السياسات محلية، والتأثيرات عالمية: كيف انعكست الأزمات السياسية في كوريا الجنوبية وفرنسا وألمانيا على أسواق المال والاقتصاد العالمي؟

  • أنتجت الأزمات السياسية في كوريا الجنوبية وفرنسا وألمانيا تداعيات مباشرة على أسواق المال، والعملات المحلية، والقطاعات الاقتصادية الحيوية. وأظهرت هذه الأزمات أن الانقسامات السياسية وغياب الاستقرار قد يُقوِّضان ثقة المستثمرين، ويُفاقِمان التحديات الاقتصادية، خصوصاً في ظل ترابط الأسواق العالمية.
  • تعتمد تداعيات الاضطرابات السياسية في الدول الثلاث على استجابة القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة والصين، وما إذا كانت ستستخدم هذه التطورات لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي على حساب الدول المعنية، بالإضافة للتأثير المتوقع لسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على الأسواق العالمية.
  • استمرار الأزمات السياسية في دول اقتصادية رئيسة دون حلول فعّالة يعزز سيناريو التباطؤ الاقتصادي العالمي الواسع، وفي ظل عدم اليقين هذا، يبرز التساؤل حول قدرة الاقتصادات الكبرى على تحقيق الاستقرار المالي، وسط تحديات سياسية هائلة تهدد بإعادة تشكيل خريطة القوى الاقتصادية العالمية.

تواجه الأسواق المالية والاقتصادات العالمية حالة من الاضطراب نتيجة التوترات السياسية المتصاعدة في عدة دول رئيسة؛ ففي كوريا الجنوبية، أحدث إعلان الرئيس يون سوك يول بفرض الأحكام العرفية، ثم تراجعه عنها بعد اعتراض البرلمان، أزمة سياسية أثرت بشكل مباشر في الاقتصاد المحلي. وفي فرنسا، تواجه الحكومة أزمة حادة بعد تصويت البرلمان على سحب الثقة من رئيس الوزراء ميشيل بارنييه، ما قد يهدد استقرار السندات الفرنسية ويؤدي إلى اتساع الفجوة بين السندات الفرنسية والألمانية. أما في ألمانيا، فقد أدت الاضطرابات السياسية الداخلية وانهيار الائتلاف الحكومي إلى تفاقُم الأوضاع، ما أثر سلباً في استقرار أسواق المال وأسعار الصرف.

ترصد هذه الورقة وتحلل أبعاد الاضطرابات السياسية في الدول الثلاث، وتداعياتها على اقتصاديات هذه الدول، وعلى الاقتصاد العالمي، والمسارات المستقبلية المتوقعة للاقتصاد العالمي في ظل هذه الاضطرابات.

كوريا الجنوبية

في 7 ديسمبر، قدَّم الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول اعتذاراً للشعب مع إعلانه تحمُّله المسؤولية وتفويض حزبه للتعامل مع مستقبله السياسي، وسوَّغ قراره بفرض الأحكام العرفية على اتهامه للمعارضة السياسية بالعمل مع كوريا الشمالية لزعزعة استقرار كوريا الجنوبية، في الوقت الذي اتهمت فيه المعارضة الرئيس بالتحرك ضد الديمقراطية بعدما فاز في الانتخابات بفارق ضئيل أمام زعيم الحزب الديمقراطي المعارض، لي جاي ميونغ، في الانتخابات الرئاسية عام 2022.

ويواجه الرئيس الكوري احتمالية عزله من قبل البرلمان أو استقالته[1] بالنظر للضغوط الشعبية والسياسية بعد مغامرته غير المحسوبة، وقد شملت تداعيات ما حدث على الاقتصاد الكوري العديد من الآثار، أهمها:

  • ارتباك سوق المال الكوري وبعض القطاعات الاقتصادية، حيث تراجع مؤشر كوسبي بنسبة 1.3% ليصل إجمالي خسائره منذ بداية العام إلى أكثر من 7%، بينما سجل الوون الكوري أدنى مستوى له مقابل الدولار، ما يهدد استقرار الأسواق المالية المحلية، ويُتوقع تدخل البنك المركزي الكوري لدعم العملة المحلية عبر خطط طارئة لزيادة السيولة، وانخفضت صناديق الاستثمار المتداولة في البورصة والأسهم المدرجة في الولايات المتحدة للشركات الكورية التي تتخذ من كوريا مقراً لها، وشهد مؤشر MSCI لتداول الأوراق المالية في كوريا الجنوبية انخفاضاً بنسبة 2.7%، وفي الوقت نفسه، انخفضت أسهم Coupang وPosco Holdings بنحو 4.4%، بينما انخفضت أسهم KT Corp وKB Financial بنسبة 1% و2.4% على التوالي، وتراجعت أيضاً أسهم شركة سامسونج إلكترونيكس بنسبة 3%.
  • تدخل البنك المركزي الكوري للحفاظ على السوق، حيث تعهَّد البنك باتخاذ مجموعة متنوعة من الخطوات للحفاظ على استقرار الأسواق المالية عقب اجتماع عاجل لمجلس إدارة البنك الذي أكد البنك أنه سيزيد السيولة قصيرة الأجل، ويتخذ خطوات حثيثة في أسواق العملات حسب الحاجة لضمان استقرار الاقتصاد.
  • ارتفاع الدولار الأمريكي أمام العملة الكورية الجنوبية “الوون”، بنسبة 1.2%.
أثرت الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية بشكل مباشر في الاقتصاد المحلي، وألقت بظلالها على أسواق المال العالمية (AFP)

فرنسا 

وصلت الاضطرابات السياسية في فرنسا مستوىً خطراً مع سقوط الحكومة وجمود المؤسسات، حيث سُحِبَت الثقة من حكومة ميشيل بارنييه، في 4 ديسمبر، بعد تصويت تاريخي من البرلمان الفرنسي تحالفت فيه قوى اليسار المتطرف مع اليمين المتطرف لإسقاط الحكومة. ويعكس رحيل بارنييه مؤشراً على مدى الجمود الذي وصلت إليه المؤسسات الفرنسية منذ الانتخابات الأخيرة[2]، وقد تعهَّد الرئيس إيمانويل ماكرون بالبقاء في منصبه حتى نهاية ولايته في عام 2027، وأعلن أنه سيرشح رئيس وزراء جديداً في غضون أيام، وألقى باللائمة في إسقاط حكومة بارنييه على خصومه اليساريين.

ويشير سحب الثقة من حكومة بارنييه إلى اتساع الأزمة السياسية، واحتمالية أن تظل المؤسسات الفرنسية في حالة من عدم اليقين بشأن مستقبلها السياسي، ما يعني أن أية حكومة مستقبلية قد تواجه خطر الإقالة السريعة مثلما حدث مع حكومة بارنييه. وانطوت تداعيات ما حدث على الاقتصاد الفرنسي على الآتي:

  • ارتفاع تكاليف الاقتراض: حذر بارنييه في وقت سابق من حدوث عاصفة مالية واقتصادية في حال سقوط حكومته دون إقرار ميزانية 2025، مع احتمالية أن تتجاوز تكاليف الاقتراض 60 مليار يورو في العام المقبل، متجاوزة بذلك ميزانية الدفاع الفرنسية، حيث شهدت تكاليف الاقتراض على السندات السيادية الفرنسية لأجل 10 سنوات ارتفاعاً إلى أعلى مستوى لها في 12 عاماً مقارنة بنظيرتها الألمانية بسبب القلق المتزايد لدى المستثمرين بشأن تبعات سحب الثقة من حكومة بارنييه.
  • تعطُل الإنتاجية في عدد من القطاعات الاقتصادية الفرنسية، لاسيما القطاعات الصناعية والخدمية، والتأثيرات المحتملة لذلك على الناتج المحلي الإجمالي للدولة. علاوة على أداء أسواق المال، وتأثُر العديد من الشركات الكبرى وتراجع أسهمها بنسب متفاوتة، بالإضافة لفقدان الشركات في قطاعات السياحة والترفيه ما يقدر بنحو 10% من قيمتها السوقية، حيث يعد قطاع السياحة من أكثر القطاعات المتضررة (يشكل 8% من الناتج المحلي الإجمالي)، بفعل تراجع الحجوزات بنسب تتراوح بين 15% إلى 20% في المدن الكبرى، مع تأثيرات مباشرة على الفنادق والمطاعم وقطاع النقل.
  • ارتفاع تكاليف التشغيل والإنفاق الحكومي، حيث ارتفعت تكاليف التشغيل للشركات بسبب الإضرابات مع زيادة الإنفاق الحكومي لتعويض الخسائر، ما يضع أعباءً إضافية على الموازنة العامة.
  • تبايُن ثقة المستثمرين بشأن السوق الفرنسية؛ فبعض المستثمرين يرون أن التوترات طويلة الأمد تُضعف جاذبية السوق الفرنسية، فيما يرى آخرون أنها فرصة لشراء الأصول المنخفضة القيمة مع التوقُّع بعودة الاستقرار والنمو في المستقبل.
  • تأثير واضح في سوق الأسهم: على رغم بعض التحسُّن في مؤشر كاك 40 على المدى القصير، فإن سوق المال الفرنسي يعاني من تراجُع حاد في أسهم الشركات الكبرى، ما يشير إلى احتمالية تفاقُم المخاطر الاقتصادية.
  • مستقبل غامض لليورو: استقر اليورو مقابل الدولار عند 1.052 دولار، ما يعكس التوقعات المسبقة للمستثمرين باحتمالية سحب الثقة من الحكومة الفرنسية وهو ما حدث بالفعل، إلا أن التوترات المالية في فرنسا قد تؤثر في مستقبل اليورو، إذ إن تدهور التدفقات الأجنبية إلى السندات الفرنسية مع تفاقم المخاطر السياسية المحلي، سيؤثر في عمل سياسات البنك المركزي الأوروبي، خصوصاً في ظل تعامله مع الاقتصادات المحلية المتراجعة (في فرنسا وألمانيا)، وتهديدات التعريفات الجمركية الأمريكية المحتملة بعد تولي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة في يناير المقبل.
تفاقُم الأزمة السياسية في فرنسا، إثر سحب الثقة من حكومة بارنييه، انعكس على سوق السندات ورفع تكاليف الاقتراض (AFP)

ألمانيا

تفككت الحكومة الائتلافية في ألمانيا مع قيام المستشار الألماني أولاف شولتس، في 6 نوفمبر المنصرم، بإقالة وزير ماليته كريستيان ليندنر، الذي يتزعم في نفس الوقت الحزب الديمقراطي الحر، وتمحورت الخلافات الجوهرية[3] حول إدارة السياسات الاقتصادية وأولويات الإنفاق. وسيجري المستشار الألماني تصويتاً بسحب الثقة في 16 ديسمبر، على أن تُجرى الانتخابات الجديدة في فبراير 2025، بناءً على مقترح من أحزاب الائتلاف الحاكم (الديمقراطي الاجتماعي والخضر والمحافظين). وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى تداعيات اقتصادية وسياسية مهمة، تتمثل في الآتي:

  • وضع اقتصادي مُقلِق: تواجه ألمانيا مستقبلاً اقتصادياً ضبابياً وسط تصاعد معدلات البطالة وعدم الاستقرار السياسي، وقد أعلن العديد من الشركات الألمانية الكبرى المدرجة في قائمة فورتشن 500 عن تسريح أكثر من 60 ألف موظف هذا العام، وسيزيد هذا الرقم مع تدهور قطاع الصناعات التصديرية الذي يشكل 30% من الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بفعل التنافس المتسارع من الصين وارتفاع تكاليف الطاقة نتيجة الحرب في أوكرانيا، فيما تزداد الصعوبات في قطاعيّ الصناعة والتكنولوجيا، اللذين كانا يشكلان أساس الاقتصاد الألماني، ويعد تراجُع الإنتاج الصناعي الألماني حالياً من أبرز عمليات التراجُع التي شهدتها ألمانيا منذ عقود.
  • ضعف مكانة ألمانيا في الاتحاد الأوروبي: قد يُضعف عدم الاستقرار السياسي الداخلي مكانة ألمانيا القيادية داخل الاتحاد الأوروبي، كما قد يُقوّض قدرتها على أداء دور محوري في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، خصوصاً في مجالات الطاقة والسياسة الدفاعية. إضافة إلى ذلك، قد تتأثر الخطط الأوروبية للتصنيع العسكري التي تعتمد بشكل كبير على الدعم المالي الألماني، مما يُهدد تنفيذها ويضعف التنسيق الأوروبي في هذا المجال الحيوي، خاصةً مع احتمالية تقليص الالتزامات الألمانية تجاه القارة الأوروبية، في ظل فترة حرجة يسعى في خلالها القادة الأوروبيون لتوحيد الجهود لمواجهة التحديات العاجلة، بما في ذلك قضايا الدفاع الأوروبي في ظل المخاوف من تراجُع التزامات الولايات المتحدة الأمنية تجاه حلف الناتو وأوروبا، بالإضافة إلى احتمالات نشوب خلافات تجارية مع واشنطن مع تولي ترمب السلطة رسمياً.
تسبب انهيار الحكومة الائتلافية في ألمانيا بحالة من عدم اليقين السياسي والاقتصادي (AFP)

التداعيات على الاقتصاد العالمي

من أبرز تداعيات تلك التطورات في هذه الدول الثلاث على الاقتصاد العالمي، ما يلي:

1. ارتفاع أسعار الذهب: واصلت أسعار الذهب صعودها نتيجة للاضطرابات السياسية في كوريا الجنوبية وفرنسا، مما عزز الطلب على الأصول الآمنة، حيث تدوولت أسعار الذهب بالقرب من 2650 دولاراً للأونصة، بعد أن ارتفعت بنسبة تصل إلى 0.6%.

2. أزمة محتملة في قطاع الرقائق الإلكترونية: تلوح في الأفق أزمة محتملة في إنتاج الرقائق الإلكترونية، حيث تعد كوريا الجنوبية موطناً لعمالقة الصناعة مثل سامسونج وإل جي وSK Hynix، وقد ينعكس تصاعُد الاضطرابات السياسية في البلاد سلباً على إنتاج أشباه الموصلات، وهو قطاع أساسي يمتد تأثيره إلى صناعات متعددة، من السيارات إلى الهواتف الذكية، فأي تعطُّل في الإمدادات من هذه الشركات قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار عالمياً واضطراب شديد في سلاسل التوريد، مما يهدد استقرار الأسواق العالمية، حيث إن دولاً مثل الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي تعتمد بشكل كبير على أشباه الموصلات ومنتجات التكنولوجيا من كوريا الجنوبية، ونقص هذه المنتجات سيؤثر في الصناعات التكنولوجية المتقدمة في هذه الدول.

3. اضطراب التجارة العالمية وسلاسل التوريد: تشكل كوريا الجنوبية إحدى ركائز التجارة العالمية، حيث تعد من أكبر المصدرين للسيارات، والسفن، والصناعات الثقيلة، وأي اضطراب في عمليات الموانئ أو توقف الإنتاج بسبب الأزمات السياسية قد يُعرقل تدفق التجارة، ما قد يُحدث تأثيراً كبيراً على الأسواق، خصوصاً في آسيا وأوروبا، ويُهدد استقرار سلاسل الإمداد العالمية.

4. التأثير على الأسواق المالية: تمثل كوريا الجنوبية إحدى أكبر الاقتصادات في آسيا، وأي اضطرابات سياسية فيها قد تُحدث موجة من عدم الاستقرار في الأسواق المالية الإقليمية والعالمية، وقد تؤدي هذه الاضطرابات إلى تقلبات حادة في العملات الآسيوية الأخرى، مثل الين الياباني واليوان الصيني، نتيجة توجُه رؤوس الأموال نحو أسواق أكثر استقراراً خارج المنطقة، مما يزيد من الضغط على الاقتصاد الإقليمي ويهدد التوازن المالي العالمي.

5. تداعيات واسعة النطاق على أسواق الطاقة الأوروبية: فهناك احتمالية لارتفاع حاد في تكاليف الكهرباء الإقليمية نتيجة للأزمة في فرنسا، والتي تُعدّ أكبر مُصدِّر للكهرباء في أوروبا، حيث تشكِّل نحو 60% من صافي صادرات الكهرباء، في وقت تعاني أوروبا من تكاليف طاقة مرتفعة، وضعف في النمو الاقتصادي.

6. انخفاض متوقع للنمو في منطقة اليورو: من المتوقع أن يشهد النمو الاقتصادي في منطقة اليورو تباطؤاً ملحوظاً، حيث خفَّضت مجموعة “جولدمان ساكس” توقعاتها للنمو لعام 2025 من 1.1% إلى 0.8%، وأرجعت ذلك إلى مجموعة من العوامل، أبرزها المخاطر المرتبطة بعودة ترمب إلى البيت الأبيض، مما يُثير مخاوف بشأن استقرار العلاقات التجارية عبر الأطلسي. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي الضغوط المتزايدة على عائدات السندات طويلة الأجل، بفعل ارتفاع العجز المالي، إلى تأثيرات سلبية على الثقة الاقتصادية، إلى جانب التداعيات الناتجة عن تصاعد المخاطر الجيوسياسية الدولية.

تصاعُد الاضطرابات السياسية في كوريا الجنوبية يؤثر سلباً في إنتاج أشباه الموصلات، ويهدد استقرار الأسواق العالمية (Shutterstock)

المسارات المستقبلية المحتملة للاقتصاد العالمي

تعتمد تداعيات هذه الاضطرابات السياسية على استجابة القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة والصين، وما إذا كانت سوف تستخدم هذه التطورات لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي على حساب الدول المعنية، بالإضافة للتأثير المتوقع لسياسات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب على الأسواق العالمية. ومن ناحية أخرى، فإن اتساع حجم هذه الاضطرابات ووصولها لدول أخرى، بالإضافة للتوترات الجيوسياسية الموجودة أصلاً سواء الحرب الروسية الأوكرانية أو الأزمة في الشرق الأوسط، سيفاقم من التأثيرات المتوقعة على الاقتصاد العالمي، ونتيجة لذلك يتوقع أن يسير الاقتصاد العالمي في أحد المسارات الثلاثة الآتية:

المسار الأول، تباطؤ واسع المدى في النمو الاقتصادي العالمي مع تصاعُد الاضطرابات السياسية، وذلك نتيجة لاستمرار الأزمات السياسية دون حلول جذرية، وتصاعُد الأزمات الاقتصادية بفعل عدم الاستقرار في فرنسا وألمانيا، واحتمالية تراجُع إنتاج الرقائق الإلكترونية في كوريا الجنوبية بما قد يؤدي إلى نقص عالمي يعطل سلاسل التوريد، ما سيعني تباطؤً كبيراً في نمو الاقتصاد العالمي، وارتفاع تكاليف الاقتراض عالمياً نتيجة تزايد العجز المالي في أوروبا، مع وجود اضطرابات شديدة في أسواق المال والعملات الآسيوية، وزيادة التضخم بسبب اضطرابات سلاسل الإمداد وارتفاع تكاليف الإنتاج.

المسار الثاني، تباطؤ محدود في النمو الاقتصادي العالمي مع تحسُّن واستقرار نسبي في الأسواق. ويتحقق هذا المسار بتدخُل القيادات السياسية في فرنسا وألمانيا لإعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي، واتخاذ إجراءات حكومية في كوريا الجنوبية للحد من تأثير الأزمات على الصناعات الحيوية، بما سيؤدي إلى تباطؤ محدود في النمو الاقتصادي العالمي مع استعادة الثقة تدريجياً، واستقرار نسبي في أسواق المال، مع عودة تدريجية للاستثمارات، وإمكانية التحكُم في سياق الأزمة الاقتصادية.

المسار الثالث، تعافي الأسواق المالية واستعادة الثقة الاقتصادية، وذلك في حال نجاح الجهود الأوروبية في تشكيل حكومات مستقرة بسرعة، مع تهدئة الأوضاع السياسية في كوريا الجنوبية، والحفاظ على استمرارية الإنتاج الصناعي، بما يعني عودة تدريجية للنمو في منطقة اليورو، مع دعم برامج الطاقة والتصنيع، وحدوث تحسُّن في استقرار الأسواق الآسيوية وسلاسل التوريد العالمية.

ومع أن المشهد الراهن يزيد من حالة عدم اللايقين بشأن المسار الأكثر ترجيحاً من المسارات الثلاثة، لكن يبدو المسار الأول مُرجحاً أكثر من غيره، في ظل حالة تزايُد حدة الاستقطابات السياسية، والمتوازية مع حالة الغموض بشأن تداعيات سياسات الرئيس ترمب الاقتصادية على حلفاء الولايات المتحدة، سواء في أوروبا أو في آسيا.

استمرار الأزمات السياسية دون حلول فعّالة في دول اقتصادية محورية يعزز سيناريو التباطؤ الاقتصادي العالمي الواسع (AFP)

الاستنتاجات

تكشف الأزمات السياسية في كوريا الجنوبية وفرنسا وألمانيا عُمْق الترابط بين الديناميكيات السياسية والاقتصادية، وعلى نحو يتخطى حدود هذه الدول، ليشمل الفضاء الاقتصادي القاري والعالمي، حيث أظهرت الأزمات في الدول الثلاث تداعيات مباشرة على أسواق المال، والعملات المحلية، والقطاعات الاقتصادية الحيوية. ففي كوريا الجنوبية، أدى قرار الأحكام العرفية وما تبعه من ارتباك سياسي إلى انخفاض كبير في سوق المال وقيمة الوون، بينما أثرت الأزمة السياسية في فرنسا، والتي تفاقمت مع سحب الثقة من الحكومة، أثرت في سوق السندات وزادت من تكاليف الاقتراض، فيما تفاقم الوضع في ألمانيا بسبب انهيار الحكومة الائتلافية، مما أدى إلى حالة من عدم اليقين السياسي والاقتصادي قد تؤثر في دور برلين القيادي في الاتحاد الأوروبي. وقد أظهرت هذه الأزمات أن الانقسامات السياسية وغياب الاستقرار قد يقوضان ثقة المستثمرين، ويؤديان إلى تفاقم التحديات الاقتصادية، خصوصاً في ظل ترابط الأسواق العالمية.

من ناحية أخرى، بات واضحاً أن التداعيات الاقتصادية للأزمات السياسية أضحت متجاوزةً للأطر المحلية، حيث نشهد ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار الأصول الآمنة كاستجابة لتزايد المخاطر، واضطرابات في سلاسل التوريد بفعل الأزمة الكورية التي تهدد صناعة الرقائق الإلكترونية الأساسية للاقتصاد الرقمي. وعلى صعيد منطقة اليورو تتفاقم التحديات بفعل تآكل الثقة الاقتصادية الناجم عن الأزمات في فرنسا وألمانيا، ما قد يؤدي إلى تباطؤ كبير في النمو الاقتصادي، خاصة مع ضغط العجز المالي وتداعيات السياسات الأمريكية المرتقبة. وتبعاً لذلك، يبدو المشهد المستقبلي قاتماً، إذ إن استمرار هذه الأزمات دون حلول فعّالة يعزز سيناريو التباطؤ الاقتصادي العالمي الواسع، وفي ظل عدم اليقين هذا، يبرز التساؤل حول قدرة الاقتصادات الكبرى على تحقيق الاستقرار المالي، وسط تحديات سياسية هائلة تهدد بإعادة تشكيل خريطة القوى الاقتصادية العالمية.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M