يخبرنا تاريخ الشرق الأوسط، أن هذه المنطقة عصية على التغيير في بنية علاقات دولها الإقليمية عن طريق مشاريع التنمية والشراكات الاقتصادية الاستراتيجية. فهي تصر على أن لا يكون هناك أي تغيير في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، إلا من خلال الحروب. فالحرب هي متلازمة الشرق الأوسط التي ترفض بعض بلدان المنطقة مغادرتها أو التشافي من دائها.
خريطة الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الاولى
ربما بدأت المشكلة مع رسم خرائط الشرق الأوسط التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية. فهذه البداية تحولت إلى لعنة على بلدان المنطقة. ومن دون الاستغراق في التاريخ، يمكن أن نتوقف عند لحظة التغيير في الشرق الأوسط بعد غزو صدام الكويت، واندلاع حرب الخليج الثانية. وكانت المنطقة أمام تحول في موازين القوى وصراع نفوذ القوى الدولية. ومع الاحتلال الأميركي للعراق وتغيير نظام صدام حسين، تغيرت المنطقة وأصبح صراع النفوذ متداخلا بين قوى إقليمية ودولية. وكان واضحا أن التنافس بينهم هو لفرض مشاريع أيديولوجية ومحاولات فرض نفوذ على دول المنطقة الهشة. ويبدو أن ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحرب إسرائيل ضد قطاع غزة في فلسطين و”حزب الله” في جنوب لبنان، يراد لها أن ترسم ملامح شرق أوسط جديد.
بين بيريس ونتنياهو
يبدو أن خرائط الشرق الأوسط الجديد باتت ترسم بالدم، إذ بعد الإعلان عن اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن “إسرائيل تتبع خطة منهجية لاغتيال قادة (حزب الله) بهدف تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط”. إذن، الحرب التي تقودها إسرائيل لا تقف عند حدود القضاء على حركة “حماس” في قطاع غزة، أو إضعاف تهديد “حزب الله” للمستوطنات الشمالية. وإنما الغاية الرئيسة منها هي إعادة هندسة توازن القوة واستراتيجية الردع. ومن ثم، تشكيل شرق أوسط جديد برؤية يفرضها نتنياهو.
إذا استبعدنا نظرية المؤامرة، لم يكن يخطر في مخيلة نتنياهو- بعد تدني شعبيته في الداخل الإسرائيلي وبات مصير حكومته قريبا من الانهيار- أن يأتي الإنقاذ من “أعداء إسرائيل” في هجوم تشنه “حماس” ضد المستوطنات في 7 أكتوبر. ليتحول من رئيس وزراء مهدد بالإقالة إلى رئيس حكومة حرب، ويريد أن يعيد تشكيل شرق أوسط جديد!
الشرق الأوسط الذي يريد تشكيله نتنياهو يقوم وفقا لمبدأ القوة وفرض إسرائيل في المنطقة باعتبارها الأقوى عسكريا وأمنيا ومعلوماتيا. ولذلك تشكل هذا الرؤية انقلابا على الرؤية التقليدية التي كانت تسعى إليها الولايات المتحدة والدول الأوروبية بأن الطريق إلى تحقيق الأمن الإسرائيلي يكون من خلال الاستمرار في مشروع التطبيع مع الدول العربية. والذي شهد تقدما كبيرا في إدارة الرئيس ترمب. وكانت هناك مشاريع استراتيجية اقتصادية يخطط لها أن يتحول التطبيع من الاعتراف السياسي بإسرائيل إلى الشراكة الاقتصادية معها. لكن “طوفان الأقصى” نقل المنطقة من تلك المشاريع إلى ساحة حرب مفتوحة.
الشرق الأوسط الذي يريد تشكيله نتنياهو يقوم وفقا لمبدأ القوة وفرض إسرائيل في المنطقة باعتبارها الأقوى عسكريا وأمنيا ومعلوماتيا. ولذلك تشكل هذا الرؤية انقلابا على الرؤية التقليدية
الخارطة التي رفعها نتنياهو في خطابه بالأمم المتحدة، حدد فيها الدول التي تهدد إسرائيل، ووصفها بأنها “دول ملعونة”، وهي: إيران وسوريا والعراق واليمن ولبنان. وبذلك فهو يعلن أن الحرب التي يقودها لتغيير الشرق الأوسط ساحتها تلك الدول. وهي تارة تكون حربا مباشرة مع إيران، وتارة أخرى مع أذرعها المسلحة في البلدان التي تفرض نفوذها فيها. إذن، إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفق رؤية نتنياهو، تكون من خلال الدخول في مواجهة مسلحة مع إيران. ومهمة الحرب هذه المرة انكفاء إيران داخل حدودها، وتقليص قوتها ونفوذها في المنطقة.
الحرب التي يريد نتنياهو استمرارها، يمكن عدها تحولا في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه منطقة الشرق الأوسط، فهي تعتمد على فائض القوة الذي تملكه إسرائيل، وتريد توظيفه ليس فقط لمواجهة “أعداء إسرائيل”، وإنما لفرض رؤيتها ونفوذها على المنطقة. ولذلك هي انقلاب على الرؤية التي طرحها رئيس إسرائيل الأسبق شيمعون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، ويرى فيها أن الدبلوماسية والشراكة الاقتصادية هي الوسيلة لتحقيق السلام في المنطقة.
فلسطينيون يفتشون عن ضحايا بين انقاض مبنى دمره القصف الاسرائيلي في رفح في 19 ديسمبر
رؤية شمعون بيريز، أن الحرب لا يمكن لها أن تجلب السلام لإسرائيل، وهذا ما توصل له بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993، يقول بيريز: “بعد المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض وتوقيع الاتفاق، غلب عليّ التفكير أكثر من الشعور بالسعادة. فقد اجتزت مرحلة الاحتفال إلى الخطوة التالية وهي كيف يمكن بناء شرق أوسط جديد، فحل مشاكل الماضي لا يكفي بحد ذاته. وإنما يتوجب علينا التحرك للأمام لبناء إطار يحمل السعادة والرخاء لكافة شعوب المنطقة. فالوقت ليس مناسبا لاجترار الذكريات، بل للاتفاق على جدول أعمال جديد، فالاتفاق في أوسلو والاحتفال في واشنطن لم يكونا سوى العتبة التي يمكن أن نقفز من عليها إلى الأعلى والأبعد”.
ويعتقد بيريز أن “المفتاح للحفاظ على نظام إقليمي آمن وعادل يكمن في النواحي السياسية والاقتصادية أكثر منه في امتلاك القوة العسكرية، وفي عالمنا اليوم، فإن تأمين مستوى معيشي عال يتطلب علاقات تجارية تنافسية وحدودا مفتوحة واعتمادا على العلوم والتكنولوجيا.. والقوة الحقيقية بل وحتى القوة العسكرية لم تعد توجد في المعسكرات بل في حرم الجامعة وأصبح يترتب على السياسات أن تمهد الطريق بعيدا عن الاستراتيجية العسكرية إلى الذخيرة السياسية والاقتصادية المخصبة”.
الحرب عقيمة، هكذا وصفها شيمعون بيريز في كتابه، إذ يقول: “ولكي نبلغ السلام، لا بد من أن نعالج المشكلات الأساسية للشرق الأوسط بصورة واقعية، ويتعين علينا أولا وقبل كل شيء، أن نعترف بعقم الحرب… لقد جعلت عدة حقائق صلبة- تبدو جلية لعيان إسرائيل وجيرانها- أن الحرب عقيمة، وأن لا ضامن للنصر الكلية، لا توازن للقوى بين الأطراف المتحاربة ولا توازن للقوى بين القوى الدولية”.
الاختلاف بين بيريز ونتنياهو في الوسيلة وليس في الغاية، إذ إن كليهما يتفقان على أن إسرائيل تحتاج إلى السلام في المنطقة. ولكن نتنياهو يعتقد أن ذلك السلام لا يتحقق إلا من خلال الصواريخ وطائرات “إف-35” والاغتيالات، أما بيريز فيعتقد أن حل مشاكل إسرائيل مع دول المنطقة يتم من خلال الدبلوماسية والشراكة الاقتصادية. وبالنتيجة إسرائيل تريد أن تفرض شرقا أوسط جديدا، وربما تبقى المنطقة بحالة من السيولة، وهي حالة اللا حرب واللا سلام.
رؤية إيران
نجحت إيران في فرض رؤيتها للشرق الأوسط بعد احتلال العراق من قبل أميركا في 2003، إذ كانت تملك رؤية استراتيجية للمنطقة، تبدأ من خلال النفوذ السياسي لحلفائها ومن يتماهى مع أيديولوجيتها للإسلام السياسي الشيعي، وأيضا تشكيل فصائل مسلحة تكون أدواتها في تحقيق رؤيتها للأمن القومي الإيراني بنشر النفوذ في بلدان المنطقة.
إسرائيل تريد أن تفرض شرقا أوسط جديدا، وربما تبقى المنطقة بحالة من السيولة، وهي حالة اللا حرب واللا سلام
حققت إيران نجاحات في استراتيجيتها نحو تشكيل الشرق الأوسط من خلال ربط العراق وسوريا واليمن ولبنان ضمن محورها. وتوسع نفوذها حتى داخل فصائل المقاومة الفلسطينية، وأصبحت إسرائيل والولايات المتحدة ودول المنطقة في مواجهة هذا النفوذ. وبذلك كان لإيران وجهان: الأول هو الرسمي والذي تستخدم في الدبلوماسية والقنوات الرسمية. والثاني هو أذرعها المسلحة التي تستخدمها لتهديد خصومها ومنافسيها في المنطقة.
ما بعد 7 أكتوبر 2023، أصبحت إيران هي وأذرعها في مواجهة مباشرة وحرب مفتوحة مع إسرائيل. ونتيجة هذه المواجهة هي التي ستحسم شكل الشرق الأوسط الجديد. استراتيجية إيران تحولت نحو الدفاع عن قوتها كدولة أكثر من الدفاع عن أذرعها المسلحة التي تشتبك فعليا مع إسرائيل، مثل “حزب الله” في جنوب لبنان. وحتى الضربات الصاروخية نحو إسرائيل، غايتها استحضار قوة الردع التي تملكها إيران. لذلك فإن الاستراتيجية الإيرانية التي كانت تستخدم فيها الأذرع المسلحة لاستنزاف إسرائيل، لم تعد تملك قوة الردع تجاه إسرائيل.
مشكلة استراتيجية إيران نحو الشرق الأوسط، أنها نجحت لأكثر من عشرين سنة في التغلغل والهيمنة، ولكنها أخفقت في تحقيق غايتها، ألا وهي استخدامها للحرب بالنيابة ضد إسرائيل. كونها حولت نفوذها في تلك البلدان لدعم كيانات موازية للدولة، أو فصائل مسلحة تفرض سطوتها على الدولة، حتى عملت على إلغاء حضور الدولة في تلك البلدان. ومن ثم، عندما نجحت إيران في تحويل البلدان المرتبطة بها إلى دول هشة، استفادت إسرائيل من هذا الواقع، وباتت تعلن أن حربها مع تلك الكيانات المسلحة التي تهدد إسرائيل وليس مع الدول.
إذن، نتيجة المواجهة بين إيران وإسرائيل هي من تحدد شكل الشرق الأوسط الجديد. خصوصا بعد أن حولت إيران البلدان التي تفرض نفوذها عليها، إلى مسرح للدمى وليست دولا تملك قراراتها السياسية والقدرة على توظيف ثرواتها وقدراتها لخدمة مجتمعاتها. ولكن، ربما لن تكون غاية إسرائيل من شرق أوسط جديد تفرضه بالقوة تحقيق السلام لكيانها، وإنما فرض واقع جديد يكون فائض القوة هو المحرك الأساسي في فرض الشراكة الاقتصادية ورهن ثروات المنطقة بيد إسرائيل.