الشغور الرئاسي في لبنان: هل باتت الظروف مواتية لإنهائه؟

محمد قواص

 

يُفاقِم فشل انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان من الأزمات المتعددة الأبعاد التي تعصف بهذا البلد على نحو غير مسبوق. وفيما يُعزى الفشل إلى انسداد سياسي محلي، وغياب موقف خارجي واحد حيال مقاربة المعضلة اللبنانية، يَجري التعويل مع ذلك على الضغوط التي يمكن أن تمارس لاحقاً من قبل العواصم المؤثرة، والأمل بتداعيات إيجابية مباشرة للاتفاق السعودي الإيراني الأخير، ولأجواء التقارب العربي مع دمشق، تُسهِم في ولادة بيئة حاضنة للحلّ في لبنان.

 

تبحث هذه الورقة في مسارات أزمة الشغور الرئاسي في لبنان، ومآلاتها المحتملة في ضوء مواقف الفاعلين في المشهد اللبناني، والمتغيرات الدولية والإقليمية.

 

معضلة الشغور الرئاسي

لم يستطع مجلس النواب اللبناني انتخاب رئيس جديد للجمهورية على الرغم من انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون منذ 31 أكتوبر 2022. أظهر البرلمان اللبناني انقساماً حاداً بهذا الصدد وعجزاً عن تأمين الأصوات الكافية لصالح أي مرشح، ويعود السبب إلى تركيبة البرلمان بعد الانتخابات التي جرت في 15 مايو 2022 وأظهرت عدم امتلاك أي تحالف سياسي للأغلبية المطلقة أو الوازنة من جهة، وإلى فشل القوى السياسية في الاتفاق على مرشح تسوية على منوال ما كان يجري سابقاً.

 

ويعطّل شغور موقع الرئاسة اللبنانية سيرورة العملية السياسية الضرورية لمواجهة أسوأ أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد منذ عقود. وبغياب رئيس للجمهورية تبقى الحكومة الحالية التي يترأسها نجيب ميقاتي حكومة تصريف أعمال لا تملك صلاحيات البتّ بالقضايا الأساسية، ناهيك من أن اجتماعها يحتاج إلى اجتهادات دستورية وتوافقات سياسية وتُثير معارضةً، لا سيما لدى القوى المسيحية.

 

وتمثّل رئاسة الجمهورية الموقع السياسي للأول للمسيحيين في لبنان، ما يعني أن شغور الموقع يمثّل غياباً للمكوّن المسيحي عن السلطة التنفيذية ما يسبب اختلالاً ميثاقياً في نظام الحكم. ووفق ذلك ترفض القوى المسيحية الأساسية، لاسيما “التيار الوطني الحرّ” برئاسة جبران باسيل و”حزب القوات اللبنانية” برئاسة سمير جعجع، اجتماع الحكومة لما يُشكله الأمر من ممارسة سلطات هي من صلاحيات رئيس الجمهورية. وقد أظهر البطريرك الماروني بشارة الراعي مواقف في هذا الشأن تراوحت بين التحفّظ والرفض بشأن قيام حكومة تصريف الأعمال بالاجتماع واتخاذ قرارات على الرغم من غياب رأس السلطة (المسيحي) في البلاد.

 

والواضح أن شلل السلطة التنفيذية بات عائقاً أساسياً يمنع إنتاج بيئة سياسية وقانونية لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي يشترطها صندوق النقد الدولي والدول المانحة من ورائه؛ فأمر كهذا يحتاج إلى تشكيل حكومة جديدة مكتملة الصلاحيات، ويحتاج إلى أن يتولى رئيس جديد للجمهورية صلاحياته الكاملة لقيادة العمليات الدستورية التي تؤدي إلى ذلك.

 

الانسداد الداخلي إذ يُعطِّل انتخاب رئيس جديد

يدور جدل في لبنان بشأن ما إذا كان انتخاب رئيس جديد للبنان ممكن من خلال ديناميات سياسية ودستورية داخلية، أو أن الأمر، كما كان يحصل في استحقاقات رئاسية سابقة، يحتاج إلى توافقات خارجية تدفع الطبقة السياسية اللبنانية باتجاه انتخاب مرشح على حساب آخر. وعلى الرغم من تأكيد عدد من العواصم المؤثرة في الشأن اللبناني أن هذه مسألة محلية وعلى اللبنانيين الاتفاق بشأنها، غير أن هناك تعويلاً على صفقات خارجية منتظرة قد تُسهم في حلحلة العُقَد التي تحول حتى الآن دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

 

وتدور المعركة الانتخابية بشأن الرئاسة في لبنان بين مرشحين معلنين ومرشحين مفترضين. وقد أظهرت جلسات الانتخاب التي شهدها مجلس النواب منذ 29 سبتمبر 2022 تمسُّك قوى سياسية معارضة لحزب الله بانتخاب ميشال معوض، وهو نجل رئيس الجمهورية الراحل رينيه عوضّ الذي اغتيل عام 1983، وهو من شخصيات تحالف “14 آذار” الذي تشكل بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري عام 2005. فيما تمسّك الثنائي الشيعي المتمثل بـ “حزب الله” و”حركة أمل” بالتصويت بورقة بيضاء. أما بعض المستقلين، وما يطلق عليهم اسم “نواب التغيير”، فقد أظهروا انقساماً بحيث لم يتمكنوا من الاجماع على مرشح واحد، ما زاد من تشظي مجلس النواب اللبناني وعجزه عن تأمين الأغلبيات اللازمة لهذا المرشح أو ذاك.

 

وقد أعلن الثنائي الشيعي رسمياً، بعد أن كان الأمر افتراضياً، دعم ترشح سليمان فرنجية لتبوؤ سدة الرئاسة. ويُعَدّ فرنجية، حفيد رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية، حليفاً لحزب الله ومُقرّباً من دمشق ومن الرئيس السوري بشار الأسد. وقد تأخر إعلان هذا الدعم من قبل حزب الله بسبب الحلف الذي يجمع الحزب بالتيار الوطني الحرّ برئاسة جبران باسيل، والذي وإن لم يعلن ترشحه فإنه كان يمنّ النفس بدعم مطلق له من قبل حزب الله على منوال الدعم الذي حصل عليه والد زوجته، الزعيم التاريخي للتيار، الرئيس السابق ميشال عون.

 

ويعاني ترشّح فرنجية حتى الآن من غياب غطاء ميثاقي مسيحي بسبب معارضة الأغلبية المسيحية، لاسيما القوى التي يقودها جبران باسيل وسمير جعجع بتفهُّم من قبل البطريك الراعي. ويخلق هذا الواقع أزمة مشاركة في حال اُنتُخِب فرنجية بناء على توافقات غير مسيحية. كما يعارض فرنجية العديد من القوى السياسية المختلفة الطوائف والتي لا تريد رئيساً حليفاً لحزب الله أو رئيس مواجهة وتحدي، ويرفضون تكرار تجربة عون الأخيرة في رئاسة الجمهورية.

 

بالمقابل فإنه من غير المرجّح تمكّن المرشح ميشال معوّض من الحصول على الأغلبية الدستورية لانتخابه رئيساً، ولطالما شُكِّكَ بجدية استمرار الدعم الذي يتلقاه من قبل عدد من القوى المعارضة لحزب الله، إلى درجة أن زعيم حركة أمل رئيس مجلس النواب نبيه تهكَّم على ترشّحه، واعتبره تجربة إنبوبية، ما أثار سجالاً حاداً بين الطرفين. وبناء على واقع الانسداد المحلي بين المرشحيْن، فإن القوى الداخلية قد تلجأ إلى خيار ثالث يمثل تسوية ويكون مقبولاً من الأطراف كافة.

 

الخيار الثالث

يتداول الإعلام اللبناني أسماء تمثّل هذا الخيار الثالث تندرج داخلها شخصيات مارونية وسطية أو مستقلة معروفة. غير أن الأنظار تتركز على قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي نجح في منصبه في قيادة المؤسسة العسكرية وحمايتها من الانحياز والانجرار داخل الحسابات السياسية المتناقضة. ويحظى قائد الجيش بتقدير من عواصم عربية ودولية، وحظي بدعم وحفاوة باريس ولندن، كما مدريد وواشنطن التي لم تتردد رغم التحفظات في الولايات المتحدة عن دعم الجيش، لاسيما لمواجهة الانهيار الاقتصادي في لبنان. ويحظى جوزيف عون أيضاً بعلاقات مع البيئة العربية، خصوصاً في الملفات المرتبطة بدعم الجيش اللبناني.

 

وفي ما عدا جبران باسيل، فإن كل القيادات السياسية تعبّر عن تقدير لشخص قائد الجيش، ولا تستبعد احتمالات اختياره رئيساً للبلاد إذا ما تعذّر انتخاب شخصية سياسية لبنانية. وحتى حزب الله كرر في مناسبة عدّة الإعلان عن عدم وجود “فيتو” لديه ضد هذا الاحتمال على الرغم من التعايش الصَّعب بين الجيش اللبناني وحزب الله. ويأخذ الرئيس السابق ميشال عون وصهره رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل على العماد جوزيف عون رفضه تدخل الجيش لقمع الاحتاجات الشهيرة التي اندلعت في 17 أكتوبر 2019، إلى حدّ اتهامه بدعم انقلاب ضد العهد.

 

غير أن إعلان الثنائي الشيعي عن دعم ترشح فرنجية يعني أن “الشيعية السياسية” غادرت المنطقة الرمادية بالنسبة لقائد الجيش، وحسمت عدم دعمها الرسمي له في المرحلة الحالية. ومع ذلك فإن فشل فرنجية المحتمل أو أي خصم له في الحصول على الدعم البرلماني يُبقي ترشُّح جوزيف عون احتمالاً مفتوحاً يحتاج إلى تسويات جديدة داخلية وضغوط خارجية جادة وحاسمة. علماً أن قائد الجيش لم يعلن ترشّحه ولم يَرشَح عنه أو عن أوساطه أي مواقف سياسية في هذا الشأن.

 

العامل الخارجي

ينقسم الرأي اللبناني الداخلي بشأن المرشح المناسب لرئاسة الجمهورية على أرضية انقسام إقليمي ودولي حول الخيارات المتعلقة بلبنان. وقد كررت أوساط حزب الله، لاسيما أمينه العام حسن نصر الله، الدعوة إلى انتخاب “رئيس لا يطعن المقاومة“، ولا يخضع للتهديد، بما يمثل خياراً متّسقاً مع القوى السياسية اللبنانية المتحالفة مع إيران. وسعى زعيم حركة أمل نبيه بري إلى تسويق فرنجية، لاسيما لجهة ما يملكه مرشحه من علاقات متقدمة مع النظام السوري، ما يمكّنه من الدفع بمحادثات ترسيم الحدود بين البلدين وإعادة اللاجئين السوريين. ويؤكد هذا الموقف الرغبة في أن يكون رئيس الجمهورية المقبل حليفاً لطهران ودمشق.

 

في المقابل تدعو معارضة متعددة إلى انتخاب رئيس لبناني يدافع عن مصالح لبنان، ولا يكون تابعاً لحزب الله وتحالفاته الإقليمية مع دمشق وطهران. يتّسق هذا التيار مع ما يتسرّب من مواقف سعودية غير رسمية تؤيد وصول مرشح إلى سدّة الرئاسة لا يكون موالياً لإيران، وإن كان الموقف السعودي الرسمي الذي عُبِّر عنه في الاجتماع الخماسي الذي عُقد في باريس، في 6 فبراير 2023، لم يدخل في لعبة الأسماء، وظل داعماً لرئيس للجمهورية قادر على الدفع بالإصلاحات الضرورية لانتشال لبنان من أزمته.

 

ولا تزال فرنسا تؤدي دوراً راعياً لدعم لبنان خارجياً. وقد سبق لباريس وواشنطن والرياض أن أصدروا بياناً مشتركاً في 21 سبتمبر 2022 دعوا فيه إلى انتخاب رئيس للجمهورية وفق مواصفات محددة. كما استضافت العاصمة الفرنسية الاجتماع الخماسي الآنف الذكر الذي حضره إضافة للدول الموقعة على البيان الثلاثي مُمثلون عن مصر وقطر. ولم يصدر أي بيان رسمي عن الاجتماع، ما عزز الاعتقاد بوجود خلافات بشأن كيفية مقاربة الأزمة. غير أن سفراء هذه الدول في لبنان جالوا على قيادات البلد لنقل أجواءالاجتماع التي تحثُّ على الإسراع بانتخاب رئيس للجمهورية.

 

أثر الاتفاق السعودي الإيراني

شكّلت موجة التضامن العربي مع سورية إثر الزلزال الأخير، وقيام قيادات سياسية بزيارة دمشق أو التواصل مع رئيسها، موجة من التكهنات بشأن تداعيات أي رفع لمستوى علاقات دول عربية مع دمشق على الوضع الداخلي اللبناني. وكانت أُثيرت أسئلة بشأن المقاطعة النسبية العربية للبنان في ظل تطور العلاقات العربية مع سورية. ورأت أوساط الثنائي الشيعي أن التطوّر يرفع من حظوظ فرنجية، وقد يمثل وجوده في بعبدا حدثاً مكمّلاً للاحتضان العربي المحتمل لدمشق، بما في ذلك إعادة سورية إلى مقعدها في جامعة الدول العربية. غير أن أنباء الاتفاق السعودي الإيراني في 10 مارس 2023 لاحقاً هيمنت على النقاش العام بصفته تطوّراً استراتيجياً مفصلياً سيكون له تداعيات مباشرة على الداخل اللبناني.

 

وأثار الاتفاق الإيراني السعودية الذي أُبرم برعاية الصين أجواء جديدة في لبنان مرتبطة بتداعيات ذلك على الشرق الأوسط، ومستقبل الأزمة اللبنانية. وقد رحبت القوى السياسية اللبنانية كافة، بما في ذلك حزب الله، بالاتفاق، مُفترضة أنّه يعزز خياراتها السياسية الداخلية، بما في ذلك هوية رئيس الجمهورية المقبل. وفيما كان زعيم حزب الله قد دعا إلى عدم انتظار تسوية بين السعودية وإيران لانتخاب رئيس للجمهورية، فإن المنابر الإعلامية القريبة من الحزب اعتبرت لاحقاً أن الحدث يُعزز حظوظ فرنجية.

 

ويدور في الأوساط اللبنانية نقاش بشأن أولوية لبنان داخل لائحة ملفات التسوية المفترضة بين طهران والرياض. ويخشى بعض القوى المعارضة لحزب الله من أن تقود التوافقات إلى مُقايضات تنسحب إيران بموجبها من اليمن مقابل مُحافظة إيران على نفوذها في لبنان. ويعزز هذا التخوّف تجربة سابقة حين قادت التسويات الكبرى إلى تخلي الولايات المتحدة عن لبنان والقبول بوصاية دمشق على الشأن اللبناني عام 1976.

 

ومع ذلك فإن اتفاق بيجين يُدخل المنطقة في مرحلة جديدة لا بد للبنان أن يكون متأثراً بدينامياتها. وفيما سيكون اليمن ميدان امتحان لجدية الاتفاق، غير أن ميدان لبنان سيكون مكان احتكاك وتماسّ بين المصالح الإيرانية والمصالح العربية عامة، ومصالح المملكة العربية السعودية خاصة. ولئن أكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن “لبنان يحتاج إلى تقارب لبناني، وليس لتقارب إيراني سعودي”، فاللافت أن سفير إيران في لبنان، مجبتي أماني، تبنّى في تغريدة موقف الوزير السعودي، واعتبره موقف الجمهورية الإسلامية بشأن مقاربة الأزمة اللبنانية.

 

استنتاجات

لن يتمكن لبنان بقواه السياسية الذاتية من انتخاب رئيس للجمهورية، خصوصاً أن لهذا الاستحقاق تبعات خارجية ما زالت ضاغطة على القرار اللبناني. كما أن الانقسام أصبح أكثر تعدداً بعد أن خرجت الانتخابات النيابية الأخيرة بمشهد برلماني متشظي عاجز عن توفير الأغلبيات اللازمة لانتخاب رئيس جديد.

 

والواضح أن الظروف التشريعية والإقليمية والدولية قد تغيَّرت عما كانت عليه حين انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016، ولم يعد حزب الله قادراً على فرض خياره في منصب الرئاسة مع احتفاظه بقدرته على تعطيل أي مسعى لانتخاب خيار آخر، ما يُعزز واقع عجز الداخل اللبناني عن إنجاز هذا الاستحقاق.

 

وفيما أظهرت المواقف الدولية، خصوصاً تلك التي تقودها الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، عدم اتفاقها على تسوية خارجية تُفرَض على الداخل اللبناني، فإن تطورات المشهد الإقليمي بعد خطوات التقارب العربي مع دمشق وإبرام السعودية وإيران اتفاقاً لإعادة العلاقات، رفعت من منسوب التعويل على تداعيات إيجابية قد تدفع نحو إنهاء الشغور الرئاسي في لبنان في أجل قريب.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/scenario/alshghoar-alraasai-fi-lbnan-hl-batt-alzrof-mwatiah-linuhaah-

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M