- بِفَوز مرشح المعارضة، بسيرو دوماي فاي، بالانتخابات الرئاسية السنغالية، يدخل هذا البلد الأفريقي مرحلة سياسية جديدة يطغى عليها النهج الراديكالي والثوري للرئيس الجديد، الذي دعا إلى إحداث قطيعة كاملة مع العهود السابقة.
- وفق البرنامج الانتخابي لدوماي فاي، فإن مقاربته الراديكالية للحكم ستركز على إعادة بناء النظام السياسي في السنغال، عبر الحد من سلطات رئيس الجمهورية، وتعزيز استقلالية السلطات القضائية والتشريعية.
- مع أن دوماي فاي حَرِصَ على طمأنة شركاء السنغال الخارجيين، إلا أن مقاربته تقوم على مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية مع الشركاء الدوليين في المجالات الحيوية، وتحقيق السيادة النقدية بإنشاء عملة وطنية، والخروج من النظام النقدي الغرب الأفريقي المرتبط بفرنسا.
أُعلِن في السنغال عن فوز مرشح المعارضة الراديكالية، بسيرو دوماي فاي، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، المنظمة يوم 24 مارس الجاري. وقد اعترف كل المرشحين، بمن فيهم مرشح الأغلبية آمادو با، بنتائج الاقتراع، وهنأوا الرئيس المنتخب، كما قام بالشيء نفسه الرئيس المنتهية ولايته الثانية ماكي صال.
مسار انتخابات 24 مارس
كان من المقرر أن تُنظَّم الانتخابات الرئاسية في السنغال يوم 25 فبراير، لكن الرئيس ماكي صال أعلن في 3 فبراير عن تأجيلها بذريعة الأزمة المؤسسية الناتجة عن اتهام المجلس الدستوري بالرشوة، ومنعه عدداً من الشخصيات السياسية الوازنة من المشاركة في السباق الرئاسي.
وأصدر البرلمان السنغالي في 6 فبراير قراراً يؤجل الانتخابات إلى 15 ديسمبر 2024، ويسمح للرئيس صال بالبقاء في السلطة إلى ذلك الموعد. إلا أن المجلس الدستوري ألغى هذا القرار، مُعتبراً أن النصوص الدستورية تمنع بطريقة صريحة لا تقبل التأويل والمراجعة تمديد ولاية الرئيس، بما يفرض تنظيم الانتخابات قبل يوم 2 أبريل 2024.
وفي 26 فبراير نظَّم الرئيس صال حواراً مع القوى السياسية قاطعته أحزاب المعارضة الرئيسة، أفضى إلى تحديد يوم 2 يونيو موعداً جديداً للانتخابات الرئاسية، إلا أن المجلس الدستوري ألغى يوم 6 مارس هذا القرار، بما حدا بالرئيس صال لتحديد يوم 24 مارس موعداً جديداً للانتخابات، وقد وافق المجلس الدستوري على هذا الموعد.
وفي 7 مارس تقدمت الحكومة للبرلمان بمشروع قانون يسمح بالعفو عن الجرائم والتجاوزات التي حدثت ما بين 2021 و2024 بخصوص التظاهرات والاحتجاجات السياسية، بما سمح بعد أسبوع من تبني القانون بإطلاق سراح عدد كبير من الشخصيات المعارضة، يتقدمها وجه المعارضة الأساسي عثمان صونكو الممنوع من المشاركة في الانتخابات، وأمين عام حزبه بسيرو دوماي فاي، الذي فاز في الاستحقاقات الأخيرة.
وهكذا نُظِّمت انتخابات 24 مارس بمشاركة 17 مرشحاً يمثلون أبرز التوجهات السياسية، وإن كان المشهد هيمن عليه منذ البداية الصراع بين مرشح الأغلبية رئيس الحكومة السابق آمادو با، ومرشح المعارضة الراديكالية بسيرو دوماي فاي. ومع أن الحملة الانتخابية اختُصرت في أسبوعين من أجل احترام الآجال القانونية المحددة دستورياً، إلا أنها كانت ساخنة ولها إيقاع شعبي كثيف.
وبإجماع القوى السياسية والمراقبين الدوليين، جرت الانتخابات في ظروف مثالية، وأفضت إلى نجاح مرشح المعارضة الراديكالية بسيرو دوماي فاي في الشوط الأول من السباق.
أسباب نجاح مرشح المعارضة الراديكالية
يمكن إجمال هذه الأسباب في الآتي:
1) التذمُّر الواسع في قطاعات شعبية عريضة، وبصفة خاصة الشباب، من التوجهات الاقتصادية للرئيس ماكي صال، التي قامت على الاستثمار الواسع في البنيات التحتية من طرق ومطارات وسكك حديدية، على حساب السياسات الاجتماعية، بما يتجلى في غلاء المعيشة وزيادة البطالة العاملة واستشراء الرشوة والفساد حسب الاتهامات التي وجهتها له المعارضة الراديكالية.
2) سوء الإدارة الحكومية للمسار الانتخابي، بما تجلى في تأخّر إعلان الرئيس ماكي صال عزوفه عن الترشح للاستحقاقات الرئاسية، وقمع المعارضة الاحتجاجية واعتقال قادتها في سياق ملفات قضائية يعتبرها البعض مشبوهة، وتأجيل الانتخابات دون مسببات قانونية بديهية. وعزَّزت هذه الخطوات حظوظ مرشح المعارضة الراديكالية في السباق الرئاسي.
3) ضعف مرشح الأغلبية الرئاسية آمادو با الذي لا تُعرَف له تجربة سياسية حقيقية، بل هو شخصية تكنوقراطية، مارست مسؤوليات إدارية وفنية محض تحت قيادة الرئيس ماكي صال. وقد عارضت عدة شخصيات وازنة من داخل النظام ترشيحه، كما أن الرئيس صال نفسه لم يظهر دعماً حقيقياً له، إلى حد أن بعض المعلومات أكدت تخليه عنه في الأسابيع الأخيرة، وقد يكون سماحه بخروج زعيم المعارضة الراديكالية صونكو من السجن، ونجاح الشخصية الثانية في حزبه (بسيرو دوماي فاي) ناتجاً عن ترتيبات سرية تمت تحت إشراف خليفة الطائفة الصوفية المريدية في مدينة طوبا.
4) الخطاب الشعبوي الثوري لمرشح المعارضة الراديكالية بسيرو دوماي فاي، الذي دعا فيه إلى القطيعة الكاملة مع العهود السابقة، وإعادة بناء النظام السياسي في السنغال، مع التركيز على السياسات والخطط الاجتماعية لصالح الشباب والفئات المهمشة والضعيفة.
شخصية الرئيس السنغالي الجديد وبرنامجه
مع أن بسيرو دوماي فاي غير معروف بصفة كاملة في الحقل السياسي السنغالي، بل كان منذ سنة 2014 في ظل زعيمه عثمان صونكو، الذي أسس معه في تلك السنة حزب “الوطنيين الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة “، إلا أنه اضطلع بمسؤولية كبرى في وضع برنامج الحزب، وساهم في مشروعه الفكري، وقام بدور أمينه العام في السنوات الأخيرة.
دوماي فاي لا يتجاوز عمره 44 سنة، بما يجعل منه أصغر رئيس في تاريخ السنغال، وهو كزعيمه صونكو مفتش ضرائب، وقد اشتركا في المسار الوظيفي، وأسسا معاً نقابة “وكلاء الضرائب والملكية العقارية”، التي كانت المدخل لمشروعهما السياسي.
تؤكد المصادر السنغالية أن الزعيمين انتميا في شبابهما لتنظيمات إخوانية مثل “رابطة التلاميذ والطلبة المسلمين في السنغال”، وكانوا قريبين من جماعة “عباد الرحمن” السلفية الإخوانية. يُلاحظ هنا أن حركة “التجمع الإسلامي في السنغال” الإخوانية أظهرت في مناسبات عدة دعمها لصونكو. إلا أن بسيرو دوماي فاي أعلن في مقابلة مع صحيفة “لوموند” الفرنسية (20 مارس 2024) أنه مُسلِم مواظب على أداء شعائر الدين، لكنه ملتزم بنظام العلمانية المقننة دستورياً في بلاده، ولن يُقحِم الدين في الشأن السياسي.
والظاهِر أن دوماي فاي ينتمي للجيل الجديد من سياسيي غرب أفريقيا الذين لهم ميول سلفية لا بالمعنى الشرقي، ولكن بمنطق الإسلام الأفريقي الذي لا يتعارض جوهرياً مع المؤسسات الصوفية الأهلية، ولا مع نوع من العلمانية الدستورية. الغالب على هذا النوع الجديد من السياسيين هو اعتماد خطاب احتجاجي ضد الهيمنة الغربية، وضد سيطرة الثقافة والمصالح الفرنسية، مع إعادة الاعتبار للقيم المحلية والتقاليد الاجتماعية الدينية. وتحدثت صحيفة “لوموند” الفرنسية مؤخراً عن صعود الحركة السلفية في غرب أفريقيا ودعمها للأنظمة العسكرية الشعبوية المعادية للغرب، وفرنسا على الأخص.
وفق البرنامج الانتخابي لدوماي فاي، تكمُن هذه النغمة الراديكالية الثورية في العناصر التالية:
1. إعادة بناء النظام السياسي الذي قامت عليه جمهورية السنغال منذ استقلالها، بالحد من سلطات رئيس الجمهورية، وإنشاء وظيفة نائب رئيس يُنتخب مع رئيس الجمهورية وتكون له صلاحيات تنفيذية مهمة، مع تعزيز استقلالية السلطات القضائية والتشريعية.
2. مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية مع شركاء السنغال، في المجالات الحيوية مثل الصيد والنفط والغاز وإدارة الموانئ والمطارات.
3. مكافحة الرشوة والتهرب الضريبي، وتخصيص جزء أساسي من الميزانية العمومية للتشغيل، والحد من ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
4. تحقيق السيادة النقدية بإنشاء عملة وطنية، بما يعني الخروج من النظام النقدي الغرب الأفريقي المرتبط بفرنسا، سواء في إطار إقليمي أو محلي.
وحرص دوماي فاي في خطابه الأول بعد وصوله للسلطة على طمأنة شركاء السنغال الخارجيين الذين يتخوفون من سياسته الاقتصادية والدبلوماسية. إلا أن كل المؤشرات تدل على أن نهج الرئيس السنغالي الجديد سيكون راديكالياً وثورياً، وسيُشكل قطيعة كبرى مع ستة عقود من النظام السياسي في هذا البلد المحوري في القارة الأفريقية.
مستقبل الوضع السياسي في السنغال بعد الانتخابات الرئاسية
من المبكر الحديث عن اتجاهات واضحة في طبيعة الحقل السياسي السنغالي الجديد، إلا أن بعض المؤشرات أصبحت بادية للعيان، ومن بينها:
1) انهيار الطبقة السياسية التقليدية التي تُمثلها الوجوه الثلاثة الكبرى التي تقدَّمت للسباق الرئاسي: الوزير الأول السابق آمادو با، ورئيس الحكومة الأسبق إدريسا سك، وعمدة دكار السابق والقيادي الاشتراكي خليفة صال، بالإضافة إلى كريم واد الذي أُقصي من لائحة المرشحين.
2) صعود القوى الشعبوية الراديكالية المنضوية تحت زعامة عثمان صونكو، والرئيس المنتخب دوماي فاي. الأمر هنا يتعلق بخليط واسع ومتنوع من الحركات المدنية والحقوقية والمنظمات الأهلية والشبكات الطلابية والشبابية، وسيكون من الصعب على الرئيس الجديد تمثيل هذا الطيف الواسع في مراكز القرار والمسؤولية، خصوصاً أنه بحاجة إلى الاعتماد على بعض الشخصيات ذات التجربة الإدارية والتنفيذية من السياسيين الذين التحقوا به في الحملة الأخيرة، مثل رئيسة الوزراء السابقة ميمي توري، والوزير السابق حبيب سي.
3) تراجُع تأثير المجموعات الصوفية الكبرى في الموازين الانتخابية، وإن كان من الواضح أن الزاوية المريدية ذات التأثير القوي صوَّتت للرئيس الفائز، بما عزز حظوظه في النجاح. لكن من المؤكد أن نهج دوماي فاي سيختلف عن الرؤساء السابقين من حيث العلاقة الوثيقة بالمشايخ الصوفيين، والاعتماد عليهم في السياسات المحلية.
الخلاصة
انتخبت السنغال بسيرو دوماي فاي رئيساً للجمهورية في انتخابات مرّت بمصاعب عدة، وإن كانت تمت في ظروف مُرضيَة. يُفسَّر نجاح مرشح المعارضة الراديكالية منذ الشوط الأول بقوة الديناميكية الاحتجاجية، خصوصاً في أوساط الشباب، وفشل السياسات الاجتماعية للرئيس منتهية ولايته ماكي صال رغم مشاريع البنية التحتية الهائلة التي أنجزها، فضلاً عن تراجُع القوى السياسية التقليدية التي حكمت البلاد منذ استقلالها. لكن الحاكم الجديد سيواجه تحديات ومصاعب عدة، وستواجهه عراقيل كثيرة في تنفيذ برنامجه الثوري الراديكالي.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/almuearada-alradikalia-fi-alsulta-alwade-alsiyasi-fi-alsinighal-baed-alaintikhabat-alriyasia-alakhira