السياسة الفوضوية: لماذا يتأجج الوضع الأمني في الضفة الغربية؟

شادي محسن

 

شنت إسرائيل عملية عسكرية في جنين بعد فترة قصيرة من انتهاء عمليتها في غزة ضد الجهاد الإسلامي. ترافق معها إشارات إلى شن عملية عسكرية مشابهة في نابلس لذات الهدف وهو استهداف البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية. صرّح نتانياهو بعدها “أن إسرائيل غيرت من سياستها العسكرية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.”

يبدو أن الوضع الأمني يتأزم بين إسرائيل والفلسطينيين؛ لعدة عوامل أساسية، يمكن توضحيها فيما يلي.

أولا: تغير مفهوم العمل العسكري في إسرائيل

لا ترغب إسرائيل في الانجرار إلى السياسة الإيرانية الهادفة إلى رسم حلقة نار من وكلاء وأطراف مسلحة حول إسرائيل؛ الذي مؤداه خلق عدة جبهات تهديد على إسرائيل: متفرقة جغرافيا ولكنها ساعية إلى التوحيد والتنسيق للوصول إلى الطابع الاستراتيجي في التهديد؛ وهي: جبهة سوريا ولبنان، وجبهة قطاع غزة، وجبهة الضفة الغربية والقدس، وقد يضاف عليها جبهة العراق واليمن.

لذلك تسعى إسرائيل إلى كسر الخطة الإيرانية عبر شن عمليات عسكرية نوعية “مابام” على تلك الجبهات بهدف فصلها وليس توحيدها. ولكن أثناء تنفيذ إسرائيل مسعاها المذكور سقط القرار العسكري الإسرائيلي في معضلة تخبط التقدير والهدف الاستراتيجي النهائي من العملية.

يمكن توضيح ذلك، أن العملية الأخيرة في جنين (التي تسمى إعلاميا المنزل والحديقة)؛ قدّر الشاباك قبلها ضرورة شن عملية عسكرية موسعة تشمل نطاقات جغرافية متفرقة بهدف “تحييد” الأطراف الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية، ولكن في الجهة المقابلة قدّر الجيش الإسرائيلي أنه يلزم فقط شن عملية عسكرية محدودة بهدف “الردع” وليس التحييد أو الحسم.

وعليه، خاطرت إسرائيل باستخدام سلاح الجو لاستهداف البنية التحتية في مخيم جنين، واستخدام قوة برية خاصة مثل “يهالوم” و”ايجوز” المتخصصة في غزو المدن والمناطق الوعرة، ثم قررت الانسحاب بعدها. ورغم ذلك، لم تصل إسرائيل إلى إجابة حاسمة (حتى الآن) بشأن ما إذا نجحت عمليتها في جنين من عدمه.

صرّح نتانياهو أن إسرائيل غيّرت من سياساتها العسكرية تجاه الفلسطينيين، يمكن تفسير هذا التصريح أنه يقتصر على الإجراءات العملياتية المرتبطة بخطة “تنوفا” التي تهدف إلى تكوين تشكيلات عسكرية متعددة من الجيش الإسرائيلي يجتمع في كل تشكيل واحد كافة الأسلحة سواء البرية، والجوية، والاستخباراتية، واللوجستية. وفي المرحلة الراهنة تختبر إسرائيل فقط نجاح هذه الخطة عبر إجراء عمليات عسكرية متكررة في عدة الجبهات، حتى الآن اُعتمدت فقط في غزة وشمال الضفة الغربية.

 أما على مستوى القرار العسكري الاستراتيجي؛ فيبدو أن إسرائيل لم تخطط حساباتها بدقة حول ما إذا ترغب في الردع أم الحسم؛ إذ يعني الردع نظريا هو النجاح في الوصول إلى استقرار أمني طويل الأمد نسبيا؛ لعدم حدوث عمليات مقاومة التي رضخت للمعادلات الإسرائيلية، أما يعني الحسم نظريا هو تحييد كامل للبنية التحتية مثل الأنفاق ومخازن السلاح والذخيرة كذلك تصفية القادة العسكريين. استقر الواقع النهائي أن إسرائيل لم تنجح في فرض الهدوء، أو تحييد المسؤولين عن التهديد.

يعود سبب ذلك، في تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي “يؤاف جالانت” الذي قال: “إن شن عملية عسكرية موسعة هي عملية باهظة الثمن”. والمقصود هو أن التكلفة المالية، والسياسية، والاستراتيجية ستكون غير متوقعة وفي أفضل التقديرات ستكون كبيرة.

ثانيا: تغير نمط المقاومة الفلسطينية

تعتمد السلطة الفلسطينية تحت رئاسة محمود عباس على سياسة المقاومة السلمية، ولكن مع تعاقب التطورات السياسية ذات الطابع الاستيطاني والعنيف من جانب التيارات اليمينية المتطرفة سواء على مستوى الحكومة أو المجتمع الإسرائيلي في الضفة ساعد ذلك في تطور الاتجاه المائل إلى تبني سياسة المقاومة المسلحة.

في أحدث استطلاع رأي عام لـ “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”، أشار إلى (1) أن 71% من الفلسطينيين يؤيدون تشكيل كتائب مسلحة مثل عرين الأسود؛ كونها لا تخضع لسياسات السلطة الفلسطينية، (2) و58% يعتقدون أن المجموعات الفلسطينية المسلحة ستنتشر في بقية الضفة الغربية، (3) في حين 51% يتوقعون اندلاع انتفاضة ثالثة في جميع أنحاء الضفة الغربية. ولا تخضع هذه النسب المئوية المذكورة سلفا إلى اعتبارات تتعلق بمستوى التعليم أو التدين أو الجغرافيا أو النوع، إذ تندرج جميع هذه الفئات للحسابات السابقة، عدا السن؛ إذ يُلاحظ تأييد البالغين والشباب من سن 15 إلى 22 لنمط المقاومة المسلحة على حساب الشيوخ.

تعكس المعلومات السابق ذكرها، أن هناك حماس فلسطيني لشن عمليات مقاومة مسلحة في طبيعة شبه عسكرية وليست فردية. ونجحت التنظيمات (مثل كتيبة جنين، كتيبة نابلس، عرين الأسود، وكر الصقور، قوات الجليل، شهداء الأقصى) في استيعاب هذا الاتجاه الملاحظ لمواجهة الوجود الإسرائيلي في أراض الضفة الغربية.

سبّب هذا النمط من المقاومة إزعاجا لدى إسرائيل على المستوى الأمني والعسكري؛ كون أن التهديد بات غير نمطي لا يقتصر فقط على شكل المقاومة في نط تنظيمات أو مجموعات مسلحة بل يشمل ذلك خلايا نائمة على غرار ذئاب منفردة. علاوة على لك، تتهم إسرائيل تلك التنظيمات بتلقي تمويلا إيرانيا يصل إلى ملايين الدولارات.

ثالثا: مدخلات السياسة الفوضوية

تتسم الحكومة الإسرائيلية الحالية بتناقضات فريدة، فعلى الرغم من انسجامها الأيديولوجي بين ائتلافها الحزبي إلا أنها شملت عدة ظواهر مختلفة تتسم بالفوضى، وهي:

*إعادة توزيع الصلاحيات والاختصاصات في الحكومة: إذ سمح نتانياهو بتقليص صلاحيات منسق العمليات في الضفة الغربية الذي كان يتبع الجيش الإسرائيلي، ونقل صلاحياته إلى وزير المالية (المحسوب على اليمين الديني المتطرف) الذي يعد وزيرا ثانيا للدفاع. تسبب هذا التطور في إضفاء الطابع السياسي-الأيديولوجي على الأنشطة العسكرية في الضفة وخدمتها للأجندة الاستيطانية والتطرفية ضد الفلسطينيين.

يتسبب هذا المتغير في شن عمليات عسكرية في الضفة فقط من أجل حسابات سياسية، فعلى الرغم من انخفاض عدد حالات الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين نسبيا في شهر يونيو مقارنة بشهر مايو (كما هو موضح في الجدول)، إلا أن إسرائيل قررت شن عملية “البيت والحديقة” في جنين؛ بهدف خدمة معادلات سياسية وليست أمنية.

*الصراع داخل اليمين على أجندة الاستيطان: كذلك سمحت إسرائيل بإنشاء وزارة جديدة “وزارة النقب والجليل” التي تتبع سلطتها وزير الأمن العام (المحسوب على اليمين القومي المتطرف)، تنافس هذه الوزارة (التي تخدم أجندة اليمين القومي) على سياسات الاستيطان. فأصبح الاستيطان في الضفة وإسرائيل كلية محل صراع بين اليمين القومي من ناحية واليمين الديني من ناحية أخرى؛ ترغب الأحزاب الحريدية في بناء مستوطنات جديدة لزيادة ديموغرافيتهم وإعادة تأثيرهم مرة أخرى على هوية اليهودي الإسرائيلي، في مقابل ترغب الأحزاب اليمينية القومية (مثل عوتسماه يهوديت) في بناء المستوطنات في الضفة وإسرائيل لزيادة ديموغرافيتهم وترسيخ أجندتهم.

يضاف على هذا المتغير السياسي مؤشر اجتماعي مهم وهو أن التيار اليميني القومي في إسرائيل يعمل على إنشاء حركات اجتماعية تعتمد في قوتها على المستوطنين القوميين في الضفة الغربية التي تستخدم العنف في مواجهة الفلسطينيين مثل تخريب البيوت، وحرق الأراضي الزراعية، وحرق الممتلكات، وطرد الفلسطينيين. مما يعمل على تأجيج الاحتكاك مع الفلسطينيين وبالتالي تحفيزهم على إثارة رد فعل عنيف يستدعي استخدام القوة العسكرية من قبل المؤسسات الأمنية والعسكرية.

*من يحتكر الأمن وحمل السلاح؟: يخشى الجيش الإسرائيلي من مسألة النزاع حول احتكار السلاح والعنف في إسرائيل، إذ ينادي وزير الامن العام “ايتامار بن جفير” بتطبيق كامل خطة إنشاء الحرس الوطني (الذي يعد جيشا من المستوطنين المدربين على حمل السلاح موازيا لعمل الجيش والشرطة في الضفة الغربية). يستدل على ذلك سرعة تصريحه بعد عملية تل أبيب الأخيرة فقال: “أدعو جميع الإسرائيليين المؤهلين على حمل السلاح على نحو عاجل وحماية أمنهم الشخصي”.

يبدو أن الجيش الإسرائيلي لا يقدر ضرورة شن عملية عسكرية على الفلسطينيين في الضفة الغربية في الوقت الراهن، ويستدل على ذلك في تقديره المعلن قبل عملية “البيت والحديقة” في جنين، عكس تقدير الشاباك الذي نادى بضرورة شن عملية عسكرية موسعة. ولكن يبدو أن الجيش الإسرائيلي اضطر الموافقة على العملية العسكرية بهدف ترسيخ فكرة احتكار العنف والسلاح والدفاع عن أمن الإسرائيليين؛ بهدف الحفاظ على متانة العلاقات المدنية العسكرية في إسرائيل.

*تطرف ضد السلطة الفلسطينية: جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة لا تؤمن بضرورة اتخاذ خطوات فعلية في طريق قيام دولة فلسطينية مستقلة منذ إقامة السلطة الفلسطينية. ولكن أدركت الحكومات المحسوبة على تيار الوسط بأهمية الإبقاء على قوة السلطة الفلسطينية أمام تعاظم قوة فصائل غزة (حماس والجهاد). أما حكومة نتانياهو الحالية فلا توافق أحزابها داخل الائتلاف على تقديم إسرائيل الدعم للسلطة ولكن تفضل انهيارها والرهان على سيناريو ما بعد محمود عباس. وعليه، بدأت الحكومة في تخصيص ميزانيات محددة لإنشاء ما يسمى بـ “الطرق الالتفافية الاستيطانية” التي تزيد في أهميتها على أهمية المستوطنات ذاتها؛ كونها أداة استراتيجية في إحكام السيطرة على الضفة في حال وقوع انتفاضة أو حرب أهلية.

*تذكير الولايات المتحدة بأمن إسرائيل: تواجه حكومة نتانياهو (الأكثر تطرفا) تحدي ماثل في العلاقات الامريكية الإسرائيلية؛ بسبب موقف البيت الأبيض غير الإيجابي مع مشروع الإصلاح القضائي (الذي يهدد ديموقراطية إسرائيل حسب الرواية الأمريكية). لذا يحاول نتانياهو (الذي لم يستدعى حتى الآن لزيارة البيت الأبيض) تذكير الولايات المتحدة في كل فترة وجيزة بأمن إسرائيل، وهو ما يفسر لماذا حرصت إسرائيل على التنسيق مع الولايات المتحدة قبل إطلاق عملية جنين الأخيرة.

ختاما، يمكن القول إن الوضع الأمني في الضفة الغربية مستقبلا ستحدق به الكثير من المدخلات الأمنية والسياسية الإسرائيلية التي تتسم بالطابع الفوضوي؛ بسبب تعاظم قوة التيار اليميني المتطرف في إسرائيل والصراع المكتوم بينهم حول احتكار أجندة إسرائيل بين القومية والصهيونية الدينية. وهو ما قد ينذر باحتدام الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/35048/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M