منذ قرابة العقد من الزمن، انتفض المواطنون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا احتجاجاً في خلال ما سُمّي الربيع العربي، متسبّبين بعدد من التحوّلات السياسية والاقتصادية التي ما زلنا نشعر بتأثيراتها حتّى اليوم. وفي السنوات التي تلت، تعرّضت المنطقة إلى الكثير من الصراعات والضغوط الاقتصادية الشديدة والقمع الزائد وإلى القضاء على ديناميات جيوسياسية كانت راسخة منذ زمن.
مع انطلاق العام 2020 في بدايةٍ مفعمة بالأحداث، يتطلّع خبراء مركز بروكنجز الدوحة إلى العقد المقبل، فيتشاطرون أفكارهم حول مسائل السياسات التي تعتبر الأهمّ في رسم معالم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات العشرة المقبلة وحول الخطوات التي ينبغي على صانعي القرارات الإقليميين والدوليين اتّخاذها لمعالجة هذه المسائل.
وفي الاستشرافات التالية، يتطرّق الخبراء إلى تحديات ملحّة مرتبطة بالحوكمة والمجتمع المدني وانعدام المساواة والأمن والأوتوقراطية والتغيّر المناخي ومشاركة المواطنين. وفيما تتنوّع تحاليلهم، هم يقدّمون توصيات ملفتة بشأن السياسات للعقد القادم، تهدف إلى منح هذه المنطقة المضطربة مستقبلاً أكثر سلاماً وازدهاراً.
طارق يوسف – ينبغي على صانعي السياسيات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا طرح أجندة جديدة لإصلاح الحوكمة
فيما أتت احتجاجات الربيع العربي في عامي 2010 و2011 على أساس الشكاوى والديناميات السياسية الفريدة لكلّ دولة بحدّ ذاتها، تشاطرت الاحتجاجات تقييماً مشتركاً لإخفاقات الحوكمة. فقد تركّزت السلطة السياسية والاقتصادية بشكل زائد في يد نخبة صغيرة. وكانت القطاعات العامة بطيئة وغير متجاوبة عموماً. وكان حكم القانون غير مطّبق كما يلزم والفسادُ مشكلة خطيرة. وانتابت هذه الأحاسيس الناس بشكل عميق وحثّت الآلاف من المواطنين العاديين على القيام بأعمال غاية في الشجاعة والتحدّي.
على مدى العقد المنصرم، لم تستمرّ الظروف الاقتصادية السياسية الرديئة التي أدّت إلى الربيع العربي فحسب، بل ساءت، مما أدّى إلى عودة الاحتجاجات الواسعة النطاق مؤخراً في أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وشمل ذلك بلداناً لم تطلْها الاحتجاجات في المرة الماضية. وتتزايد الأدلّة التي تشير مثلاً إلى أنّ عدد الفقراء وبشكل خاص الفئات السكّانية الهشّة في الدول غير المصدّرة للنفط ازداد بشكل لافت في العقد المنصرم. وتساهم الهشاشة الاقتصادية الزائدة لدى الطبقة الوسطى، بسبب أنظمة الحماية الاجتماعية الفاشلة والتركيز على الإعانات المختارة والمستهدفة، مع تفاوت الدخل المتزايد والتنقّل المحدود بين الأجيال في انتشار عدم الرضى السياسي والتشدّد حتّى. في غضون ذلك، بات تصوّر الناس لنوعية الخدمات العامة، من ضمنها الصحّة والتعليم، ولا سيّما في المناطق الريفية، سلبياً بشكل متزايد. علاوة على ذلك، ما زالت الممارساتُ التنظيمية في المنطقة الأقلَّ شفافية وشمولية في العالم.
وفي خلال الفترة ذاتها، ومع بعض الاستثناءات القليلة، لم تتحسّن مؤشّرات الحوكمة في الدول غير المصدّرة للنفط في المنطقة. فقد توسّع حجم القطاعات العامة وشابها نقص مزمن في المهارات وتراجعت فعاليّتها أكثر فأكثر. وكان وضع البلدان التي تشهد صراعاً الأسوأ، إذ واجهت تدهوراً مؤسساتياً واسع النطاق وخسارة عمومية في رأس المال البشري. وقد قوّض الأوتوقراطيون نزاهة مؤسّسات المساءلة المستقلّة القليلة الموجودة. ونادراً ما تحدّت البرلمانات والسلطات القضائية المعيّنة تعييناً السلطةَ التنفيذية. وجُرّدت وكالات التدقيق العليا من استقلاليتها، واستشرت عمليات الاستغلال البيروقراطي. وغدت قدرة الوصول إلى المعلومات محدودة أكثر وتمّ التضييق بشكل كبير من المساحة المتاحة للمجتمع المدني، مع عودة كامل الممارسات السلطوية وحتميّات الأمن القومي بشكل بارز وقوي.
على مدى العقد القادم، ستزداد الصعوبة على الحكومات للتحلّي بنفوذ وسيطرة هائلتين على حياة مواطنيها ومسارات تطوّرهم الاقتصادي، وستصعب المحافظة في الوقت ذاته على بيروقراطيات مكلفة وغير فعّالة وغير خاضعة للمساءلة. ومن الأدلّة الواضحة على ذلك بروزُ عدم الرضى السياسي وانتشار الاحتجاجات في أرجاء المنطقة مؤخراً. في الماضي، اعتمدت الحكومات الإصلاحات بحماس ردّاً على ركود اقتصادي حادّ وأزمات سياسية. وكان معظم هذه الإصلاحات تكنوقراطي الطابع، على الرغم من أنّ بعضها دعم شفافية أكبر ومساءلة اجتماعية. وتكلّل بعض هذه الإصلاحات بنجاح لافت، فيما فشلت أخرى فشلاً ذريعاً، وانتهى الأمر بالكثير منها في منطقة فوضوية بين هاتين الحالتين. وتعطي الدروس المُستقاة من الجهود الماضية أساساً مهمّاً لطرح أجندة جديدة لإصلاح الحوكمة في العقد المقبل. وينبغي على صانعي السياسات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاستيعاب أنّ أجندة كهذه جزء أساسي من أيّ حلّ لتحديات التنمية المعقّدة والمتزايدة في المنطقة.
نهى أبو الدهب – ينبغي على صانعي السياسيات الدوليين إشراك الجهات الفاعلة في المجتمعات المدنية المحلية
فيما شهد العقد المنصرم فظائع جماعية ومستويات غير مسبوقة من القمع في عدّة دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يبقي المجتمع المدني والمواطنون العاديون قوى مقاومة وتغيير أساسية. وعلى الرغم من القمع الكبير للصحافيين وناشطي حقوق الإنسان والمفكرين والمحامين والقضاة والفنّانين، تمكّن الكثير من هؤلاء الفاعلين من العثور على سبلٍ ليس لمتابعة عملهم فحسب، بل لتطويره ونشره لجماهير أوسع أيضاً. وقد صعّب هذا الأمر على السياسيين بشكل متزايد إسكات الأصوات المعارضة تماماً.
ومع مقتل مئات الآلاف من الأبرياء وتهجير الملايين وتعذيب عشرات الآلاف وتغييبهم القسري، من الضروري أن يأخذ مستشارو السياسيات العمل المقدام والمذهل الذي يقوم به المجتمع المدني بجدّية أكبر بكثير في العقد القادم. فالتوثيق المستمرّ الذي يقوم به الجهات الفاعلة في المجتمع المدني لعقود من الانتهاكات يحرص على صون التاريخ والذكريات. ويكبح الحشد القانوني والاجتماعي، بما في ذلك جهود المساءلة الجنائية والاحتجاجات في الطرقات، جماح السياسيين ويحدث ثقباً في الجدار السلطوي الذي حاول الربيع العربي هدمه منذ ما يناهز العشرة أعوام.
وفيما تُزكي الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية نيران الصراعات والسلطوية في دول مثل ليبيا وسوريا واليمن، ينبغي عليها تأدية دور مهمّ في التخفيف من الخسارة البشرية التي تسبّبها هذه الصراعات. ومثلما وضّحت نداءات متعدّدة من الأمم المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة الدولية، يتمحور هذا الدور بشكل أساسي حول وقف الدعم العسكري للجهات المتحاربة. فمنذ سنوات وحتّى الآن، برهنت الصراعات في ليبيا واليمن على أنّ الحلّ يكمن في التسويات السياسية لا في اللجوء إلى القوّة.
بيد أنّ التسويات السياسية المحضّرة خارجياً، على غرار مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي في اليمن، فشلت فشلاً ذريعاً. فالنصائح بشأن السياسات التي تقدّمها الجهات الفاعلة المحلّية، من بينها المجتمع المدني، هي ما الذي ينبغي أن يدفع هذه الحلول السياسية. وفيما يعتبر هذا الأمر شرطاً بديهياً لعملية بناء سلام ذات مغزى، غالباً ما يتجاهل المجتمع الدولي الفاعلين المحلّيين والتجارب التي عاشوها أو يتغاضى عنهم لأنه يريد اعتماد حلول سريعة لا تعالج الجذور الهيكلية للصراع والقمع في المنطقة. فلكي تنجح التسويات السياسية ستحتاج القوى الخارجية إلى العدول عن تدّخلاتها ودعم إنشاء مساحات آمنة يستطيع فيها السوريون والليبيون واليمنيون والكثير غيرهم في المنطقة اتّخاذ قرارات بشأن مستقبلهم.
علاوة على ذلك، تبرز أزمة خبرة في مجال صناعة القرارات الدولية، ألا وهي الاتّكال على تحليل سريع يقوم به “خبراء” لا ناقة لهم ولا جمل في مواقع الصراع عوضاً عن الانخراط بشكل مجدٍ مع فاعلي المجتمع المدني المنغمسين في هذه المواقع الذين عاشوا تجارب يمكنها إفادة صناعة القرارات وينبغي عليها ذلك. وينبغي أن يبذل صانعو القرارات عموماً والمستشارون بشأن السياسات خصوصاً جهداً حقيقياً للحرص على أن تؤدّي هذه الخبرة المطّلعة دوراً ريادياً في رسم معالم السياسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
عادل عبد الغفار – ينبغي على صانعي السياسات معالجة أسباب انعدام المساواة لتعزيز الاستقرار الإقليمي الطويل المدى
تطغى على العناوين حول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الصراعات الجارية والطائفية والهجرة المتباينة والتشدّد. لكن فيما يشكّل انعدام المساواة المتنامي مسألة سياسات أساسية تساهم في كلّ هذه المشاكل، تلقى قدراً أدنى بكثير من الانتباه.
ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يواجه الأفراد مجموعة من أوجه انعدام المساواة المتقاطعة والمتداخلة، بما فيها تلك المرتبطة بالدخل والثروة والتعليم والجندر والوظائف والعناية الصحّية. وتعيق أوجه انعدام المساواة هذه المستمرّة على مدى أجيال وأجيال الحراك الاجتماعي، فتؤثّر سلباً في المجتمع والاقتصاد واحتمالات الاستقرار الإقليمي على المدى الطويل.
وتبعاً للأمم المتحدة، تغيّر مفهوم انعدام المساواة على مدى العقد المنصرم من وجهة نظر متمحورة حول النتائج، وفيها يشير الدخل إلى الرفاه، إلى وجهة نظر متمحورة حول الفرص، وهي تقترح أنّ ظروف الولادة أساسية للنتائج الحياتية وأنّه ما من فرص متكافئة من دون منح الجميع نقطة انطلاق عادلة.
على مستوى سطحي، وانطلاقاً من مقاييس الدخل، يشهد انعدام المساواة تراجعاً في العالم العربي. بيد أنّ أرقام المسوحات للأسر يمكنها أن تكون مضلّلة. فتبعاً للبنك الدولي، يشكّل سوء قياس المداخيل العليا مشكلة أساسية في تقييم انعدام المساواة.
وقد عرض تقرير مشترك للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ومنتدى البحوث الاقتصادية عدداً من النتائج المقلقة. أولاً، على الرغم من المكاسب في رأس المال البشري في العالم العربي، وسّعت الصراعات من نطاق انعدام المساواة بين الدول. ثانياً، فيما تراجع انعدام المساواة في النتائج داخل الدول في مجالَي التعليم والصحّة، تبقى مستويات انعدام المساواة في التعليم عاليةً ونوعية التعليم الرديئة تحدياً كبيراً. ثالثاً، يستمرّ انعدام المساواة الإجمالي في الفرص بالازدياد في العالم العربي، بمستويات متفاوتة.
ولا يبشّر انعدام المساواة المتنامي، مقروناً بالتحديات التي تولّدها الصراعات وتغيّر المناخ وشحّ المياه والسلطوية، بالخير لمستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع أنّه ما من سياسة واحدة لمعالجة مختلف أوجه انعدام المساواة، ينبغي على صانعي السياسات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشركائهم الدوليين التركيز في العقد المقبل على مسبّبات انعدام المساواة وعلى كيفية معالجتها. وينبغي أن يتضمّن ذلك جهوداً متكاملة لزيادة قدرة الوصول إلى تعليم وعناية صحّية جيّدَين ولتعزيز النمو الشامل ولدعم القطاع الخاص بصفته جهة مولّدة للوظائف ولتحسين الحوكمة والمساءلة. ومن شأن القيام بذلك أن يساعد بشكل كبير على تعزيز المجتمعات السليمة والاقتصادات القوية والاستقرار الطويل المدى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يحيى زبير – ينبغي على الصين تأدية دور أمني أكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لحماية مصالحها الاقتصادية
لقد ازداد حضور الصين الاقتصادي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل لافت في السنوات الماضية. فقد أصبحت أكبر شريك تجاري ومستثمر أجنبي مباشر في عدّة دول في المنطقة، من بينها الجزائر، التي كانت تقليدياً “من حصّة” الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا. وفيما بقي دور الصين في المسائل الأمنية الإقليمية في الحدود الدنيا حتّى الآن، ستضطرّ هذه الدولة إلى تأدية دور أكبر في حلّ الصراعات على مدى العقد المقبل، بغية حماية مصالحها الاقتصادية الواسعة.
فإمدادات الطاقة مسألة حيوية لنموّ الصين وتحديث إنتاجها المستمرَّين، وتستورد البلاد حالياً قرابة نصف حاجاتها النفطية من الشرق الأوسط. بالتالي ستبقى معتمدة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العقد المقبل وما بعده. ونظراً إلى حاجات الصين النفطية، من المتوقع أن توطّد شراكاتها الاقتصادية مع أهمّ الدول المورّدة للنفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثلما سبق أن فعلت مع المملكة العربية السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة ومصر والجزائر وغيرها من الدول. وفيما ستبقى أفريقياً “مجال النفوذ” الأكبر للصين، ستبقى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مصدر طاقتها الأساسي.
وسبق أن وضعت الصين أهدافها بشأن السياسيات حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال نشر مستندات مهمة، من بينها “الرؤية والتحرك للدفع بالتشارك في بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين” و”تنمية روح طريق الحرير وتعميق التعاون الصيني العربي” و”ورقة السياسات العربية”. بيد أنّها ستواجه عوائق كبيرة في تطبيقها، بما في ذلك الصراعات والحروب في روسيا وسوريا واليمن، فضلاً عن الخصومات المختلفة بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية (إيران والمملكة العربية السعودية وإيران والولايات المتحدة الأمريكية، إلخ). وإزاء انسحاب أمريكي محتمل من المنطقة، ستشكّل الطريقة التي تتعامل فيها الصين مع هذه العوائق اختباراً لمكانتها كقوّة عظمى.
ويكمن التحدّي الأصعب على الصين في العقد المقبل أن تلتزم بواحد من أهمّ المبادئ في سياستها الخارجية: عدم التدخّل. وفيما ستجهد الصين بالتأكيد للمحافظة على مقاربتها المحايدة في المنطقة، عليها في نهاية المطاف أن تنخرط في دبلوماسية الوساطة الفعّالة. فهل يمكنها أن تبقى محايدة مثلاً بين الرياض وطهران، وهما أكبر جهتين تمدّان الصين بالطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ ينبغي على الصين أن تتّخذ قرارات صعبة عند مواجهة التحديات المتعدّدة الأوجه التي تشكّلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعليها أن تقرّر أيضاً إن كانت ستعتمد مساراً تعاونياً أم تنافسياً مع روسيا التي أصبحت أكثر نشاطاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويبرز سؤال مهمّ آخر عمّا إذا كانت الصين قادرة على حماية مصالحها الاقتصادية من دون تشييد المزيد من القواعد العسكرية (كما فعلت في جيبوتي في العام 2017)، لكي لا تبدو كأنّها قوّة توسّعية. وبدون شكّ، ستزيد الصين من قوّتها الناعمة لتطمئن مخاوف كهذه وتصرّ على أنّ سياساتها مختلفة عن السياسات التدخّلية للولايات المتحدة وبعض القوى الأوروبية. باختصار، ستتابع الصين بالانخراط اقتصادياً وسياسياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع البقاء حذرة من أجل عدم تقويض البنية الأمنية التي أنشأتها الولايات المتحدة والتي خدمت مصالح الصين حتّى الآن.
علي فتح الله نجاد – ينبغي على صانعي السياسات معالجة “الأزمة الثلاثية” في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بغية بناء دول مستدامة
اتّسمت السنة الماضية بالموجة الثانية من “عملية ثورية طويلة الأمد” بدأت مع “الربيع العربي”. وتأجّجت عمليات الحشد الشعبية الضخمة بفعل الشرَّين المزدوجين اللذين يمثّلهما التداعي الاجتماعي الاقتصادي والسلطوية المتربطَين بشكل وثيق بسياسات الطبقة لحاكمة، وردّدت الشعارَ الشهير الذي برز في العامين 2010 و2011، أي “الشعب يريد إسقاط النظام”. وانتشرت الاحتجاجات في الدول العربية التي لم تتأثّر بالربيع العربي الأول، أي السودان والجزائر والعراق ولبنان، بالإضافة إلى دول غير عربية على غرار إيران، التي قُمعت فيها الانتفاضات، وهي الكبرى في تاريخ الجمهورية الإسلامية الممتدّ على مدى أربعة عقود، بعنف مميت غير مسبوق.
والاحتجاجات الشعبية الأخيرة علامة لعدد من المشاكل الهيكلية التي تشوب المنطقة. فمقارنة بمناطق أخرى في العالم، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أ) أعلى نسب بطالة بين الشباب والنساء، تزيد من حدّتها معدّلات عالية من الفقر وانعدام المساواة وب) أعلى كثافة من الأنظمة الأوتوقراطية وأخيراً وليس آخراً، ج) أعلى مستوى من الإجهاد المائي. إنّما هذه “الأزمة الثلاثية” (اجتماعية اقتصادية وسياسية وبيئية) هي ما أغرق المنطقة في حالة من الاضطراب المستمرّ التي أجّجها شراء كمّيات كبيرة من الأسلحة والخصومات الجيوسياسية بين القوى العظمى الإقليمية والدولية وأزمة الشرعية شبه المُبرمة للطبقة الحاكمة واتّكال مفرط على القمع.
بالإضافة إلى هذه العوامل، يؤدّي غياب هيكلية أمنية شاملة ومنطقة خالية من السلاح النووي إلى هشاشة الاستقرار الوطني والإقليمي. فيهدّد غياب الهيكليات الأمنية بجعل المنطقة موقعَ صراع مستمراً، ممّا يستدعي تدخلاً أجنبياً ويحرمها من شبكات الأمان المهمة للوقاية من تصاعد كبير في مستوى العنف.
وفي المنطقة، ستشّكل المحافظة على درجة من التوتّر الجيوسياسي واحداً من التكتيكات الأساسية للنخبة الحاكمة لتأمين استمراريتها، عبر صرف الانتباه بعيداً عن الانتفاضات الشعبية ومطالبها الثورية. بالتالي، سيكون العام 2020 عاماً أساسياً لمعرفة توجّه الانتفاضات الشعبية في المنطقة، وسْط الكفاح المستمرّ بين القوى الثورية والقوى المناهضة للثورة.
على مدى العقد القادم، باستخلاص العبر من الإخفاقات المتراكمة في سياسات العقود الماضية، ينبغي على صانعي السياسات النظر بإمعان إلى التحديات الأبرز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي التحديات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والبيئية، للعثور على سبل لبناء دول مستدامة. ففي النهاية، من الدروس الأساسية لكن المهملة كثيراً المستخلصة من “الربيع العربي” هي أنّ “الاستقرار السلطوي” وهْم، ولا يمكن تحقيق الاستقرار المستدام إلا من خلال التنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية. وينبغي على تلك الدول أن تؤسّس نفسها بناء على عقد اجتماعي أكثر ديمقراطية وأكثر عدالة اقتصادياً، مع الانغراس في هيكلية أمنية أشمل ومنطقة أكثر تكاملاً.
نادر قبّاني – ينبغي على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تبذل جهداً أكبر لمعالجة تطلّعات مواطنيها المشروعة
بدأ العقد الثاني من الألفية الثالثة بزلزال سياسي هزّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد نزل الناس إلى الشارع مطالبين بالمزيد من الأمن الاقتصادي والحرّية السياسية والعدالة الاجتماعية. فعلى مدى سنوات، خفّضت الدول السلطوية في المنطقة من تقديم المنافع والخدمات والوظائف العامة، لكنّها لم تعوّض على مواطنيها بفرص للمزيد من المشاركة الاقتصادية أو السياسية. وسرعان ما برزت مكانَ التنازلات السياسية التي قدّمتها الأنظمة في البداية ردّاً على احتجاجات العامين 2010 و2011 عودةٌ للسيطرة السلطوية. وبحلول العام 2018، كان لمعظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حقوقٌ سياسية أو حرّيات مدنية أقلّ مما كان لها قبل العام 2011، مع تحقيق تونس وحدها مكاسب لافتة في تطوير المؤسّسات الديمقراطية. لكن كما بيّنت الجولات الأخيرة من الاضطراب الاجتماعي في السودان ومصر والجزائر والعراق وإيران ولبنان، ما زال العقد الاجتماعي في هذه المنطقة يرزح تحت عبء كبير. بالتالي، ينبغي على الدول إما تنفيذ ما وعدت به أو إبرام اتّفاق جديد مع مواطنيها.
على مدى العقد المقبل، ينبغي على حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تبذل جهداً أكبر لمعالجة تطلّعات مواطنيها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشروعة. بيد أنّ الطريق نحو التقدّم ليس بسهل. وسيكون التحدّي الأول بناء قدرات البيروقراطيات الكبيرة والراسخة التي تخدم مصالحها من أجل الاستجابة بفعالية أكبر مع حاجات المواطنين. ويكون التحدّي الثاني تخفيف اتّكال المواطنين بحدّ ذاتهم على المنافع والإعانات والوظائف العامة. ومن أجل تنمية اقتصادات بلدانها وتأمين هذه الفرص، سينبغي على حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معالجة تحدّ ثالثٍ أصعب يكمن في العثور على طريقة للحدّ من سلوك الإقبال الذي لا يشبع على الريوع الذي يتّسم به زبائن الدولة ومحاسيبها. وسيكون التحدّي الرابع إنشاء مساحة للمشاركة السياسية والمدنية الحقيقية والسماح للمواطنين بالتفاعل مع مؤسسات الدولة والضغط عليها بفعالية أكبر.
وتعمل مجموعة من الدول، على رأسها تونس والأردن والكويت، على زيادة القدرات المؤسساتية والاستجابة بفعالية أكبر إلى حاجات المواطنين. في المقابل، تلجأ دول أخرى أكثر فأكثر إلى القمع والسيطرة، بدون أيّ تحسّن يذكر في الإدماج السياسي أو الاقتصادي. وستشهد المجموعتان كلتاهما اضطرابات اجتماعية، لكن على مرّ الزمن، ستكون المجموعة الأولى في وضع أفضل للانخراط مع مواطنيها وتلبية مطالبهم، فيما ستصبح المجموعة الثانية أكثر عرضة للاحتجاجات العنيفة والتغيير في الأنظمة حتّى. وسيدعم مسار انخراط المواطنين، مع أنّه يتطلّب جهداً أكبر اليوم، علاقة سليمة أكثر بين الحكّام والمواطنين اليوم وفي المستقبل على حدّ سواء.
وسبق أن بدأت أساليب حوكمة جديدة مبنية على مبادئ التصميم المتمحور حول الإنسان، على غرار مختبرات السياسيات ووحدات البصيرة السلوكية، بمساعدة صانعي السياسات على الاستجابة بفعالية أكبر إلى حاجات المواطنين. بيد أنّ هذه الإبداعات في السياسات غائبة في المنطقة باستثناء دبي. ومع أنّ الوضع يتغيّر، طرح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مؤخراً مختبرات تسريع العمليات ضمن برامجه الإقليمية. وتحتاج دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تريد تحسين هيكليات الحوكمة لديها إلى دعم وإرشاد بغية وضع مسار تنمية أكثر شمولية واستدامة لكي يتّبعه مواطنوها والدول الأخرى. وينبغي على الجهات الفاعلة التنموية الإقليمية ومجتمع التنمية الدولي أن تكون على استعداد لمؤازرة جهود دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي ترغب جدّياً في زيادة فرصها الاقتصادية ولإيجاد مساحة لمشاركة المواطنين.
رابط المصدر: