حيدر محمد الوائلي
في العاشر من رمضان في السنة العاشرة لبعثة النبي محمد (ص) وقبل الهجرة بثلاث سنوات في شِعب أبي طالب حيث القهر والمعاناة والحصار، طارت حمامات روحٍ تركت لذة الدنيا وزينتها لوغدٍ كان تصور إقبال حلاوة الدنيا عليه باقٍ له، ليتركها مرغماً لغيره لاحقاً فيصبح نسياً منسياً خسر خسراناً مبينا.
الخير كل الخير للصابرين، للعاقلين، للنفوس الطيبة التي لم تتلوث بالحقد والغرور والكراهية والتكبر وليتنعم الأوغاد بملذاتها وحطامها ووهم الأبهة الذي يعيشونه خيالاً لأجلٍ قصير.
قصة امرأةً تركت التجارة والأموال وإيلاف قريش وتجارة الشتاء والصيف، لتعبد رب هذا البيت الذي سكن قلبها فآمنها من خوف مطمئنة راضية مرضية.
رحلت من دنيا المعاناة والقهر السيدة خديجة بنت خويلد وعمرها (65) سنة بعد شباب التجارة والخير الوفير، ضحت به وبمالها ومكانتها للعزيز القدير.
تزوجها النبي محمد (ص) وعمره (25) سنة وعمرها (40). قضت (25) سنة زوجة للرسول (ص) في معاناة وقهر ومحاربة قريش لها لزواجها من نبيٍ أتى برسالة تنصر الله بالعقل والعدل ومكارم الأخلاق محارباً الجهل والظلم وانحطاط الأخلاق.
كان لها مع رسول الله (ص) ستة أولاد: ابنين (القاسم وعبد الله) توفوا صغاراً، وأربعة بنات (زينب ورقية وام كلثوم وفاطمة).
سيدة نساء العرب ومن كبار تجارها وحملة رؤوس أموالها ممن اشتهرت بحكمة اختياراتها وتدقيقها فيمن تختاره ليكون معها لتضمن سلامة أموالها وعظيم ربحها.
أخوها (العوام بن خويلد) المتوفى قبل بعثة النبي بسنوات وهو ابو الزبير من زوجته صفية بنت عبد المطلب التي هي اخت عبد الله (ابو النبي محمد ص) والحمزة وعبد مناف (أبو طالب) وعبد العزى (أبو لهب).
اخوها الثاني هو (نوفل بن خويلد) وكان شديداً على المسلمين محارباً لهم وقاتلهم في معركة بدر التي قتله الأمام علي فيها.
عانت ما عاناه بني هاشم من جوعٍ ومرضٍ مدة ثلاث سنين هي مدة الحصار في (شِعب أبي طالب) تاركةً عز قبيلتها الأسدية أهل القوة والهيبة لتلتحق بضعفاء الناس المتجمعين مع زوجها الرسول (ص).
من شدة الحصار اضطر الناس أن يقتاتون أوراق الشجر، بل والى اكل بقايا جلود ذبائح كانت عندهم وكان يُسمع صوت صراخ النساء والأطفال من شدة ألم الجوع.
كان من الأطفال الذين وُلدوا داخل (شِعب أبي طالب) الصحابي الكبير الملقب (حَبر الأمة) و(ترجمان القران) (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب) ابن عم النبي والأمام علي.
لما بلغ بالناس هناك الجهد الجهيد وتعالى أصوات بكاء الصبيان وولولة النساء الصابرات وهن نادبات فصارت قريش منقسمة حول ما يحصل في الشِعب من معاناة مستمرة طول ثلاث سنوات لينتهي الحصار من دون انكسار في النبي ومن معه.
خرجوا من الحصار منتصرين.
الانتصار هو أن تحافظ على سلامة روحك من التلوث بالنفاق.
الانتصار هو عدم التنازل عن مطالب مشروعة. مطالب لم تجلب اذى لآخرين ولم تشكل عدواناً على أحد.
الانتصار هو تحقيق كل ذلك وأنت ضعيف.
من دون الرضوخ لمطالب قريش ومن دون تقديم تنازلات، كان رفع الحصار نصراً مبينا.
بعد أن فُك الحصار عن الرسول (ص) ومن معه مرضت خديجة.
فرحة رفع الحصار لم تكتمل، فما لبثت أن توفيت وقبلها بثلاثة أيام توفي عم النبي أبي طالب في شهر رمضان قبل هجرة الرسول (ص) للمدينة المنورة بثلاث سنين.
في عام من أعوام الضيم والقهر وحصارٍ دام سنوات.
طارت حمامات الروح بيضاء من غير سوءٍ مغادرة أرضاً مُلِئَت ظلاماً ونتانة من فعال الناس وظلم بعضهم بعضاً.
رحلت تلك الروح النقية التي لا مكان لها بأرض الجاهلية لتسكن جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت لها ولأمثالها.
رحلت فحزن النبي محمد (ص) حزناً شديداً لفقدها فقبل أيام لفّه الحزن أيضاً بفقد حاميه وناصره عند الشدائد والضيق عمه عبد مناف (أبو طالب).
كلاهما رحلا في أسبوعٍ واحدٍ، فيا له من وقعٍ عظيم وأسبوعٍ كئيب حزين.
سمى الرسول (ص) العام الذي فيه ذلك الأسبوع الذي فقدهم فيه عام الحزن لا أسبوع الحزن ولا شهره.
دفنها الرسول بالحجون (مقبرة المعلاة) وهي مقبرة قديمة دُفن فيها ابنيها (القاسم وعبد الله) وكما دفن فيها أجداد النبي (ص) من قبل (عبد المطلب وعبد مناف وقصي وهاشم) وهي نفس المقبرة التي ضمت جسد عمه (أبو طالب) وأمه (امنة بنت وهب) كما ضمت جسدي اول شهيدين في الاسلام (ياسر وسمية).
لا زال شاهد قبرها المحاط بسور بارزاً لليوم.
قصة امرأة ثرية وتملك من الأموال الكثير فتضحي بهِ من أجل دينٍ جديد، وعقيدةٍ جديدة، وإيمانٍ جديد، قد حاربه كل بطون القبائل وكبرائها.
حاربه أهل الجاه والتجارة، ففدت السيدة خديجة تجارتها ومالها وصحتها وعذابها لأجل عقيدة لم يعتنقها سوى المظلومين والمسحوقين والفقراء، فكانت أول من امن.
قصة امرأة قدسية، جمعت بين قدسيتها وموقفها فكانت من النساء الأربع اللاتي فضلهن الله على نساء العالمين أجمع، حيث يقول واصفاً إياهن النبي (ص): (لم يكمل من النساء إلا أربع)، فكانت أولاهن آسيا زوجة الطاغية فرعون التي أخفت إيمانها، وثانيهن مريم بنت عمران، وكانت خديجة ثالثتهن، لتلد العظيمة الثالثة سيدة نساء العالمين فاطمة.
زوجة مخلصة بما يحمله الإخلاص من معنى الحب والوفاء، لا حب التصنع والرياء والمنيّة والتثاقل، بل حب حقيقي.
وهل الحب إلا إخلاص ومساندة ووفاء؟!
زوجة جادت بنفسها وصحتها وراحتها لأجل زوجها والله من وراء زوجها والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ. فكيف لو تجاوز الجود بالنفس جوداً بالمال والثروة والسمعة وتحمل حرب الأقارب والأصحاب والجيران وحصار وقطيعة سنينٍ طوال.
في عصرٍ كانت المرأة توأد فيه وتدفن حية، وإذا بُشِر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وفي عصرٍ يحتقر النساء ويحط من شأنها ويهينها، في تلك الأيام جاءت رسالة لتنصر المرأة، وأول من يؤمن بهذه الرسالة امرأة.
الله أراد لهذه المرأة أن تشرف التاريخ وتشرف المكان والزمان والظرف وتشرف نساء العالمين وتبدل وأد النساء برفعة السماء، وليصل بفضلها صرخة الحق للخافقين، فكان بها أحد عوامل كمال الرسالة ومواصلة الطريق الذي شح سالكيه.
في أسبوعٍ واحدٍ فقد رسول الله أكبر دعامتين أعتمد عليهما في بدء رسالته، في السادس من رمضان توفي عمه وأحد أكابر مناصريه عبد مناف (أبو طالب)، وفي العاشر منه توفيت مؤنسته في المحنة وداعمته في الشدائد خديجة ومستشارته في الملمات.
أبو طالب حامي الرسول الأكرم من مشركي قريش، الذين عجزوا عن التصدي للرسول القائد (ص) لعلمهم أن أبا طالب شيخ البطحاء يحول دون ذلك. رجلا مرهوب الجانب ذو سطوة ونفوذ، وليس في بني هاشم وحدهم، بل في قبائل مكة كلها.
كان أبو طالب سند الدعوة وجدارها الشامخ الذي تستند إليه، ومن اجل ذلك سلكت قريش أسلوب التفاوض والمساومة مع الدعوة والرسالة في شخص الرسول (ص) مرة وفي شخص أبي طالب مرة أخرى.
تحاوره بشأن الدعوة طالبة منه أن يستخدم نفوذه بالضغط عليه لترك رسالته وتهدده باحتدام الصراع بينه وبين قريش كلها إذا لم يخلّ بينهم وبين الرسول (ص) ويكف عن إسناده له.
غير إن أبا طالب كان يعلن إصراره على التزام جانب الرسول (ص) والذود عنه مهما غلا الثمن وعظمت التضحيات، حتى عاش معه في الشِعب الذي سمي باسمه تحت طائلة الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته بطون قريش.
وللأهمية البالغة التي احتلها أبو طالب في سير الحركة التاريخية لدعوة الله تعالى صرح رسول الله (ص) بفضله قائلاً: (مازالت قريش كاعّين عنيّ حتى مات أبو طالب).
ومن ثم خديجة.
امرأة استغنت عن الراحة وحلاوة الدنيا والثروة الكبيرة من أجل دين الله ووفاءاً لزوجها.
امرأة كان كلما يتذكرها الرسول (ص) سالت دموعه حزناً لفقدها حيث طالما كان يأنس بمشاورتها واخذ رأيها.
زوجة صالحة ومثالاً عظيماً في نصرة زوجها ومودته ومواساته، يقول فيها (ص): (والله لقد آمنت بِي إذ كذّبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس).
رابط المصدر: