- تقف حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مركز عاصفة سياسية وقانونية، بعد سلسلة من التطورات الدراماتيكية التي ابتدأت بهروب المتهم الأساسي في سرقة “الأمانات الضريبية”، ثم اكتشاف “شبكة تنصت” داخل مكتب رئيس الوزراء، وصولاً إلى اتهام حيدر حنون، رئيس هيئة النزاهة والمقرب من السوداني، القضاءَ بالتستر على قضايا فساد.
- تندرج الأزمة ضمن سياقين أحدهما يتعلق بتنافس انتخابي متفاقم بين بعض قوى “الإطار التنسيقي” الشيعية والسوداني الساعي إلى تشكيل جبهة انتخابية من محافظين ناجحين في الانتخابات المحلية ونواب وعشائر، ويتعلق الآخر بتنازع صلاحيات بين الحكومة والقضاء وطريقة إدارة حكومة السوداني لملفات قانونية حساسة يعتقد القضاء أنها من اختصاصاته، ومنها ملف “سرقة الأمانات الضريبية”.
- مع أن سياق الأزمة الحالية بين السوداني وقوى الإطار التنسيقي من جهة، وبين السوداني والقضاء من جهة ثانية، يتجه إلى التفاقم، إلا أن سيناريو إقالة السوداني والذهاب إلى انتخابات مبكرة ما زال مستبعداً، والأقرب أن تتوصل هذه الأطراف إلى تهدئة تتضمن تقويض صلاحيات السوداني وإمكاناته حكومياً وانتخابياً.
مع نهاية مرحلة الوفاق السياسي لقوى «الإطار التنسيقي»، التي شكّلت حكومة محمد شياع السوداني منذ أكتوبر 2022، ينفتح المشهد العراقي على مواجهات سياسية صادمة وفضائح غير مسبوقة لعمليات «تنصّت» من أجهزة حكومية على سياسيين ترافقها ملفات فساد، بعضها متراكم من مراحل سابقة وأخرى جديدة، بالإضافة إلى مواجهة صادمة بين المؤسسة القضائية وحكومة السوداني التي تَجد نفسها أمام سيناريوهات صعبة سيكون أقلها ضرراً، إجراء احتواء شامل وصعب للمواجهة المتصاعدة بترضيات تشمل جميع الأطراف، وتُفضي إلى احتفاظ الحكومة الحالية بتوازنها للفترة المتبقية لها، وأصعبها تطور الموقف إلى إقالة السوداني نفسه أو استقالته أو محاصرته بملفات تُفرِغ محتوى مشروعه الانتخابي الذي عكف عليه بحماس خلال الشهور الأخيرة، ويبدو أنه كان من بين عوامل التصعيد.
مؤشرات التوتر
على الرغم من التطمينات التي بثها اجتماع لقوى “الإطار التنسيقي” في 4 سبتمبر الجاري بحضور السوداني، وتضمنت تأكيدات باحترام إجراءات القضاء حول شبكة التنصّت التي كُشف النقاب عنها في مكتب رئيس الحكومة أخيراً وضمَّت موظفين كباراً وضباطاً، فإنّ أجواء الصدام في العراق لا يبدو أنها في طريقها إلى التسوية منذ انفجارها؛ ابتداءً بتبادل الاتهامات بين القضاء والحكومة والقوى السياسية المتنفذة حول آلية تهريب المتهم الأساسي في قضية سرقة الأمانات الضريبية (التي تُعرف إعلامياً باسم “سرقة القرن”)، وصولاً إلى صدور أمر اعتقال بحق رئيس هيئة النزاهة العراقي حيدر حنون المقرب من السوداني بتهمة فساد وتزوير للحصول على قطعة أرض في محافظة ميسان، ومن ثمّ خروج حنون بمؤتمر صحافي من أربيل يتهم فيه القضاء بالتواطؤ في قضايا الفساد.
وتلك الأجواء المشحونة التي حملت عناوين في أغلبها يتعلق بقضايا فساد وملفات تنصت داخلية واستعصاء انتخاب رئيس مجلس النواب، تُخفي خلفها عوامل لا تنفصل بأي حال عن أزمة حرب غزة وموقف إيران والفصائل العراقية منها، ومستوى الضغوط الأمريكية في الملفين الأمني والاقتصادي في العراق، وبوادر الدخول في أزمة اقتصادية أكثر تعقيداً مع احتمالات انخفاض أسعار النفط بالترافق مع تخبط الخطط المالية وإجراءات الحوكمة الحكومية. كما أن تلك الأجواء ليست بعيدة عن الاتفاق الأمني الذي عُقد أخيراً مع تركيا والنتائج المتوقعة منه، لكنها في المجمل تصب في تهيئة الأجواء لمرحلة الانتخابات البرلمانية المقبلة التي بدأت منافساتها كما يبدو مبكراً.
دوافع الأزمة بين السوداني وقوى الإطار
منذ إعلان السوداني عدم خوض انتخابات مجالس المحافظات عام 2023، بدا أنه يمنح قوى “الإطار التنسيقي” التي رشحته لرئاسة الحكومة، ثمنَ ذلك الترشيح مقابل السماح له بخوض الانتخابات النيابية بقائمة منفصلة عن الإطار، لكن تلك الخطوة التي كانت منطقية ومقبولة حتى من بعض قوى “الإطار” واجهت مُنعطفَين:
الأول، تحالف السوداني المبكر مع زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، وهو التحالف الذي حاول من طريقه استدراج زعيم مجموعة مسلحة نافذة إلى جانبه لحماية حكومته، وإرسال رسائل إلى دول الإقليم والولايات المتحدة حول إمكانية التعاطي سياسياً مع زعماء المليشيات. وواقع الحال أن هذا التحالف الذي قُرِئَ أحياناً بوصفه خطوة ذكية في واقع عراقي تمارس فيه الفصائل المسلحة نفوذاً أمنياً واقتصادياً كبيراً، لم تكن نتائجه ناجحة على صعد مختلفة، من أبرزها:
- إن التحالف فُهِمَ من طرف قوى الإطار التنسيقي الأخرى، خصوصاً نوري المالكي وهادي العامري، على أنه محاولة لشق صفوف الإطار، ودعم من الحكومة لقوة سياسية على حساب الأخرى، وثمة دلالات عن ازدهار غير مسبوق لاقتصاديات “العصائب” في العامين المنصرمين، بالإضافة إلى اختراق الفصيل لمؤسسات أمنية وحصوله على مناصب لا تعادل وزنه الانتخابي في البرلمان (قرابة 10 نواب)، وتعاظم سطوة الخزعلي السياسية إلى حد إدارة تشكيل حكومة كركوك الأكثر تعقيداً بصفقة رفضها الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
- إن المليشيات المسلحة الأخرى وأبرزها “كتائب حزب الله” و”النجباء” وغيرها فهمت هذا التحالف باعتباره محاولة لإقصائها، وبالفعل انتقلت تلك الفصائل من الدفاع عن حكومة السوداني إلى مهاجمتها واتهامها بالتقصير والفساد، واتهام الخزعلي وتياره بـ”الخيانة” والتعاون ضدها مع الجانب الأمريكي، وفي المقابل لم يُغضب تحالف السوداني-الخزعلي إيرانَ كما كان متوقعاً، بل تفيد معلومات أن علاقات طهران مع “العصائب” تطورت تطوراً لافتاً وانتقلت إلى حماية المصالح الإيرانية، مثل توفير الدولار ونقله وتسهيل صفقات في مؤسسات حكومية، والتغطية على تحركات لوجستية عسكرية إلى سورية ولبنان، ما ضاعف سخط الفصائل الأخرى التي كانت تقوم بهذه الأدوار.
- إن التحالف لم يكن منسجماً مع توجهات الشارع العراقي الرافض في أغلبه للميليشيات المسلحة، بالإضافة إلى تاريخ ميليشيا “عصائب أهل الحق” الدموي في التعامل مع المواطنين في المدن السُّنية، ومع المنتفضين في حراك “تشرين 2019” في بغداد والمدن الشيعية، ناهيك عن رفض زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر للتحالف وعلاقاته السيئة بحزب بارزاني في الجانب الكردي.
- مع أن الطرف الأمريكي كان “متفهماً” لدوافع السوداني إلى حد كبير، وعلى رغم المعلومات عن وجود قنوات اتصال سرية بين الخزعلي والأمريكيين، استمر الأخيرون في التحفظ الرسمي وعدم التعاطي مع وزيره في الحكومة (وزير التعليم العالي)، أو موظفيه في مكتب رئيس الوزراء (نائب مدير المكتب ومدير الإعلام)، أو حتى مع الضباط والموظفين الذين زُجُّوا في قيادة العمليات المشتركة والأجهزة الأمنية ويُشك بارتباطهم به.
وأمام كل ذلك كان من المنطقي أن يسعى السوداني إلى التخلص من عبء الخزعلي في مشروعه الانتخابي الطموح، سواء بالتفاهم معه أو عبر محاولة الانفصال عنه.
المنعطف الثاني، توجُّه السوداني إلى إعداد خريطته الانتخابية مبكراً بعد إعلان نتائج انتخابات مجالس المحافظات، وهي خريطة تتكون من محافظي البصرة وواسط وكربلاء الذين حصلوا على مقاعد في الحكومات المحلية بمعزل عن قوى “الإطار التنسيقي”، بالإضافة إلى نحو 40 نائباً في البرلمان الحالي، وقوى سياسية ناشئة وشبابية وزعامات عشائرية. ومُضي السوداني إلى هذه الخطوة مبكراً وقبل حتى الإعلان عن موعد للانتخابات النيابية، كان بمنزلة إطلاق جرس الإنذار لدى قوى الإطار نفسها، ناهيك عن القوى الأخرى المتنافسة.
ومع أن تحالفات السوداني المشار إليها ليست راسخة وقد تنفرط في أي مفترق طرق، إلا أن تسريبها كان كفيلاً بتصدي رئيس الوزراء الأسبق وزعيم ائتلاف “دولة القانون” نوري المالكي لطموح السوداني، بمطالبته بانتخابات مبكرة واستقالة رئيس الحكومة قبل ستة شهور من الانتخابات وإعداد قانون انتخابي يجرد السوداني في حال اشتراكه في الانتخابات من قدرته على توزيع أصواته الشخصية على أعضاء قائمته الانتخابية. هذا التوجه الذي سوَّغه المالكي بمنع استثمار إمكانات الدولة لصالح قائمة انتخابية محددة، يعود في الأساس الى السخط الذي خلّفه تحالف السوداني-الخزعلي، حيث تحوز كتلة المالكي النيابية “دولة القانون” العدد الأكبر من المقاعد ضمن القوى الشيعية (بعد انسحاب التيار الصدري)، وهي الكتلة التي دفعت باتجاه صعود السوداني إلى رئاسة الحكومة.
اقرأ المزيد من تحليلات «وحدة الدراسات العراقية»: |
معارك مبكرة
بدأت المعركة الانتخابية إذاً، ومعها تغيّر مزاج الأدوات الإعلامية والبرلمانية لقوى “الإطار” من تضخيم “إنجازات حكومة السوداني” وتسويغ “إخفاقاتها” وخلق أجواء عامة تُلقي بالمشكلات والأزمات على عاتق حكومة سلفه، مصطفى الكاظمي، إلى انتقاد حكومته وإجراءاتها والتلميح لصفقات فساد كبيرة فيها، وتداول معلومات عن ملفات يُديرها أفراد من عائلته، وانتقاد طريقة تعاطيها مع المتظاهرين.
وبمواجهة جهود قوى “الإطار” لتقويض حكومته، أقدم السوداني على خطوات خضعت للجدل حول توقيتها ومدى مواءمتها سياسياً، من أبرزها:
- تدخُّل السوداني بشكل علني لدعم مرشح سُني لرئاسة مجلس النواب (سالم العيساوي) على حساب محمود المشهداني الذي يحظى بدعم المالكي ابتداءً ومن ثمَّ دعم محمد الحلبوسي، زعيم حزب “تقدم” ورئيس البرلمان المقال. وهذه الخطوة أراد منها السوداني أن يكسب حيزاً سياسياً وسط المؤثّرين الشيعة.
- تسريب وجود اتصالات بين السوداني و”التيار الصدري” لعقد تحالف ما بعد الانتخابات، وتلك الخطوة ستُثير -لو صحت- غضب القوى التي رفعت السوداني في الأساس من نائب في البرلمان إلى رئاسة الوزراء، وتشكك في جهوده للانفراد بكتلة سياسية مستقلة عن قوى الإطار نفسها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قوى الإطار تنقسم ما بين تلك التي لا ترغب في مشاركة السوداني في الانتخابات بالأساس، مثل المالكي والعامري، وتلك التي ترغب في أن تشارك السوداني قائمته الانتخابية للحصول على مساحة برلمانية أوسع، مثل تيار “الحكمة” بزعامة عمار الحكيم أو جماعة “السند” بزعامة وزير الشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، الذراع السياسية لـ “كتائب سيد الشهداء” بزعامة أبو آلاء الولائي، وحتى فالح الفياض زعيم “الحشد الشعبي”. وموقف قيس الخزعلي إزاء هذا الانقسام استمر غامضاً، فلم يتضح حتى الآن ما إذا كان راغباً في خوض الانتخابات مع قوى الإطار التقليدية أم مع السوداني، خصوصاً أنه (الخزعلي) يقود مشروعه الخاص والمعقد لفرض نفسه زعيماً لقوى الإطار التنسيقي مجتمعة.
- دفع قضية “سرقة الأمانات الضريبية” عن كاهل الحكومة التي أشرفت على الاتفاق مع المتهم الأساسي فيها “نور زهير”، حيث خرج السوداني في مؤتمر صحافي في بداية ولايته للإعلان عن هذا الاتفاق الذي من المفترض أن يسفر عن استرداد الأموال المسروقة، إلى كاهل القضاء للتخلص من تبعات الملف برمته، خصوصاً مع تعقّد القضية وتشعّبها وسُخط الجمهور من الإجراءات فيها، وبروز اتهامات بمحاولة تزوير الوقائع بإلقاء التهم على آخرين خارج نطاق القضية لحماية المتورطين الحقيقيين، خصوصاً بعد إخراج المتهم الأساسي في القضية من السجن الذي أودع فيه من قبل حكومة الكاظمي، ومن ثم مغادرته العراق وإعلانه عن تعرضه للابتزاز المالي من زعامات سياسية نافذة ونواب وجهات مختلفة، وتهديده بكشفها في محاكمة علنية. وإن تلك الصورة التي خرج فيها رئيس الحكومة العراقي إلى الجمهور في نوفمبر 2022 وأمامه رُزم النقود المستردة ضمن صفقة مع “نور زهير”، حرضت الانتقادات للسوداني حينها ودفعت به إلى التدخل التنفيذي في قضية معروضة على القضاء قبل توليه السلطة، الأمر الذي فُهِمَ من قبل المؤسسة القضائية بأنه تدخل في شؤونها (ولكن هذا التذمر القضائي لم يُعلَن عنه في ذلك الوقت). وعندما حاول تصحيح الأوضاع بتحويل القضية من الاتهامات السياسية التي أطلقتها حكومته إلى حكومة سلفه، مصطفى الكاظمي، إلى الإعلان عن الأسماء والشخصيات المتورطة فعلياً في القضية والتنصل عن المسؤولية، وذلك عبر مؤتمر صحافي لرئيس هيئة النزاهة في أغسطس 2024، كان الأمر بمنزلة طعن آخر فهمته المؤسسة القضائية بأنَّه اتهام لها بالتواطؤ في قضية “الأمانات الضريبية”، وهذا ما عبّر عنه لاحقاً صراحةً رئيس “هيئة النزاهة” في مؤتمره الصحافي الغاضب من أربيل.
سيناريوهات مستقبل الأزمة بين السوداني وقوى الإطار
السيناريو الأول، إقالة السوداني أو استقالته والذهاب إلى انتخابات مبكرة: مع أن هذا السيناريو مرهون بتطورات تكاد تكون يومية حول قضية “التنصت” واتهامات الفساد المتبادلة، بالإضافة إلى الضغط السياسي والشعبي، إلا أن الذهاب إلى هذا الخيار مستبعد لأسباب متعددة، منها ما يتعلق بالأزمة الإقليمية الحادة وصعوبة حدوث فراغ حكومي في العراق في هذا التوقيت، ما قد ينعكس سلباً في لحظة التوازن الدقيق الحالية وحاجة الإدارة الأمريكية وإيران على حد سواء، والمحيط الإقليمي والدولي أيضاً، إلى حكومة عراقية للتفاهم معها لضبط المليشيات أو تمرير الرسائل المتبادلة، وكذلك صعوبة إنجاز الانتخابات التي تتطلب فترة ستة شهور على الأقل بعد إقرار قانون الانتخابات وتوفير الموازنة لها، بالإضافة إلى عدم استعداد قوى الاطار ومعظم القوى الأخرى لتحويل السوداني إلى “شهيد سياسي” بما يرفع أسهمه الانتخابية.
السيناريو الثاني، التوصل إلى تسوية شاملة للأزمة واستعادة أجواء التضامن مع السوداني: مع أن اجتماع “الإطار” الأخير المشار إليه سابقاً قد يكون من ضمن المداخل لحل الأزمة الحالية بين السوداني والقضاء من جهة، وبينه وبين بعض زعماء “الإطار” وأبرزهم المالكي والعامري من جهة ثانية، فإن التوصل إلى تصفير القضايا التي أثيرت خلال الأسابيع الماضية أصبح أمراً صعباً في كل الأحوال، سواء على المستوى القانوني أو على مستوى ترميم الثقة التي اهتزت بعنف بين الأطراف المختلفة، مثلما أن عجلة الانتخابات التي يفصلها عن موعدها قرابة العام تسير باتجاه إعداد كل جهة لترسانتها السياسية والدعائية، مع تبلور شبه إجماع بين قوى “الإطار” على عدم السماح للسوداني بخوض الانتخابات، سواء “مستقلاً” أو ضمن قوى الإطار، مع الإقرار مسبقاً بتلاشي معظم فرصه لنيل ولاية ثانية.
السيناريو الثالث، التوصل إلى تسوية للتهدئة وتقويض السوداني: إن التجربة السياسية العراقية منذ عام 2003، وطبيعة إدارة العملية السياسية من قبل مراكز القوى الرئيسة (الداخلية والخارجية) المهيمنة على القرار في العراق، تدعمان ترجيح هذا السيناريو الذي لن يسمح بصعود الأزمة الحالية، سواء بين القوى السياسية أو بين الحكومة والقضاء إلى مستوى كسر العظم، حيث تجري في الأثناء اتصالات مكثفة لاحتواء التوتر الحالي، في مقابل تقديم بعض المسؤولين الحكوميين إلى القضاء أو إقالتهم وتغيير بعض المواقع القضائية الثانوية. والأصل في سياسة الاحتواء المتوقعة أنها سوف تفرض نمط سلوك سياسي أكثر تحديداً على صلاحيات السوداني لإدارة مرحلة التهيئة للانتخابات، بما يفتح الباب خلال الشهور المقبلة لتقويض فرصه الانتخابية وزجّه في ملفات متعددة تُلقي بالشكوك على تجربته الحكومية برمتها، وتقوض كتلته الانتخابية إلى أضيق مساحة ممكنة.
ومجرد وصول رئيس الحكومة إلى لحظة التصادم هذه، تُعد في التجربة السياسية العراقية “نقطةَ لا عودة”، فقد وصل إلى تلك النقطة جميع رؤساء الحكومة بعد عام 2003 في مرحلة ما، بصرف النظر عن قوتهم البرلمانية (نوري المالكي) أو شعبيتهم (حيدر العبادي) أو قربهم من إيران (عادل عبد المهدي) أو علاقاتهم الدولية (مصطفى الكاظمي).
الاستنتاجات
مع أن الأزمة الحالية ليست الأولى في سياق الصراع السياسي العراقي، ولا الأكبر في خطرها الأمني، إلا أنها تكشف عن ضعف عام في بنية الدولة بعد عام 2003 يسمح باستمرار في تقوية القوى السياسية الرئيسة وتحصين مواقفها بتحالفات سياسية وأذرع في المؤسسات المختلفة ومشروعات اقتصادية وميليشيات، الأمر الذي يُتيح لها إثارة الأزمات وإدارتها بوصفها نمطاً من أنماط الدفاع حيناً أو التنفيس وإشغال الرأي العام حيناً آخر، وبما يقوّض في المحصلة فرص المراجعات الشاملة لطبيعة النظام الحالي وجهود إصلاحه أو تطوير آلياته.
وفيما تشير الأزمة، في أحد أوجهها، إلى شكل من أشكال التوازن وحدود من الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية من الصعب تجاهله، بيد أنها في الوقت ذاته تكشف عن نمط من انعدام الثقة والتنافس بين السلطات وضعف عام في إعلاء سلطة القانون ومنع التنصل عن الجرائم المرتكبة.
ومن المرجح أن تنجح القوى السياسية، في غياب “التيار الصدري” الذي يعد من الفاعلين السياسيين الرئيسين، في احتواء أجواء السجال الحالية، والقضايا التي أثيرت حولها بتقديم تضحيات متبادلة أو تفجير ملفات أكثر اتساعاً وخطورة من التي أثيرت خلال الشهور الأخيرة، غير أن ما سوف يترسَّب من بقايا هذه الأزمة سيُؤدي إلى إضعاف الحكومة الحالية، بانتظار انتخابات تتطلب بدورها صفقة جديدة تُنتج حكومةً جديدة.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/al-sudani-fi-qalb-alasifa