خلال ما يقارب العقد، ومباشرة منذ اندلاع حركة الثورات العربية، تحول المشرق إلى ساحة تدافع وصراع محتدم، بمحاور واستقطابات متقاطعة. السعودية والإمارات، على وجه الخصوص، اللتان كانتا في طريقهما إلى تشكيل محور عربي/خليجي، هجومي، فعَّال، نظرتا إلى انهيار أنظمة عربية صديقة، وإلى عملية التحول الديمقراطي، بقدر كبير من القلق. ولكن هذا القلق لم ينسحب على الثورة السورية، التي تلقت قواها دعمًا سعوديًّا ملموسًا طوال السنوات الأربعة الأولى. من وقف إلى جانب النظام السوري، وساعد على هزيمة قوى الثورة والتغيير، كانت إيران وحلفاءها. من القوى الشيعية المسلحة.
تركيا وقطر، في الجانب الآخر، وقفتا إلى جانب الثورات وحركة التغيير، ومدَّتا يد المساعدة إلى أنظمة التحول الديمقراطي في تونس ومصر وليبيا. أما اليمن، حيث حققت الثورة على نظام عبد الله صالح انتقالًا جزئيًّا، مضطربًا، فظلَّت منطقة نفوذ خليجي/سعودي؛ إلى أن ساعد التدخل الإيراني الحلفاء الحوثيين في الانقلاب على الحكم الانتقالي والسيطرة على معظم البلاد.
في 2013، نجحت الثورة العربية المضادة في إطاحة النظام الديمقراطي الجديد، في مصر، دولة الثقل العربي الرئيس، واستعادة زمام المبادرة. ولم تلبث صورة المحاور والاستقطابات أن تعرضت لمزيد من التغيير في بدايات 2015، عندما قررت السعودية والإمارات الانسحاب من الساحة السورية، بعد أن أصبح الإسلاميون القوة الرئيسة في حركة الثورة المسلحة، وإعلان الحرب على الانقلاب الحوثي لمنع إيران من اكتساب موقع لها في أقصى الجنوب الغربي للجزيرة العربية.
انقطعت العلاقات المصرية-التركية بصورة كلية بعد أن حُسمت المعركة بمصر لصالح نظام 3 يوليو/تموز 2013. ولكن علاقات تركيا الخليجية ظلَّت في مستواها العادي، سيما أن إدارة الملك سلمان في الرياض نظرت إلى أنقرة باعتبارها حليفًا محتملًا في التدافع الإقليمي مع إيران، الذي اتسع نطاقًا ليشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأخذ يهدد الاستقرار في البحرين. ولكن ما ظل عاديًّا لبعض الوقت، سرعان ما انتقل إلى مرحلة من التوتر، ومن ثم القطيعة، بعد الحصار الإماراتي/السعودي/البحريني/المصري لقطر، في يونيو/حزيران 2017، ووقوف تركيا إلى جانب قطر، وانفجار قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية بإسطنبول.
بصورة غير مسبوقة، أُطلقت حملة لشيطنة تركيا في الإعلام العربي المرتبط بمصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، التي أصبحت تمثل ما يشبه المحور. ومنذ تصاعد التوتر في شرق المتوسط بين تركيا واليونان، سارعت مصر والإمارات والسعودية إلى تأسيس ما يشبه التحالف السياسي والعسكري مع اليونان. وفي الوقت نفسه، وبالرغم من أن الدول الأربعة نظرت، وإن بمستويات متفاوتة، إلى التوسع الإيراني الإقليمي باعتباره مصدر تهديد لأمن المنطقة العربية واستقرارها، فقد تعهدت حملة أخرى، واسعة النطاق، ضد القوى الإسلامية السُّنِّية السياسية.
في ليبيا، بدأ اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، بدعم مباشر من مصر والإمارات، وإلى حدٍّ ما من السعودية، حربًا ضد الحكومة الانتقالية الشرعية في طرابلس، التي تلقت دعمًا عسكريًّا تركيًّا. وفي تونس، لم تتوقف محاولات الانقلاب على النظام التعددي الذي أفرزته الثورة التونسية ودستورها، شهد آخرها استيلاء الرئيس قيس سعيد على كامل السلطتين، التنفيذية والتشريعية، واتخاذ تدابير منافية للدستور. في سوريا واليمن، نجحت إيران في الحفاظ على حليفيها، نظام الأسد في دمشق والحُكم الحوثي في صنعاء؛ بل وشكَّل الحوثيون، بدعم عسكري إيراني كبير، تهديدًا مباشرًا للأمن السعودي. لم تفلح انتخابات 2018 في العراق، كما كان مؤمَّلًا، في خلخلة النفوذ الإيراني؛ ولا تراجعت القبضة الإيرانية على لبنان، بالرغم من دخول الدولة العربية الصغيرة، ذات النظام السياسي الطائفي الفريد، مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي طوال العامين الماضيين.
اعتبرت دول الكتلة الرباعية أنها الأقرب إلى الولايات المتحدة، وحافظت على علاقات وثيقة، وشخصية أحيانًا، مع إدارة ترامب، بالرغم من أنه رفض حماية السعودية من هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ الحوثية، إيرانية المصدر. وفي خطوة مفاجئة، عكست نفوذ إدارة ترامب المتزايد، من ناحية، وحجم الانقسام والصراع في المشرق، من ناحية أخرى، اتخذت البحرين والإمارات (ليتبعها كل من المغرب والسودان) قرار التطبيع مع إسرائيل. ولهذا السبب، وأسباب أخرى سابقة، تُركت السلطة الفلسطينية مكشوفة الظهر في مواجهة حكومات إسرائيلية ترفض المضي خطوة واحدة في طريق السلام.
طوال السنوات العشرة الماضية، أثقل صراع المحاور والقوى في المشرق كاهل الدول والشعوب، موديًا بأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وهدر الثروات، وإضاعة سنوات من فرص التنمية والإصلاح. مصر والسعودية، اللتان تمتعتا تقليديًّا بنفوذ كبير في المجالين العربي والإسلامي، فقدتا الكثير من تأثيرهما الإقليمي، حتى في مناطق مصالحهما الحيوية. انفرط عقد المنظمات العربية الإقليمية، مثل الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، التي لم تعد تمثل ولو الحد الأدنى من الإرادة الجمعية لدولها الأعضاء، ولا تستطيع التدخل بأية صورة ملموسة لمساعدة الشعوب والدول على التعامل مع أزماتها الداخلية أو خلافاتها البينية.
طوال عشر سنوات، لم يُسجَّل لدولة واحدة في المشرق جهد حقيقي لمحاولة احتواء الخلافات، وتخفيف حدة التوتر الإقليمي، أو تجنب الخسائر الباهظة للصراع والتدافع. ولكن، فجأة، وبدون سابق إنذار، أخذت رياح التصالح تهب على المنطقة. تراجعت لغة الشيطنة والعداء والخصومة والإهانات الشخصية الرخيصة إلى حدٍّ كبير، أو تلاشت. وعادت علاقات ثنائية، كادت تصل إلى مرحلة الحرب المباشرة، إلى طبيعتها في لحظة عناق واحدة لقادة الدول. فما الذي حدث لتنتقل دول المشرق من الانقسام إلى التصالح، ومن الصراع والتدافع إلى التفاوض والحوار؟ ما الدول التي تنشط في ساحة التصالح؟ ولماذا التصالح الآن؟ وأي متغيرات يمكن توقعها من هذه التوجهات التصالحية؟
القوى المتصالحة
بدأت أولى المصالحات باتصالات غير معلنة بين مسؤولين مصريين وأتراك في مطلع خريف 2020، بهدف تجنب مواجهة محتملة بين قوات الطرفين في الساحة الليبية. وسرعان ما تطورت هذه الاتصالات إلى مسار تفاوضي لتطبيع العلاقات بين البلدين. ويبدو أن اللقاءات الأولى بين المسؤولين الأتراك والمصريين، التي سبقت المسار التفاوضي المعلن، تضمنت مطالب واتفاقات على خطوات صغيرة لتأسيس مناخ من الثقة، مثل توقف الحملات الإعلامية وتخفيف حدة اللغة التي تستخدمها وسائل الإعلام المصرية المعارضة، التي اتخذت من تركيا مقرًّا لها.
في مايو/أيار 2021، عُقدت في القاهرة أولى الجولات الرسمية المعلنة بين وفدين من الخارجية المصرية والتركية لبحث ملفات الخلاف، والتمهيد لعودة العلاقات الدبلوماسية. وبالرغم من أن شيئًا ملموسًا لم ينجم عن اللقاء، إلا أن جولة ثانية عُقدت في أنقرة، في سبتمبر/أيلول الماضي (2021)، في إشارة إلى أن الطرفين لا يزالان ملتزمين بهدف التطبيع والتعامل مع الإشكالات المتراكمة في علاقاتهما منذ 2013.
في الوقت نفسه من أواخر 2020، بدأت اتصالات أولية أخرى بين مسؤولين أتراك وإماراتيين، ومسؤولين سعوديين وقطريين. وكان الشيخ محمد بن عبد الرحمن، وزير الخارجية القطري، قام بزيارة مفاجئة للرياض، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بعد استقبال الدوحة إشارات على رغبة السعودية في إنهاء الانقاسم الخليجي الداخلي وحصار قطر.
ولكن، ولأسباب غير واضحة، لم تفض زيارة الوزير القطري إلى خطوات ملموسة باتجاه المصالحة. بعد زهاء عام كامل على زيارة الشيخ محمد عبد الرحمن الرياض، بدا أن مناخ المصالحة أصبح أكثر إيجابية، سيما بعد أن وُجِّهت الدعوة إلى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، لحضور القمة الخليجية السنوية، المقرر انعقادها في يناير/كانون الثاني 2021 في المملكة العربية السعودية. التحق الشيخ تميم، الذي استُقبل بحفاوة ملحوظة من قِبل ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بلقاء القمة الخليجية فعلًا، وانتهت القمة بإعلان بيان العلا، الذي أشَّر إلى نهاية الانقسام وبداية عهد جديد من العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي. خلال الشهور التالية، عُقدت عدة جلسات بين مسؤولين سعوديين وقطريين لإزالة كافة أسباب الخلاف وتعزيز التعاون بين الدولتين.
مصر، التي كانت شاركت في حصار قطر تضامنًا مع حلفائها في السعودية والإمارات، سارعت إلى اللحاق بقطار المصالحة، معلنة نهاية الحصار والرغبة في استئناف العلاقات الدبلوماسية. وقد أصبحت المصالحة المصرية-القطرية أمرًا واقعًا بالفعل بعد زيارة وزير الخارجية القطري للقاهرة في بداية مايو/أيار 2021؛ ومن ثم تشكيل لجنة متابعة مصرية-قطرية لبحث كافة ملفات العلاقة والتعاون بين الدولتين. ولكن الواضح أن عجلة المصالحة القطرية-البحرينية، والمصالحة القطرية-الإماراتية، لم تسر بالسرعة نفسها، ربما لأن ترسبات فقدان الثقة بين البحرين والإمارات، من جهة، وقطر، من جهة أخرى، كانت لم تزل أكبر من نوايا المصالحة. وقد جاءت زيارة الشيخ طحنون بن زايد، مسؤول الأمن القومي الإماراتي لقطر، ولقاؤه الشيخ تميم بن حمد، في نهاية أغسطس/آب الماضي، وزيارة وزير الخارجية القطري الإمارات، 6 أكتوبر/تشرين الأول، ولقاؤه ولي عهد أبوظبي، لتفتح نافذة أمل جديدة على استئناف مسار المصالحة القطرية-الإماراتية.
الاتصالات التركية-الإمارتية، التي استمرت منذ نهاية 2020 وطوال الأشهر الأولى من 2021، وصلت مستوى من التفاهم سمح باستقبال الرئيس أردوغان لطحنون بن زايد في أنقرة، في 18 أغسطس/آب، قبل زيارة الشيخ طحنون الدوحة. وذكرت مصادر إماراتية وتركية أن اللقاء عكس رغبة الدولتين في تجاوز الخلافات بينهما، وتمحور حول قرار إماراتي باستثمار مليارات الدولارات في السوق التركية. كما عُلم أن تركيا والإمارات اتفقتا على تشكيل لجنة مشتركة، شبيهة بلجنة الحوار التركي-المصري، لبحث ملفات الخلاف العالقة بينهما.
في نهاية أغسطس/آب 2021، أُعلن عن اتصال هاتفي بين أردوغان ومحمد بن زايد، أعاد التوكيد على توجهات المصالحة، دعا خلاله أردوغان رجل الإمارات القوي لزيارة تركيا. كما أشارت منظمات مالية واقتصادية تركية ودولية إلى أن الإماراتيين بدؤوا بالفعل البحث عن مجالات استثمار “كبيرة” في الجارة الإسلامية الكبيرة.
بيد أن الاتصالات التركية-السعودية لا يبدو أنها أحرزت تقدمًا يُذكر، بالرغم من الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي للرياض، في 10 مايو/أيار 2021. والأرجح أن السعوديين، سيما ولي العهد السعودي، لم يتخلصوا بعد من مرارة مقتل خاشقجي، التي يرون أنها أوقعت ضررًا بالغًا ومستمرًّا بصورة السعودية وعلاقاتها الدولية بفعل الطريقة التي تعاملت بها تركيا مع القضية.
على أن بطء مسار المصالحة التركية-السعودية لم يمنع الأخيرة من اتخاذ خطوات جريئة وكبيرة في مسار العلاقات مع إيران، منافس السعودية الرئيس في الإقليم. والأرجح أن الانفراجة الأولى في العلاقات الإيرانية-السعودية حدثت في مطلع 2021 وبفعل وساطة عراقية، بعد أن أعلنت بغداد عن رغبتها في استضافة قمة لدول جوار العراق، بما في ذلك السعودية وإيران. والمؤكد أن لقاء سعوديًّا-عراقيًّا (إيرانيًّا) أوليًّا عُقد ببغداد في الأسبوع الثالث من أبريل/نيسان 2021، بصورة غير معلنة. ويعتقد بأن أربعة لقاءات حوار بين الدولتين عُقدت ببغداد حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2021، مُثِّلت فيها الدولتان بمسؤولين كبار، مثل عادل الجبير، وزير الخارجية الأسبق ونائب وزير الخارجية السعودي الحالي، وعلي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني.
لم تنعكس لقاءات الحوار الإيراني-السعودي حتى الآن على ساحات الخلاف الحاد بينهما، سيما في اليمن ولبنان، ولا أدت إلى توقف الهجمات الحوثية على أهداف سعودية حيوية، ولكن ثمة تسريبات بأن الطرفين يدرسان بالفعل استئناف العلاقات الدبلوماسية بصورة كاملة، ويبحثان كافة ملفات الخلاف الأخرى.
السؤال المهم الآن هو: لماذا، لماذا فُتح باب المصالحات هكذا، ومرة واحدة؟
دوافع المصالحات
ثمة أسباب ثنائية خاصة عملت على إطلاق مسار عدد من هذه المصالحات، ولكن أغلبها يتعلق بمتغيرات أوسع نطاقًا في الوضع الدولي، لم تكن في الحسبان.
مسار المصالحة التركية-المصرية، على سبيل المثال، لم يكن ليبدأ لولا التدخل التركي الفعال في ليبيا منذ نهايات 2019، والهزيمة التي أُلحقت بمشروع اللواء المتقاعد، حفتر، في 2020. بهزيمة حفتر، واقتراب تركيا وحلفائها في طرابلس من منطقة النفوذ المصري التقليدي في شرق ليبيا، باتت توقعات الصدام بين المصريين والأتراك أكثر احتمالًا. سعي الدولتين لتجنب الصدام، من جهة، واعتراف كل منهما بنفوذ الآخر في ليبيا، فتح الباب للاتصالات الأولى بين القاهرة وأنقرة.
ولكن هناك ملفات أخرى، بالتأكيد، كانت تثقل علاقات الدولتين، وتجعل تطبيعها أكبر جدوى من انقطاعها. يتعلق أهم هذه الملفات بتخطيط الحدود البحرية الاقتصادية في شرق المتوسط، وبنشاطات المعارضة المصرية في تركيا، وبالاستثمارات التركية الكبيرة في السوق المصرية، وبالدور التركي المتزايد في القضية الفلسطينية.
وبصورة مشابهة، لا يمكن استبعاد تعقيدات المسألة اليمنية عن الدوافع خلف انطلاق الحوار الإيراني-السعودي. لا يخفى أن الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، بهدف إطاحة النظام الحوثي في صنعاء، منذ أكثر من ست سنوات، لم تحقق أيًّا من أهدافها، وأن الحوثيين أصبحوا مصدر تهديد كبير لأمن السعودية نفسها. ولأن السعودية تدرك أن إيران هي جهة الدعم والتأييد الرئيسين للحوثيين، كان منطقيًّا أن تذهب الرياض إلى التفاوض مع الجانب الإيراني لمحاولة التوصل إلى حل مرض للمسألة اليمنية، واستكشاف سبل التوافق في ساحات التدافع السعودية-الإيرانية الأخرى.
هذا لا يعني، بالطبع، أن كافة المصالحات انطلقت من أسباب ثنائية، بالرغم من أن أطراف التدافع والصراع الإقليمي أدركت بصورة مبكرة التكلفة الباهظة للقطيعة واللجوء إلى سياسات الصدام. في مجملها، تبدو توجهات المصالحة أكثر ارتباطًا بخسارة ترامب، وحسم بايدن الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالحه في نهايات العام الماضي.
وفرت إدارة ترامب غطاء سياسيًّا وأخلاقيًّا (وأمنيًّا في بعض الأحيان) لسياسات ونهج عدد من دول الشرق الأوسط العربية. وحتى إن لم يكن هذا الغطاء فعالًا دائمًا، فقد كانت هذه الدول مطمئنة إلى أنها لن تواجه معارضة أو ضغوطًا أميركية لتغيير مسارها. لكن بعد رحيل ترامب، لم تتردد إدارة بايدن في الإعراب بوضوح، وبصورة مباشرة، عن عدم الرضى عن توجهات هذه الدول، سواء في مجال العلاقات الإقليمية، أو ما يتعلق بحقوق الإنسان. ولم تلبث إدارة بايدن أن أظهرت عدم اكتراث ملموس بحلفائها العرب، عندما قررت اتخاذ عدد من الخطوات المفاجئة التي لم تستشر فيها أيًّا من حلفائها، أو تأخذ قلق هؤلاء الحلفاء في الاعتبار. وربما كان انطلاق المباحثات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة لاستئناف العمل بالاتفاق النووي، وقرار سحب بطاريات الدفاع الجوي الأميركي من السعودية، والانسحاب الأميركي من أفغانستان، أبرز الأمثلة على نهج إدارة بايدن الانفرادي في الشرق الأوسط.
خلافات رئيسية عالقة
في ظاهرها، تبدو حركة التصالح والتهدئة في المشرق وكأنها تقود الإقليم إلى مرحلة جديدة من التهدئة والسلم ونظام مستقر للعلاقات بين الدول، بعد عشرية طويلة ومؤلمة من الصراع والحروب الأهلية. لم لا، وسلسلة المصالحات تشمل القوى الرئيسة في الإقليم، مثل تركيا والسعودية وإيران ومصر! ولكن المشكلة حتى الآن، على الأقل، أن حركة التصالح، وإن أسهمت في التهدئة النسبية وتخفيف حدة التوتر، لم ينجم عنها متغيرات ملموسة في طبيعة ملفات الخلافات الشائكة، التي تقع في أصل قضايا التدافع والصراع.
صحيح أن الحملات الإعلامية بين مصر وتركيا، والإمارات وتركيا، تراجعت إلى حدٍّ كبير، وأن ليبيا تجنَّبت، حتى الآن، التصعيد واندلاع جولة أخرى من الحرب الأهلية، وأن الإمارات تبدو جادة في تعزيز علاقات الاستثمار والتجارة مع تركيا. ولكن الصحيح، أيضًا، أن الانقسام الليبي لم يتراجع في حدته وتباعد مواقف أطرافه، وأن حفتر وحلفاءه في الشرق الليبي لم يُظهروا أي استعداد لإعادة توحيد مؤسسات الدولة أو المساعدة على إجراء انتخابات هادئة ومتفق عليها في ديسمبر/كانون الأول المقبل (2021).
ليس ثمة مؤشر بعد على أن مصر ستذهب إلى ترسيم الحدود البحرية مع تركيا في شرق المتوسط، بالرغم من أن هذا الترسيم يصب في صالح مصر (إلا إن كان هناك مستوى خافٍ من المباحثات المستمرة ببطء بين البلدين). كما لم تظهر القاهرة أي تراجع عمَّا يشبه العلاقة التحالفية التي أقامتها مع اليونان وقبرص اليونانية، والموجهة في أصلها ضد تركيا.
وبالرغم من أن الحوار الإيراني-السعودي قطع شوطًا بعيدًا، لم تتوقف الهجمات الحوثية الجوية على أهداف سعودية، ولا غارات التحالف العربي على الأهداف الحوثية في اليمن، ولا تراجع عنف الحرب في مناطق الاشتباك اليمنية بين قوات الحوثيين وقوات الجيش الوطني. وبالنظر إلى الصعوبة البالغة التي أحاطت بتشكيل الحكومة اللبنانية، وهشاشة الوضع الأمني اللبناني الداخلي، والتوتر البالغ الذي ولَّدته نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، فليس من الواضح ما إن كانت جلسات الحوار الإيراني-السعودي قد حققت شيئًا من التوافق.
ما لا يقل أهمية عن ذلك كله أن مناخ المصالحة لم يترك أثرًا يُذكر على المسائل المتعلقة بالشعوب ذاتها، التي كانت الخاسر الأول لعشرية الصراع والتدافع. الأنظمة التي واجهت شعوبها بالعنف، بدعم من حلفاء إقليميين، تزداد عنفًا، والأنظمة التي سيطرت على الحكم بقوة السلاح تزداد قمعًا وتحكمًا، والحروب الأهلية التي أشعلتها خلافات الحلفاء لم ينطفئ لهيبها. وحتى تونس، التي نُظر إليها دائمًا باعتبارها آخر ديمقراطيات حركة الثورة العربية، لم تلبث أن شهدت تراجعًا فادحًا في نظامها الديمقراطي ومنظومة الحقوق والحريات التي كفلها دستور الثورة التونسية. وهنا، أيضًا، ينقلب الرئيس التونسي على الدستور والثورة بدعم إقليمي صريح.
لتأسيس استقرار مديد ونظام إقليمي متعاون، لا يكفي التوجه نحو مصالحات سريعة، تعمل من خلالها الأنظمة الحاكمة على تقليل الخسائر وتعزيز مصادر القوة والسيطرة؛ بل مقاربة عقلانية وواقعية إلى القضايا محل النزاع والصدام، وإلى علاقات القوى الإقليمية، وتحديد طبيعة المصالح الخاصة بكل من الأطراف الرئيسة.
.
رابط المصدر: