حكمت البخاتي
قد نجد جذور الشعبوية في تصورات سقراط عن الديمقراطية التي كان يحذر من مخاطرها في صعود العامة وفق التسميات القديمة أو الغوغاء منهم الى السلطة، فالشعبوية حالة سياسية–اجتماعية تحركها أو تصنعها ثقافات سياسية غير نخبوية، وقد دخلت أخيرا في تصنيف الأطراف الفاعلة في المعادلات السياسية القائمة في مجتمعات ودول العالم المعاصر وهي تستحضر دائما صيغة الشعب ومشتقاته المفاهيمية الشعبية أو الجماهيرية، وبدت في اشتقاقها المفاهيمي بشقيه المعنوي واللفظي من الصيغة اللفظية للشعب وبتحوير مقصود في تحويل دلالتها باتجاه السلب في التعريف والمفهوم للشعبوية.
وجاءت اصطلاحا متداولا متأخرا تاريخيا بعد مصطلحات الشعبية والجماهيرية التي تحددت بنطاق تداولي بشكل فعال ومؤثر تزامنا مع أفكار وتطبيقات الديمقراطيات الحديثة في القرن التاسع عشر المستندة الى إرادة ومصدرية الشعب في التشريعات والسلطة، فالشعب هو معيار الشرعية الديمقراطية والسياسية في انقلابات الحداثة وتطبيقات التنوير السياسية والقانونية.
وتبدو الشعبوية في مرحلة التأسيس المفاهيمي لها في هذا العصر والتي قد تتحول الى مفهوم مستقر مثل غيرها من المفاهيم التي بدأت تغزو عصر ما بعد الحداثة مثل الجندر والمثلية والهامش والمتن، وبذلك هي تندمج في المسار العام لما بعد الحداثة الذي فسح المجال كاملا لكل الهوامش للصعود الى المتن الاجتماعي والسياسي.
وتظل صيغة الشعبوية اللفظية والمعنوية تعكس أو تحاجج بذلك التأصيل لها في مصطلح الشعب وحقوقه الانتخابية والسياسية لا سيما وأن قانون الديمقراطية يصطف الى جانبها في صعودها اللانخبوي الى السلطة، ولم يستطع الفكر السياسي الحداثوي أن يتخلى عن انجازه التاريخي في احتكامه الى صناديق الاقتراع مهما أفرزت من نتائج سياسية قد تشكل خطرا على مبادئ الديمقراطية ذاتها مثلما حدث مع انتخاب ترامب الذي يعبر عن استطالة الشعبوية وتمددها السياسي والاجتماعي في أخطر وأهم بقاع الديمقراطية في العالم.
وهو ما شكل أحد أهم تحديات الديمقراطية في العالم الحديث لاسيما وأنه قد توازى ذلك مع صعود خطير للشعبويات اليمينية والمتطرفة في كثير من دول أوربا وأميركا الجنوبية حصولها على أصوات أو أغلبية مهدت لها بلوغ السلطة التشريعية وأحيانا التنفيذية، مما دفع الفكر السياسي الحديث الى اللجوء الى فك الاشتباك بين المفاهيم وإعادة ترتيب المصطلحات من جديد وشرع في تمييز مفهوم الشعبوية بتناقضاته البنيوية مع الديمقراطية وكأداة صالحة في التحليل السياسي للإجابة على اعتراضات الفكر السياسي التقليدي والمناوئ للقيم الديمقراطية.
ويبدو أن المفاجأة غير المتوقعة في صعود القوى اليمينية وبصيغها الشعبوية الدينية – المسيحية والعرقية – البيضاء في أوربا وأميركا هي التي دفعت المحاججة الديمقراطية الى اجتراح مصطلح الشعبوية لتفسير ما آلت اليه مصائر الديمقراطيات الغربية والأميركية، وفي ظل ذلك الجدل الديمقراطي الداخلي في الغرب لم يعبأ الفكر السياسي الأوربي بتحديد تاريخ تداول هذا المصطلح أو تحديد الجهة والمؤسسة التي أنتجته وشكلته وكذلك لم يدخل في قواميس المصطلحات السياسية والعلمية بشكل يجعل له إطارا واضحا في التعريف والاصطلاح وهو ما أحدث غموضا وعدم دقة في تداوله وتعريفه السياسي والاصطلاحي.
وهو إذ لم يحظ بمصادر في الأفكار والأيديولوجيات الرئيسة في العالم أو النظريات السياسية التي حددت مصطلحاتها ومفاهيمها وفق سياقاتها الفكرية والعقائدية فان مصطلح الشعبوية تحول الى مصدرية خاصة به تمتد عمليا وليس نظريا في أوساط الجماهير التي تطرح أفكارا وأراء دون الرجوع المنهجي الى النظريات النسقية أو تكون تلك الأفكار قد صدرت عن مؤسسات أكاديمية أو علمية أو جهات معرفية تستقطب القناعة بأفكارها وأيديولوجياتها.
فالشعبويات ومفردها الشعبوية هي مجموعة الأفكار التي تصدر عن فئات من الشعب لا تستلزم النخبوية ولا تصنف في أطرها الخاصة وتفتقد المنهجية العلمية لدى هذه الفئات في إنتاج أفكارها وأيديولوجياتها وهي بذلك توازن أو تعادل المراهقة السياسية، وبالقدر الذي تفتقر فيه المراهقة السياسية الى النضج الزمني/العمري في السياسة فان الشعبوية تفتقر الى النضج الفكري والثقافي وتشترك مع المراهقة في محاولات التمسك بالقرار الانفعالي وبالانفراد بالرأي ومحاولة الظهور بادعاءات الاستقلالية التي تكشف عنها ميول المراهقة العمرية.
واذا كانت المراهقة السياسية تقتصر على أشخاص سياسيين بأعيانهم أو أحزاب تفتقر الى الخبرة السياسية، فان الشعبوية تمتد الى مدى جماهيري أوسع وتشكل ثقافة سياسية واجتماعية تسير باتجاه استقطاب اجتماعي تحاول صهر المجتمع في بوتقة من الأصوليات الدينية والقومية والعلمانية أحيانا وتندفع باتجاه حرب الكل على الكل في الفوضى التي تخلفها وان لم تكن تعي أحيانا هذه النتائج.
ونتيجة سعتها الاجتماعية وانتشار قواعد التفكير الخاصة بها في المجتمعات التي ظهرت فيها على شكل تيارات سياسية وثقافية متعددة ومتباينة وهي آخذة بالمزيد من الانتشار في المجتمعات المعاصرة لاسيما في صيغتها الثقافية الأصولية بل وحتى العلمانوية، فإنها أخذت تعاني الارتباك في تعريفها فهي تطلق أحيانا على أقصى اليسار وأحيانا على أقصى اليمين، وهو ما أدى الى الارباك في تنظيم مواقفها وتوحيد صفوفها وهي بطبيعتها تعاني من ارتدادات عكسية نتيجة التطرف السائد في أيديولوجياتها مما يدعها عرضة الى التفتت الداخلي أكثر فأكثر، فهي وعلى شاكلة كل الأيديولوجيات المتطرفة تمر بانشطارات متتالية وتخوض دورة الانقسامات المتكررة.
وقد كرست مقولة الفوضى الخلاقة ذات المنطلق الرأسمالي الوقح والمعبر عن مبدأ اللامبالاة بالآخر طبيعة الفوضى الملازمة للشعبويات والتي قد تضع العالم كله على حافة الهاوية بفعل التصاعد المستمر لها وتحت تأثير مبدأ رأسمالي–أميركي أخر هو أطروحة التعددية الثقافية التي تهدف الى تفتيت الدول والمجتمعات، فالشعبويات وجدت لها مناخا مناسبا في ظل الهيمنة الأميركية الرامية الى هيمنة التعددية الثقافية بنسختها الرأسمالية في كل أنحاء العالم من أجل تثبيت قواعد الهيمنة السياسية، ولا ننسى ان مبدأ الفوضى الخلاقة هو شعار مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بشرت به الولايات المتحدة الأميركية.
ويبدو أن الكثير يغض النظر عن مخاطر هذه الشعبويات وإمكانياتها في قيادة العالم نحو الدمار والخراب أو الفوضى السياسية والاقتصادية كما يصنع الرئيس ترامب الذي صعد الى منصب الرئاسة الأميركية بتأثير الاستثمار السياسي لهذه الشعبويات وتوجيه الخطاب الانتخابي الى الفئات المهمشة في عصر الحداثة، وقد أسفر هذا الإجراء الدعائي عن إلغاء الطابع النخبوي للشخص السياسي والطابع الديمقراطي للبرنامج الدعائي في الانتخابات.
فالشعبوية وعلى الضد من الديمقراطية تميل الى دكتاتورية مقنعة بإرادة شعبية زائفة ومستبدة أو ما يمكن التعبير عنها بالدكتاتورية الجماعوية وهي تشكل بهذا أزمة النقيض الداخلي والبنيوي للديمقراطية.
وتظل ضرورة تحديث الوعي السياسي بالنسبة للشعوب التي دخلت الحياة الديمقراطية حديثا وبالنسبة للطبقة السياسية التي تسلمت السلطة بشكل تداولي-دستوري بعد عقود الدكتاتورية أن تلجأ الى هذا التحديث المستمر للوعي السياسي من أجل تحصين الهيأة الاجتماعية والهيأة السياسية من مخاطر الدكتاتوريات الجماعوية أو الشعبويات الآخذة بالانتشار في العالم المعاصر.
رابط المصدر: