سجعان قزي
انضمّ الشيعةُ إلى سائرِ اللبنانيّين في تَقبُّلِ التعازي بالصيغةِ اللبنانيّة، لكن هل سنَتقبَّلُ التهاني معًا بالصيغةِ الجديدة ذاتِها؟ أصلًا لا أدري إذا كان اللبنانيّون يَحضُرون الجِنازةَ ذاتَها ويَبْكون الفقيدَ ذاتَه. قد يكون ما مات عند فريقٍ، وُلِد عند فريقٍ آخَر، وما يُنوح عليه فريقٌ هو ما قَتله فريقٌ آخَر. فجأةً قرّرَت المرجعيّاتُ الشيعيةُ تصفيةَ “صيغةِ” لبنان. “صفقةُ قرنٍ” عاصمتُها بعبدا وضاحيتُها بيروت. أعلنوا وفاةَ الصيغةِ من جانبٍ واحِد. لم يَقِفوا على خاطرِ أحد، ولم يَنتظروا حتّى فتوى الطبيبِ الشرعيِّ. كانوا يُصوِّبون على الثلاثينَ سنةً الماضية، فإذا بهم يُطيحون مئةَ سنةٍ، عُمرَ “لبنان الكبير”.
تتمّةُ هذا المنطِقِ: 1) تعطيلُ انتخابِ رئيسِ جمهوريّةٍ جديدٍ من “مبدأ” أنَّ لا رئيسَ أصيلًا لجمهوريّةٍ متوفّاةٍ. 2) انتقالُ لبنان من الشَراكةِ المسيحيّةِ/الإسلاميّة إلى الـمُثالثةِ المسيحيّة الشيعيّة السُنّية. وأين الدروزُ، الجماعةُ الكيانيّةُ المؤسِّسَة؟
الشيعةُ آخِرُ مكونٍّ لبنانيٍّ يُعلن رغبتَه بالخروجِ من صيغةِ 1943. جميعُنا تَنكّرنا لها، ومع أوّلِ غريبٍ خَدَعْناها. البادئون في المطالبةِ بتعديلِ صيغةِ 1943 كان إخوانُنا السُنّةُ والدروز (الجنبلاطيّون) بين سنتَي 1958 و1989 فكانت الحروبُ فـــ”اتفاقُ الطائف”. تلاهُم المسيحيّون بعدَ حربِ السنتين (1975/1976). والتحَق بهم الشيعةُ منذ 1980 إلى الآن (حركةُ أمل وحزب الله). لكنَّ الأسبابَ الموجبةَ لتعديلِ الصيغة اختلفت بين مكوّنٍ لبنانيٍّ وآخَر وكذلك الأهدافُ والغايات. فنحن مختلِفون على الصيغةِ “المستوفاةِ” وعلى الصيغِ الـمُستَحْلات. وعِزِّي يا وحدةَ لبنان… واغْرُبِي يا فِدراليّة.
لذلك لا أفهمُ الحملةَ على من أعلنَ وفاةَ “الصيغة”، ومن نادى باللامركزيّةِ الموسَّعةِ وبالفدراليّةِ وبتعديلِ “الطائف”. لا يُحاولَنَّ أحدٌ لإحراجِنا ربطَ أيِّ خِيارٍ دستوريٍّ بإسرائيل وأميركا والإمبرياليّة والصهيونيّة. هذه لُعبةٌ مكشوفةٌ ومَـمْجوجةٌ لا يَليقُ استخدامُها بين شركاءِ الوطن. ممنوعٌ على أيِّ جماعةٍ لبنانيّةٍ أن تتَّهمَ أو تُهدِّدَ، ولو بالتوْريةِ، جماعةً لبنانيّةً أخرى. حرّةٌ كلُّ جماعةٍ أنْ تعبّرَ عن رأيِها في مصيرِ لبنانَ كما تشاءُ، وأيْنما تشاءُ، وكيفما تشاءُ وبوجهِ من تشاء. لكن ما من جماعةٍ حرّةٌ أن تُقرِّرَ وحدَها بالقوّةِ مصيرَ لبنان.
أَسْعدني أن يَكشِفَ شركاؤنا الشيعةُ أخيرًا جُزءًا من مكنوناتِ قلوبِهم. شَـمَلْتُ كلَّ “الشيعة” لأنَّ المواقفَ التي صدرت أخيرًا تُمثل جميعَ المرجعيّاتِ الشيعيّةِ الحزبيّةِ (أمل وحزب الله) والدينيّةِ (المجلسُ الشرعيُّ والإفتاءُ الجعفريّ)، ولأنَّ هذه المواقفَ أتَت بالتكافلِ والتضامن، كأنَّ كلمةَ سرٍّ أُعطيَت لبلورةِ فكرةِ المؤتمرِ التأسيسيِّ الذي دعا إليه السيد حسن نصرالله (حزيران 2012): مساءَ 19 أيار الجاري شرَح الشيخ نعيم قاسم حَسناتِ “الجمهوريّةِ الإسلاميّة”. ظُهْرَ 22 منه رَفَض الرئيس نبيه بري ـــ الذي نُحبّ ـــ الفدراليّةَ والكونفدراليّةَ واتّهمَ بالنَشازِ أصواتَ المروِّجين لها، عِلمًا أن حالةً فدراليّةً تسودُ المناطقَ الشيعيّة. غروبَ اليومِ ذاتِه كَرّسَ السيدُ حسن نصرالله لبنانَ ساحةَ حربٍ إيرانيّةٍ لاستردادِ فِلسطين من البحرِ إلى النهر. صباحَ يومِ 24 من عيدِ الفطر أعلن المفتي الجعفريُّ الممتاز أحمد قبلان انتهاءَ مفعولِ “لبنانَ الكبير” والميثاقِ والصيغةِ اللبنانية وتَقبّلَ التعازي بها دفعةً واحدةً رغمَ الحَجْر. صباحَ 25 جَدّدَ نائبُ رئيسِ المجلسِ الشيعيِّ الأعلى الشيخ علي الخطيب حملتَه على الفِدراليّةِ. ومساءَ 26 دعا السيد حسن نصرالله إلى إعادةِ النظرِ بالطائف من دونِ نسفِ النظامِ “كليًّا”؛ ونَصَح بالتوجُّهِ شرقًا (إيران وسوريا) لحلِّ أزمةِ لبنان!
اختلطَ على اللبنانيّين معنى الكلماتِ التي يَتفوَّهون بها في السياسةِ والدستور. سقوطُ لبنان الكبير يعني سقوطَ الوحِدة والانتقالَ إلى التقسيمِ. سقوطُ النظامِ يعني سقوطَ الديمقراطيّةِ البرلمانيّةِ الليبراليّةِ والانتقالَ إلى نظامٍ دستوريٍّ دينيٍّ أو ما شابه. سقوطُ صيغةِ 1943 يعني سقوطَ الشَراكةِ الوطنيّةِ والانتقالَ إلى الانفصالِ أو الهيمنة. سقوطُ الكِيان يعني سقوطَ الحدودِ الدوليّةِ الضامنةِ السيادةَ والاستقلالَ. وسقوطُ الوطن يَعني سقوطَ الشعورِ الوِجدانيِّ والقوميّ بالانتماءِ إلى تاريخٍ مشتَركٍ وقيمٍ متوارثة. فماذا نريد بالضبط؟
اختلط على بعضِ اللبنانيّين أيضًا أيَّ “صيغةِ” يَدفِنون؟ أتلك الصيغةُ التاريخيّةُ التي صَنعت مجدَ لبنان من البطريرك الحويك إلى بشارة الخوري ورياض الصلح وخلفائِهم، أم الصيغةُ المضادّةُ التي هَدَمت لبنان من التسعيناتِ الماضيةِ إلى اليوم؟ تعالَوا نَدفِنْ معًا صيغةَ الدويلاتِ والإماراتِ والإداراتِ الذاتيّةِ والخِلافة لا صيغةَ الدولةِ والوطنِ والكِيان. تعالوا نَدفِنْ معًا صيغةَ الولاءِ للخارج والازدواجيّةِ العسكريّةِ والحروبِ العبثيّةِ في لبنانَ والمِنطقة. تعالوا نَدفِنْ معًا صيغةَ الإطاحةِ بالدستورِ وتخطي الميثاقِ ومخالَفةِ القوانين. تعالوا نَدفِنْ معًا صيغةَ الهدرِ والفسادِ والصفقات. تعالوا نخرج معًا من بينِ القبورِ والنعوشِ إلى رِحابِ الحياةِ والسلام. تعالوا نَعِشْ معًا في صيغة لامركزيّةٍ موسعّةٍ ومجتمعٍ حضاريٍّ، وفي ظِلِّ جيشٍ واحدٍ ونمطِ حياةٍ من وحي تقاليدِنا اللبنانيّة.
مصيرُ وِحدةِ لبنان يَتوقّفُ على أيٍّ صيغةٍ تُدفَنُ وأيِّ صيغةٍ تَبقى. السُنُّةُ يريدون “اتفاقَ الطائف”، والمسيحيّون والدروزُ يريدون اللامركزيّةَ الموسَّعة، لكنَّ إخوانَنا الشيعةَ أعلنوا وفاةَ كلِّ شيءٍ ولم يُقدِّموا البديل. أيُّ صيغةٍ موحَّدةٍ ممكنةٌ إذا استمرَّ حزبُ الله متمسِّكًا بسلاحِه خارجَ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ، وبـــ”ولايةِ الفقيه” فوقَ الدُستورِ اللبنانيِّ، وأبقى لبنانَ ساحةَ حرب؟
أنشئَ لبنانُ الموحّدُ ليكونَ دولةً مدنيّةً للّبنانيّين فقط على قاعدةِ القانونِ والمساواةِ والتعدديّةِ والميثاقيّة، وعلى أن تَتَّسِمَ جميعُ مكوّناتِه بالاعتدالِ والانفتاحِ والتكامُل. أما وقد خُرِقَ الدستورُ والميثاقُ، واستعيضَ عن التعدديّةِ بالعددِ، وسادَ التطرّفُ، وتَسلّلت إلينا دولٌ غريبةٌ، فلا حياةَ للبنانَ الموحَّد مركزيًّا. لا لبنانَ واحدًا مع نصفِ مليونِ لاجئٍ فِلسطينيّ. لا لبنانَ واحدًا مع مليونٍ ونصفِ مليونِ نازحٍ سوريٍّ. لا لبنانَ واحدًا مع تعدّدِ الولاءاتِ لدولٍ وتيّاراتٍ خارجيّة. لم تَتعثّر مسيرةُ لبنان بسببِ الاختلالِ في العددِ بين اللبنانيّين، بل بالإضافات. ليس العددُ ما صنعَ عظمةَ لبنان. التعايشُ بيننا لا يقوم على توازُناتٍ عدّديةٍ بل على توازنٍ حضاريٍّ وانسجامٍ وطنيّ وحيادٍ إيجابي. ببساطةٍ إنقاذُ لبنان لا يكون بالتوجُّهِ نحو “شرقِ” حسن نصرالله، بل بالعودةِ منه إلى لبنانِنا جميعًا.
رابط المصدر: