ترفض التحالف الانتاجي مع شركات عالمية، إمكان نقل بعض المصانع إلى مناطق أخرى قد تكون شرق أوروبا، أو المغرب أو تركيا أو مصر أو أميركا اللاتينية أو جنوب أفريقيا. لكن المدير العام للمجموعة الألمانية، أوليفر بلوم، استبعد حتى الآن فكرة الانتقال خارج أوروبا، وأبقى خيار إغلاق بعض المصانع، والتخلي عن مبدأ حماية العمل المتفق عليه مع النقابات العمالية. وكشفت مصادر أن المجموعة التي تصنع أيضا “أودي” و”بورش” و”كوبرا” و”بنتلي” و”مان” و”بوغاتي” و”سكانيا” و”دوغاتي” و”لمبورغيني” وغيرها، تفكر في إطلاق برنامج تسريح العمال في صيف عام 2025، بعد التوصل إلى اتفاقات جديدة مع الحكومات المحلية والنقابات العمالية.

 

انخفضت مبيعات “فولكسفاغن” 500 ألف سيارة سنويا، وهذا يوازي إنتاج مصنعين في ألمانيا بعلامة “صنع في ألمانيا”. وقال موقع “DW” إن إغلاق مصانع الشركة للمرة الأولى منذ 87 سنة شكل صدمة في قطاع السيارات

 

 

وقال بلوم في حديث مع صحيفة “بيلد” الألمانية “إن الوضعية الحالية صعبة ومقلقة، وعلينا اتخاذ تدابير جريئة وشجاعة، ولا يمكننا الانتظار أكثر. إن “فولكسفاغن” تملك أيضا كلمة جرأة من أجل النجاح”. ويتخوف العمال ومصنعو السيارات في ألمانيا من عودة شد الحبل بين المجموعة والمركزيات النقابية لأن التخلي عن اتفاق حماية الوظائف الممتد إلى 2029 يشمل 120 ألف عامل وهو يهدد الاقتصاد الألماني برمته، بل مجموع الاقتصاد الأوروبي. والخلاف الأكبر سيكون حول أي من المصانع يمكن إغلاقها وفي أي مقاطعة.

وقال عمال في مقاطعة ساكس، “إن الأمر صعب أن نفقد وظائفنا والأجور الجيدة التي نتقاضاها. كنا في عام 2021 ننتج 360 ألف سيارة كهربائية سنويا في وحدة “زفيكاو”، وتراجع الإنتاج بنحو الثلث من 1600 سيارة إلى 1000 سيارة فقط يوميا عام 2024. لقد انخفضت مبيعات “فولكسفاغن” 500 ألف سيارة سنويا منذ جائحة ‘كوفيد-19’، وهذا يوازي إنتاج مصنعين في ألمانيا بعلامة ‘صنع في ألمانيا'”. وقال موقع “دوتشه فيله” (DW) “إن إغلاق مصانع “فولكسفاغن” للمرة الأولى منذ 87 سنة شكل صدمة في قطاع السيارات، ودفع الحكومة إلى التعبير عن قلقها. وربما تكون الأزمة عبارة عن أعراض لمشاكل أعمق في الاقتصاد الألماني”.

الحروب الجمركية… غضب ألماني

ستكون سنة 2025 صعبة على قطاع صناعة السيارات الأوروبية، خصوصا الألمانية التي تعاني تراجعا في الطلب الداخلي والإنتاج المحلي، وأزمة مقبلة في سوق العمل، نتيجة منافسة قوية من الصين التي تسجل تفوقا في صناعة السيارات الكهربائية والهجينة وتحوز نصف الإنتاج العالمي. وكانت مبيعات السيارات الإجمالية في العالم بلغت نحو 66 مليون سيارة في العام المنصرم، داخل سوق تجاوزت تريليوني دولار، تتقاسمها 16 علامة تجارية.

 

تتخوف ألمانيا من استخدام بكين لمبدأ المعاملة بالمثل التجارية وفق ميثاق منظمة التجارة العالمية في جنيف، مما سيجعل السيارات الألمانية عرضة لرسوم جمركية إضافية محتملة من الصين

 

 

وأعلنت بروكسيل حزمة إجراءات عقابية برفع الرسوم الجمركية على وارداتها من السيارات الكهربائية المصنعة في الصين من 10 إلى 38 في المئة، لما تعتبره دعما من الحكومة المركزية لشركات السيارات. وسيكون أمام بروكسيل 4 أشهر بعد فرض الرسوم الأولية لفرض رسوم نهائية، وهو ما يبقي نافذة للحوار حتى نهاية السنة الجارية قبل الحسم في النزاع الذي يقسم الأوروبيين ومصالحهم الخارجية.

أعربت برلين ودول مصنعة أخرى عن مناهضة هذه الإجراءات ووصفتها بـ”غير العملية”. وتتخوف ألمانيا من استخدام بكين لمبدأ المعاملة بالمثل التجارية وفق ميثاق منظمة التجارة العالمية في جنيف، مما سيجعل السيارات الألمانية عرضة لرسوم جمركية إضافية محتملة من الصين، وسيشكل ضربة قوية لصناعة السيارات في أكبر بلد مصدر في أوروبا وثاني منتج للسيارات في العالم. ويستنسخ الاتحاد الأوروبي خطوات البيت الأبيض في التضييق على أسواق السيارات الكهربائية الصينية بعد قرار الرئيس جو بادين رفع الرسوم إلى 100 في المئة على مجموع واردات قيمتها 18 مليار دولار، منها السيارات الكهربائية والبطاريات. وتشمل العقوبات الجمركية أيضا واردات الفولاذ والألومنيوم والألواح الشمسية وأشباه الموصلات، وتتراوح النسبة بين 25 في المئة على المواد المعدنية إلى 50 في المئة على الشرائح الالكترونية.

دول صاعدة في صناعة السيارات

عكس الاقتصاد الأميركي القوي بتعدد شركاته الصناعية، فقد يخسر الأوروبيون في الاتجاه الآخر مرتين:

أولا، احتمال انتقال مصانع كاملة إلى دول صاعدة في مجال السيارات (منها المغرب ومصر والسعودية وتركيا) لأجل تحمل تكلفة الإنتاج، مما سيجعل هذه الدول منافسا قويا في السوق العالمية لتصنيع البطاريات وإنتاج السيارات وأجزاء الطائرات. وهو تحد قد يجعل أوروبا قارة استهلاكية وليست صناعية على المدى المتوسط، كما توقع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

 

97 % من الصينيين يرغبون في شراء سيارة كهربائية في مقابل 43% للأوروبيين و35% للأميركيين

 

مكتب “أليكس بارتنرز” الاستشاري

ثانيا، خسارة جزء من الأسواق الصينية بسبب الرسوم الجمركية الأوروبية المرتفعة، علما أن 97 في المئة من الصينيين يرغبون في شراء سيارة كهربائية في مقابل 43 في المئة للأوروبيين و35 في المئة للأميركيين، بحسب مكتب “أليكس بارتنرز” الاستشاري.

وتعتبر الصين السوق الثانية بعد الولايات المتحدة بالنسبة للسيارات الألمانية الفاخرة مثل “مرسيدس” و”بورش” و”أودي” وغيرها. وهناك شبه خصام بين برلين وباريس حول موضوع رفع الرسوم على السيارات الصينية التي تقسم الأوروبيين، إذ تقف النمسا والمجر وإسبانيا والجمهورية التشيكية والسويد ودول أخرى في شرق وشمال أوروبا إلى جانب الموقف الألماني في تجنب الحروب التجارية مع بكين، في حين ترى باريس أن لها ما يكفي من الحلفاء داخل بروكسيل لإغلاق البوابة الأوروبية في وجه السيارات الكهربائية المدعومة من الحكومة الصينية، حتى لو خسرت صادرات زجاجات الشمبانيا.

ويبقى السؤال ماذا لو تبدل مزاج الأوروبيين نحو الاقتناع بجودة المنتج الصيني من السيارات الكهربائية على غرار الهواتف الذكية من “أوبو” (Oppo) وغيرها، وكما حصل مع اليابان قبل أربعة عقود في شأن سيارات “هوندا” و”مازدا” و”تويوتا”، ومع كوريا الجنوبية حول أجهزة “سامسونغ” الرقمية.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M