- أعادت حرب غزة، وأزمة البحر الأحمر، التساؤلات حول حقيقة النفوذ الصيني في ملفات الشرق الأوسط، وما إذا كانت بيجين مَعنيَّة بحماية ما أنجزته وساطتها بين الرياض وطهران قبل عام.
- على رغم الانتقادات، يبقى الدور الأمريكي حاسماً وبلا منازع في تشكيل اليوم التالي ما بعد حرب غزة. والمُنتظَر هو عودة استراتيجية تقاسُم العبء الأمريكية وتفعيلها، وليس تغيّراً في أدوار واشنطن في الشرق الأوسط.
- قد نشهد، في الفترة المقبلة، مزيداً من الزخم الإيجابي في العلاقات الخليجية-الإيرانية، وقد تكون هذه اللحظة مناسبة لاتخاذ إجراءات جادة، وبناء أسس لبيئة أمنية إقليمية أكثر استدامة وشمولاً.
- ينبغي الاعتراف بفراغ القوة القائم في الشرق الأوسط، وأنَّه حتى الآن ليس بمقدور طرف بعينهِ أن يملأ هذا الفراغ، أو أن يتحلى بدور حاسم في حل صراعات المنطقة وأزماتها المتعددة والمتجددة.
في مثل هذا الشهر من العام الماضي، حققت الصين اختراقاً دبلوماسياً لافتاً في الشرق الأوسط، عبر وساطتها بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإيرانية، التي تكللت بالنجاح، فكان اتفاق المصالحة السعودي-الإيراني واحداً من أهم التطورات السياسية في الشرق الأوسط في عام 2023.
لقد قيل حينها إن الولايات المتحدة الأمريكية تركت فراغاً في الشرق الأوسط استطاعت الدبلوماسية الصينية انتهازه، بكلفة بسيطة، فكان الاتفاق السعودي-الإيراني المذكور، نقطة نجاح دبلوماسي صيني، تَوَّج حينها، في الحقيقة، جهود فرقاء إقليميين توسّطوا بين الرياض وطهران على مدى السنوات الماضية، سواء عُمان أو قطر أو العراق.
الضمانة النسبية التي مثّلتها الصين، بوصفها دولة كبرى على علاقة حسنة مع كل من السعودية وإيران، أحدثت الفَرق في مارس 2023. في ذلك الوقت جدّد الاتفاق السعودي-الإيراني بوساطة صينية التساؤلات حول أمن الخليج، وما إذا كان ثمة ديناميات جديدة في مسار تنافس القوى الكبرى، قد ينعكس على البيئة الإقليمية.
من الأسئلة الأساسية التي طُرحت قبل عام، الاستفهام عمّا إذا كنّا نشهد تدشين مرحلة جديدة لدور صيني أوسع في قضايا الشرق الأوسط الجيوسياسية، وما قد يعنيه ذلك من احتمالات تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، وملء الصين الفراغات التي يتركها النهج الأمريكي في تعاطيه مع أزمات المنطقة وملفاتها المتشابكة.
اليوم، وعقب عامٍ على اتفاق المصالحة السعودي-الإيراني، وفي ظل طبيعة الاستجابة الصينية الحالية تجاه الحرب في غزة، فإننا نتساءل عن أسباب ما يشبه الغياب الدبلوماسي الصيني عن الانخراط المحوري في هذا الحدث الكبير، الذي غيّر الكثير من معطيات الواقع بخصوص الملف الفلسطيني-الإسرائيلي، وما هو أبعد من ذلك، ومنه المصالحة بين الرياض وطهران.
والواقع أن حرب غزة تُعيد مجدداً التساؤلات حول حقيقة النفوذ الصيني في ملفات الشرق الأوسط. وقد كشفت العسكرة التي تصاعدت في البحر الأحمر، على وَقع ما يجري في غزة، محدودية التأثير الصيني على مجريات الأحداث الساخنة في الإقليم، وفتحت الباب للتساؤل عمّا إذا كانت بيجين مَعنيَّة بحماية ما أنجزته وساطتها بين الرياض وطهران قبل عام.
التهدئة وخفض التصعيد
كانت عبارة “التهدئة وخفض التصعيد” هي الأكثر تردداً على ألسنة صنّاع الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية في مارس 2023، وكذلك من جانب مَن تفاعل معه في المنطقة وخارجها. وحينها توجّهت الأنظار إلى الوسيط أو الضامن الصيني؛ للحصول على إجابة عمّا إذا كان بإمكانه تغيير السلوك الإيراني، الذي وَسَمَ السياسة الخارجية الإيرانية في الإقليم طيلة السنوات الماضية؟
لقد قدّمت حرب غزة إجابة واضحة عن هذا التساؤل، ومع ذلك وجدنا حرصاً سعودياً-إيرانياً على عدم التفريط بالمصالحة، برغم التحديات التي واجهتها خلال عام مضى، استغرقت حرب غزة نصفه، حتى وقت كتابة هذه السطور.
ومع تشديد التوصية، في أعقاب الاختراق الصيني، بضرورة التفاؤل الحذِر، ومَنحِ النفْس مزيداً من الوقت والترقب للحكم على حقيقة ما جرى واختبار تحدياته، فإن النجاح الصيني يمكن أن يكون حجراً آخر، إلى جانب الحرب في أوكرانيا، في بناء الحديث عن صعود تعددية أو ثنائية قطبية في النظام العالمي. ولم يكن عديم الدلالة أن يتزامن الإعلان عن الاتفاق، قبل عام، مع نيل الرئيس الصيني، شي جينبينغ، ولاية رئاسية ثالثة تاريخية.
ووفق التصريحات الرسمية العلنية، ما تزال بكين ترفض فكرة أنها في وارد ملء فراغ تتركه واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، مشددة على أهدافها السياسية والاقتصادية في المنطقة. مع ذلك، فإن التساؤل يظل قائماً ومهمّاً حول متغيرات الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة للصين، وحول ما إذا كان النفوذ الجيو-استراتيجي الأمريكي في الخليج، وعموم الشرق الأوسط، سيقبل بفتح المجال للصين بـ”مشاركة العبء”؛ في ما يتعلق بحماية خطوط إمداد الطاقة وأمن الممرات المائية في الإقليم، وما يستتبع ذلك من تداعيات والتزامات وخرائط نفوذ مختلفة؟
وثمة مَن يلفت الأنظار إلى أنه حتى مع تَضرُّر سُمعة الولايات المتحدة بعد الانسحاب “الفوضوي” من أفغانستان وغير هذا (وخصوصاً الاستجابة الأمريكية إزاء غزة)، مع ما لذلك من تداعيات على المصداقية الأمريكية، فإن التوقعات من أمريكا ما تزال عالية من جميع حلفائها وشركائها وغيرهم. ومع كل حدث أو اضطراب، يبدو أن السؤال الذي يطرحه الناس على أنفسهم ليس أبدًا “ماذا ستفعل الصين؟”، بل لا يزال دائمًا: “ما الذي ستفعله الولايات المتحدة؟”؛ فهذا هو الذي سيستمر وهو ما ستتأثر به، بالطبع، دول الخليج العربية. وحتى مع نجاح الوساطة الصينية فإن ترقّب الاستجابة الأمريكية كان، ولا يزال، محلّ اهتمام من الجميع.
لا يمكن إنكار أنّ هناك “انتظارات” أفرزتها الوساطة الصينية في الاتفاق السعودي-الإيراني، وكان لها اتصال باحتمالات انتقال بيجين من لاعب وشريك اقتصادي بارز ومهم لدى دول الشرق الأوسط إلى لاعب وشريك أمني أو عسكري. في السابق، كانت الإجابات عن هذه المسألة تتراوح بين نفي الرغبة أو القدرة الصينية على أداء دور جيو-أمني بارز في الخليج والشرق الأوسط، أو أن هذا التحول المفترض محل اعتراض شديد من جانب الولايات المتحدة، لأنه قد يهدد مصالحها في المنطقة ووجودها العسكري ونفوذها الاستراتيجي لدى حلفائها في عموم الشرق الأوسط. والذي حدث، أن نجاح الوساطة الصينية مع الرياض وطهران، قبل عام، حرّك التساؤل في ظل ديناميات جديدة، قد تؤشّر إلى منظور جديد لأولويات اللاعبين وتفضيلاتهم واصطفافاتهم.
اليوم، إذا غضضنا النظر عن الحرص السعودي الشديد على مقاربة التهدئة وخفض التصعيد مع إيران، والدعوة إلى مسار سياسي شامل في اليمن، فإن ثمة انتظارات من المنطقة حيال الصين كي تُفعِّل دبلوماسيتها من أجل حماية اتفاق المصالحة بين الرياض وطهران، ومواجهة تصاعد التحديات التي تحيط بهذا الاتفاق. وبما أن 53% من وارداتها من النفط الخام تأتي من المنطقة، فإن للصين مصلحة جوهرية في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين حتى لا يتعطل إنتاج النفط ونقله.
هجمات الحوثيين في البحر الأحمر
في أعقاب هجمات الحوثيين على البحر الأحمر، في إطار الحرب في غزة، تحدثت الصين مع إيران لمنع أي هجمات قد يشنها الحوثيون على مصالحها الاقتصادية، وقيل إنه ليس هناك وضوح ما إذا كانت بيجين تحدثت مع طهران فقط فيما يتعلق بمصالحها الاقتصادية الخاصة، أو أيضاً لتأمين المصالح الاقتصادية للدول الأخرى. ولم ينضم الصينيون إلى تحالف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتأمين البحر الأحمر.
وفي يناير 2024، بدأت البحرية الصينية بمرافقة سفن الشحن الصينية عبر البحر الأحمر، وفقاً لشركة Sea Legend Shipping، وهي شركة مقرها في مدينة تشينغداو الصينية. وقد ذكرت وكالة رويترز نقلاً عن مسؤولين إيرانيين أن المسؤولين الصينيين طلبوا من نظرائهم الإيرانيين المساعدة في وقف هجمات الحوثيين أو المخاطرة بالإضرار بالعلاقات التجارية مع بكين.
على الجانب الأمريكي، نُقِل عن السيناتور الجمهوري ميت رومني قوله أثناء الإشارة إلى نهج الصين تجاه نزاع البحر الأحمر: “نحن هناك وعلمنا يرفرف ورجالنا ونسائنا في طريق الأذى. الصين هي الدولة التي أفترض أنها الأكثر تأثراً بإغلاق التجارة مع البحر الأحمر، ومع ذلك فإنهم يجلسون على الهامش ويتظاهرون وكأنهم أصدقاء الجميع”.
وفي حال اتباع نهج أكثر عدوانية من قبل الولايات المتحدة (في حال فاز دونالد ترامب بالرئاسة في 2024) تجاه إيران، فإن ذلك من الممكن أن يخلق المزيد من عدم اليقين في الشرق الأوسط. وبينما كان هناك الكثير من النقاش حول استخدام بيجين لنفوذها تجاه إيران، هناك مجال للمملكة العربية السعودية للعمل وسيطاً بين إيران والغرب. ومن شأن ذلك أن يُعيد مجدداً الحديث عن حاجة المنطقة إلى توافقات واسعة بشأن ضرورة وجود نظام أمن جماعي، يكبح نزعات العسكرة ويضبط حدود التنافس والصراع، ويستثمر في الاستقرار الإقليمي وأمن الممرات المائية باعتبار ذلك حاجة جماعية.
الدعوات لإقامة نظام أمن جماعي في عموم الخليج
على مدى سنوات، تكررت الدعوات لإقامة نظام أمن جماعي إقليمي في منطقة الخليج وبحر العرب ومضيقي هرمز وباب المندب، يضم إلى جانب “دول مجلس التعاون” الخليجي، إيران والعراق، وأيضاً اليمن. لا تزال هذه الدعوات مستمرة، والمبادرات الإقليمية والدولية بشأنها متعددة. ولا شك في أن متطلبات التهدئة والحوار والتعاون اليوم أكثر إلحاحاً؛ فالحلول العسكرية في المنطقة لم تصل إلى نتائج مُرضية، والصراعات المفتوحة زادت كلفة الفاتورة الاقتصادية، وقوَّضت كثيراً من عناصر الاستقرار والتنمية.
في عام 2018، قدَّم الرئيس الصيني، شي جينبينغ، اقتراحاً رسمياً “لصياغة بنية أمنية جديدة في الشرق الأوسط تكون مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة”. واستمرت المبادرات الصينية التي تعكس رؤية الصين لكيفية تجاوز المأزق الأمني في الشرق الأوسط. ففي العام 2019، عقدت بيجين منتداها الأمني الشرق أوسطي الأول، وقد تلت نسخته الثانية في العام 2022. علاوة على ذلك، تقدّمت الصين بمبادرات واقتراحات، من بينها: “منصّة الحوار المتعدّد الأطراف لمنطقة الخليج”، والمبادرة الخماسية النقاط حول تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، والاقتراح الرباعي النقاط حول حلّ القضية السورية، ناهيك بالأفكار الثلاثة لتطبيق “خطة الدولتين” للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وثمة مَن يذهب إلى أنَّه ليس للصين مصلحة كبيرة في استبدال الولايات المتحدة بوصفها ضامناً أمنياً في المنطقة، ولكنها تقترح بدلاً من ذلك إنشاء بنية أمنية بين اللاعبين الإقليميين حيث تؤدي الصين دوراً أساسياً. وبرأي هؤلاء، تحدد الصين تحدييْن أمنيين رئيسيين للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط: القضية الإسرائيلية الفلسطينية، وقضية الخليج (في المقام الأول بين إيران وبقية دول الخليج). وفي كلتا القضيتين، ركزت الرؤى الصينية على الحوارات الأمنية الإقليمية، بما في ذلك مؤتمر سلام دولي أوسع نطاقاً وأكثر موثوقية وتأثيراً بشأن القضايا الإسرائيلية الفلسطينية، فضلاً عن منصة الحوار الأمني في الخليج، كما تمّت الإشارة. ولا ترى بيجين نفسها تؤدي دور الضامن أو حتى ترسيخ نفسها محكّماً في الأزمة. وبدلاً من ذلك، فإنها تضع نفسها داعيةً للاجتماع وربما وسيطاً، إذا وافقت دول المنطقة.
لكنّ خبرة السنوات، بل العقود الماضية، بشأن الدعوات إلى هيكل أمني جماعي في عموم الخليج بضفتيه، أظهرت أن العقبات التي تمنع انبثاق هذا الهيكل الجماعي عديدة، من أبرزها الآتي:
1. ضعف الإرادة السياسية للاعبين الإقليميين لتخليق إجراءات بناء ثقة واسعة وشاملة ومستدامة فيما بينهم، يمكن البناء عليها لتهيئة الطريق للدخول في توافقات عامة على خطوط عريضة حول الملفات والقضايا الشائكة وأوجه الخلاف بين دول المنطقة، وخاصة إيران ودول مجلس التعاون.
2. الافتقار إلى نظام مستدام للردع الاستراتيجي، من شأن توافره أن يُنشِئ توازناً نسبياً في القوى، يحفّز على الانضباط وتراجع العناصر المُوَلِّدَة للحروب والأزمات. وتقع مسؤولية هذا الافتقار على الأطراف الدولية الكبرى، التي لا تزال تتصادم مصالحها وأولوياتها ومقارباتها واستراتيجياتها في منطقة الخليج، وعموم الشرق الأوسط.
3. هناك نقص استراتيجي في الإقليم في تعلّم الدروس، والإغراء بمزايا الازدهار والاستقرار والمشاركة، بدلاً من الحروب والنزاعات واستنزاف الموارد، واستمرار تهميش الشعوب وانقسام المجتمعات، وإدارة العلاقات الدولية بمنطق صِفريّ، يقدّم الشعبوي والأيديولوجي على الواقعي.
والحقيقة أنه مع صعود المسألة الإيرانية في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وصولاً إلى توقيع الاتفاق النووي الإيراني في 2015 في عهد الرئيس باراك أوباما، تزايدت الدعوات والمبادرات من داخل الإقليم وخارجه؛ لإيجاد هيكل أمن إقليمي جماعي يضم، على نحو أساسي، منطقة الخليج الأوسع، بضفتيها العربية والإيرانية. ومع الثغرات والتعثرات التي واجهها الاتفاق النووي الإيراني، وعدم ربطه بالقضايا الإقليمية وإشكالات البرنامج الصاروخي الإيراني والمسيّرات والمليشيات، وصلنا إلى طريق مسدود بشأن دعوات هيكل الأمن الإقليمي.
وحين انطلقت الاتفاقيات الإبراهيمية، صوّرتها إسرائيل وكأنها محور ضد إيران، بينما لم تكن هذه هي رؤية دول الخليج، التي بقيت ساعية للتواصل والتهدئة مع إيران وعدم استعدائها، وهي مقاربة بدأتها الإمارات قبل توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية في 2020، حيث كانت حرب اليمن حافزاً قوياً لمزيد من تبني هذه المقاربة إماراتياً وسعودياً.
والحقيقة أنه بعد مآلات الربيع العربي، نظرت إدارة الرئيس أوباما إلى المسألة الإيرانية والاتفاق النووي باعتبارهما “مُغيّرا اللعبة” في الشرق الأوسط، بينما راهن خلَفُه ترامب على “الاتفاقيات الإبراهيمية” مُغيراً للعبة. لكنّ مرحلة 7 أكتوبر 2023 أحدثت تغييراً مهماً في الجيوبوليتيك الذي كان قائماً؛ حيث تعزز الفهم بأن الشرق الأوسط لا يتغيّر دون حل المسألتين الفلسطينية والإيرانية، وأن الارتباط بين المسألتين يبدو اليوم أقوى من أي وقت مضى. ولا يَظهر أن العامل الخارجي سيساعد في هذا الحل؛ بعدما أظهرت حرب غزة عدم رغبة القوى الخارجية العالمية، منذ الأسابيع الأولى للحرب المدمرة، في اتخاذ إجراءات حاسمة وفعالة لمنع استفحال الكارثة الإنسانية والسياسية وامتدادها إلى ساحات أخرى، كما وجدنا في البحر الأحمر وغيره. ومنذ إدارة أوباما ثم ترامب وصولاً إلى إدارة بايدن، تغيَّرت رؤية الخليج إزاء الضمانة الأمنية الأمريكية، وإلى طبيعة الاستجابة الأمريكية -سواء في ظل إدارة ديمقراطية أم جمهورية- مع جوانب القلق الأمني الخليجي، وعناصر زعزعة الاستقرار في الإقليم.
تجديد الدعوة لاستراتيجية تقاسم العبء
وعلى رغم الانتقادات من داخل المنطقة للاستجابة الأمريكية بشأن حرب غزة، فإن الدور الأمريكي يبقى حاسماً وبلا منازع في تشكيل اليوم التالي ما بعد الحرب. وتدرك الأطراف الإقليمية، بما في ذلك دول الخليج ومصر والأردن وإسرائيل، أن انخراطها في التفكير بمرحلة ما بعد حرب غزة، وإعداد أي خارطة طريق مستقبلية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يتطلب التنسيق والتشاور والتباحث مع واشنطن، وليس الصين أو روسيا. وبالنظر إلى الاستجابة الأمريكية التي شهدناها في حرب غزة، فإن ما نحن بانتظاره هو عودة استراتيجية تقاسم العبء الأمريكية وتفعيلها، وليس تغيّراً في الأدوار الأمريكية في الشرق الأوسط. نجد ذلك في ملفات تقديم المساعدات وإعادة الإعمار ومسائل الأمن والحكم والإدارة في غزة ما بعد الحرب. والمأزق هو غياب رؤية شاملة ومتماسكة لمرحلة ما بعد حرب غزة، تركز على كيفية تذليل الكثير من العقبات بشأن الخيارات والسبُل التي تمنع العودة إلى الحرب مجدداً، لأن أي استراتيجيات مقترحة لإدارة القطاع، أو إعادة إعماره، أو البحث في مستقبل العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية لن تكون ذات معنى في ظل عدم القدرة على توفير ضمانات تمنع العودة إلى الحرب واشتعال الصراع والتدمير مرّة بعد أخرى.
الاستنتاجات
تؤيد السعودية وعموم دول الخليج والمنطقة التهدئة، وتستفيد وتنتعش من الاستقرار والتوافقات السياسية، لكنّ التحدي يبقى اقتناع الطرف الإيراني بأهمية التهدئة والحوار والدبلوماسية، وبأن ثمارها أفضل من التصعيد والتوتر والصراع. هذا تحدٍّ أساسي، وكان هناك مراهنة أو تفاؤل حذِر بأن بيجين، عندما نجحت في إتمام المصالحة بين الرياض وطهران في مارس 2023، كتبتْ جملة مفيدة ومؤثّرة في هذا المجال، وكذلك في ممكنات أدوارها العالمية المقبلة.
إنّ تَعزُّزَ إجراءات بناء الثقة بين إيران وجيرانها خطوة مهمّة على طريق التوجّه لبحث حل المشكلات الإقليمية والملفات الشائكة. قد نشهد، في الفترة المقبلة، مزيداً من الزخم الإيجابي في العلاقات الخليجية-الإيرانية، وقد تكون هذه اللحظة مناسبة لاتخاذ إجراءات جادة، وبناء أسس لبيئة أمنية إقليمية أكثر استدامة وشمولاً؛ لأن البديل في أحسن الأحوال نجاحات تكتيكية في خفض التصعيد، وإدارة للأزمة بدل حلّها.
من زاوية أخرى، ثمة من يرى، في سياق حرب غزة وتداعياتها، أن نفوذ الولايات المتحدة في طريقه إلى التضاؤل، لكن الصين وروسيا لم تصبحا بعد قوتين في الشرق الأوسط. وحتى الآن، لا تستطيع واشنطن إقناع إسرائيل بتأييد حل الدولتين أو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ومع ذلك فإن ما يسمى “محور المقاومة” بقيادة إيران يعاني هو الآخر من كثير من الضغوط، فضلاً عن أن المقصود من “محور المقاومة” كان إبعاد الصراعات عن حدود إيران، لكن استخدام هذا المحور الآن (بشكل غير محسوب) يعني المخاطرة بإعادة الصراع إلى إيران نفسها، وفق هذا الرأي.
وتؤكد وجهة النظر هذه أن “الشرق الأوسط منطقة غير قطبية، حيث لا أحد مسؤول عن إدارة الإقليم. فالولايات المتحدة قوة مهيمنة غير مهتمة وغير فعالة بالشكل الكافي لمنع الحروب والصراعات، ومنافسوها من القوى العظمى غير فعالين، بما لا يُقاس بالمقارنة مع الولايات المتحدة. ولا تستطيع دول الخليج أن تملأ الفراغ؛ ولا تستطيع إسرائيل أيضاً أن تفعل ذلك؛ ويمكن لإيران أن تؤدي دور المُفسِد ومُثير المشاكل فقط”. ولهذا، فإنه قبل الحديث عن عودة استراتيجية تقاسُم العبء الأمريكية، وعودة الحياة لمقاربة الترتيبات الأمنية الجديدة في الشرق الأوسط، ينبغي الاعتراف بفراغ القوة في الشرق الأوسط، الذي لا يملك أي طرف حتى الآن أن يملأه، أو أن يتحلى بدور حاسم في حل صراعاته وأزماته المتعددة والمتجددة. لقد كان هذا هو السؤال المركزي بعد نجاح الوساطة الصينية بين الرياض وطهران قبل عام، وهو لا يزال مطروحاً حتى الآن.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/alsharq-alawsat-baed-eam-ala-alwisata-alsiynia-bayn-alsaeudia-wa-iran-man-yamla-faragh-alquwa-fi-almintaqa