الشيخ جاسم الأديب
من العوامل المهمّة التي جعلت الشيعة الإماميّة يتميّزون في مناظراتهم وينتصرون على خصومهم هو تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) على أن لا يخوض أيّ من أصحابهم ميادين المناظرة إلا إذا كانت له خبرة وإلمام بفنّ المُناظرة، وهذا يكشف عن أنّ المُناظرة فنّ خاص لا يتسنّى لكل أحد الخوض فيه.
ففي الحديث عن الطيار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّك كرهت منّا مناظرة الناس وكرهت الخصومة؟
فقال (عليه السلام): أما كلام مثلك للناس فلا نكرهه من إذا طار أحسن أن يقع وإن وقع يُحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه (1).
وروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه نهى رجلاً من الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: نهيت فلاناً عن الكلام وأمرت هذا به؟
فقال (عليه السلام): هذا أبصر بالحُجج وأوفق منه (2).
وقال أبو خالد الكابلي: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يُجيبهم ويسألونه، فدنوت منه فقلت: إنّ أبا عبد اللَّه ينهانا عن الكلام.
فقال: أمرك أن تقول لي؟
فقلت: لا واللَّه، ولكن أمرني أن لا أُكلَّم أحداً، قال: فاذهب إليه وأطعه فيما أمرك.
فدخلت على أبي عبد اللَّه (عليه السلام) فأخبرته بقصة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب فأطعه فيما أمرك، فتبسّم أبو عبد اللَّه (عليه السلام) وقال: يا أبا خالد إنّ صاحب الطاق يكلَّم الناس فيطير وينقض، وأنت إن قصوك لن تطير (3).
من هنا وجدت من الجدير بنا أن أشير إلى بعض الحقائق عن فنّ المناظرة، ومنها:
أقسام المُناظرة
لكي يوفق المناظر في المُناظرة- سواء أكانت ممدوحة أم مذمومة-ينبغي أن يكون له إلمام له بأقسام المُناظرة ومنها:
1- المُناظرة البرهانية:
وهي المُناظرة التي تتألف من اليقينيّات وهي أفضل أنواع المُناظرة ولكن تحقّقها في الخارج نادر جداً، فمن الصعب بمكان أن تنعقد مناظرة يتقوّم الاستدلال بها على اليقنيّات فقط.
وكما في علم المنطق: أنّ المُناظرة البرهانيّة تعتمد على مقدّمات يقينيّة كالأوليّات، والمحسوسات، والمُجرّبات، والمتواترات، الفطريات، والحدسيّات.
أمّا الأوليات فهي: القضايا التي لا يحتاج للحكم بها أكثر من الالتفات إلى الموضوع والمحمول والنسبة، كما في قضيّة أنّ الكل أعظم من الجزء، أو أنّ اجتماع النقيضين محال، وأنّ كل معلول لا بد له من علّة.
ولا يخفى أنّ المُناظرة البرهانيّة توصل المُناظرة إلى النتيجة المتوخاة أسرع، فإنّ مثل الأوليات مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول والنسبة كافي في التصديق بها ولا يحتاج ذلك إلى إقامة البرهان.
ومن الأمثلة القرآنية للمُناظرة البرهانية قوله في قدرة الباري تعالى على إعادة الخلق بعد بدئه: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ*وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*ُقلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ*الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ*أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (4).
ولو أردنا صياغة ذلك البرهان بشكل القياس الاقتراني لقلنا:
– بدء الخلق وإعادته متساويان بحكم البديهة.
– وكل متساويين حالهما بالنسبة إلى القدرة متماثل تماماً.
فيكون بدء الخلق وإعادته بالنسبة إلى القدرة متماثل تماماً.
2- المُناظرة الجدليّة:
وهي المُناظرة المؤلّفة من مقدّمات مشهورة، تعتقد الجماهير بمضمونها اعتقاداً مُقارباً لليقين، ولا ينبغي أن تكون هذه المقدمات المشهورة مطابقة للواقع.
من أمثلة المقدمات الجدلية هي: حُسن صلة الأرحام، ومراعاة العدل في الأحكام، وقُبح إيذاء الآخرين.
بالطبع القضايا المشهورة على ثلاثة أقسام:
1- المشهورات الحقيقية: وهي القضايا التي شهرتها حقيقية ودائمة لا تزول.
2- المشهورات: الظاهرية: وهي القضايا التي تكون مشهورة في أذهان الناس ولكن مع أقل تأمل بها تزول شهرتها.
3- شبه المشهورات: وهي القضايا التي تكون مشهورة لاعتيادهم عليها ولكن بعد مدة تزول تلك العادة فتزول الشهرة عنها.
وعادة ما يكون في المجادلة أمور ومنها:
1- السائل والمُجيب: فإنّ الجدل عادة ما يكون بين طرفين على الأقل يكون أحدهما سائلاً والآخر مُجيباً.
2- الوضع: وهو المُدّعى الذي يطرحه المُجيب في المناظرة ويدافع عنه.
3- الموضع: وهي قواعد كليّة لها أحكام كليّة متشعّبة تنشعب عنها يلجأ إليها المناظر في نفي أو إثبات مُدّعاه.
ومن الأمثلة القرآنية للمُناظرة الجدليّة -في ردّ من أنكروا اليوم الآخر- قوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (5).
3- المُناظرة الخطابيّة:
وهي مُناظرة لا تُلزم الطرف المقابل بالأخذ بها ولكنّها تفيد ظنّاً راجحاً مقبولاً، وهي تعتمد على مقدّمات ظنيّة سواء سلّم بها الطرف المقابل أم لم يسلّم، وسواء أفادته ظناً راجحاً أم لا، لكنّها من جهة المُناظر المُستدل بها تُفيد ظناً راجحاً.
وأجزاء الخطابة هي:
1- العمود: والمُراد به هي القضايا التي تستخدم للإقناع، وقد سُمّيت هذه القضايا بالعمود لقوام الخطابة بها واعتمادها عليها.
2- الأعوان: والمُراد بها الأفعال والأقوال والأمور الخارجيّة التي تستخدم للإقناع والتي تُهيّأ وتساهم في إقناع المُستعمين بالإقتناع بالعمود.
ومن الأمثلة القرآنية للمُناظرة الخطابية في التوحيد قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (6).
فهو في مقام الاستدلال على الكافرين يحاججهم بالبرهان التالي وهو: أيّها المشركون، يامن جعلتم خلق الله آلهة تُعبد من دونه تعالى، أتقبلون ذلك لأنفسكم؟!
أتقبلون أنّ ينازعكم عبيدكم أملاككم؟
وإذا كنتم لاتقبلون ذلك لأنفسكم لمنافاته مالكيتكم، كيف تقبلون به لله تعالى وهو خالقكم؟!
4- المُناظرة الشعرية:
وهي مناظرة لا يشترط فيها أن تفيد ظنّاً راجحاً مقبولاً، بل قد تعتمد على مقدّمات وهميّة، وصور كاذبة لا تخفى على المُخاطب، إلا أنّها تشتمل على ما يؤنس مشاعر المُخاطب النفسيّة، فيتأثّر بها ويستجيب لمضمونها وقد يكون عالماً فكرياً بعدم صحتها.
ومن الواضح أنّ هكذا مناظرة لا تفيد اليقين ولا ظناً راجحاً.
5- المُناظرة المغالطيّة:
المُغالطة هي قياس واستدلال فاسد يتخذ مظهر قياسات صحيحة، وفساد هذا القياس قد يكون من جهة المادّة أو الصورة أو بسببهما معاً.
وتتألف المُغالطة من الوهميّات: وهي قضايا كاذبة يُحكم بها الوهم في أمور غير محسوسة، و الغرض منها إيقاع الخصم في الخطأ و إسكاته، وأعظم الفوايد في معرفتها أن يحترزعنها في مقام البرهان و يردّها لو أوردها الخصم في المُناظرة و المغالطة (7).
لماذا نلجأ إلى المغالطة في المناظرة؟
لا يخفى أننا نلجأ إلى المُغالطة في بعض الأحيان في المناظرة لأمور ومنها:
1- أنّ البرهان واحد في كل مسألة لأنّ الحق واحد وبالتالي لا يستطيع الطرفان الاستفادة من البرهان فيلجأ أحدهما إلى الجدل عند استعمال الطرف المقابل للبرهان.
2- أنّ الجمهور لا يُدرك المقدّمات البرهانيّة إذا لم تكن من المشهورات لديهم وغرض المُجادل عادة إفحام الطرف المُقابل أمام الجمهور لذا يلجأ إلى استعمال المقدّمات المشهورة بالطريقة الجدليّة حتى لو كان الحق معه ويمكنه استعمال البرهان فيه.
3- كل أحد لا يستطيع إقامة البرهان ومعرفته فيلجئ إلى الجدل لعجزه عن البرهان أو عجز خصمه عن ادراك البرهان.
4- الناشئ في العلوم قبل أن يصل إلى مرحلة يستطيع فيها إقامة البرهان يحتاج إلى طريقة تمرّن عقله من خلالها غير البرهان وهذه الطريقة هي الجدل.
يقول الشيخ المطهري: معرفة فنّ المغالطة نظير معرفة المكروبات المضرّة والسموم، فلابد من معرفتها لتُجتنب ويُحترز عنها فيما لو أراد أحد يبتلينا بها… والإحاطة بأنواع المغالطة يجعل الإنسان على بيّنة من أمره فلا تنطلي عليه مثل هذه الخُدع (8).
وهناك بعد إيجابي للمُغالطة وذلك لو كانت لامتحان الآخرين وشحذ أفكارهم، ولذا ينبغي للمُناظر أن يطّلع على هذا الفن ليستطيع اكتشاف أفكار ومعتقدات الآخرين من جانب، ولكي لا يقع في شراكها ويتأثر بها.
أجزاء المغالطة الداخلية
المُغالطة على أنحاء قد تبلغ المائة والخمسين، ولكن تقسيمها حسب أجزائها الداخلية إلى قسمين:
1- المغالطة اللفظيّة: وهي المُغالطة التي يكون منشأها لفظ معيّن.
2- المُغالطة المعنويّة: وهذا النوع من المُغالطة لا ربط له باللفظ بل علاقته بالمعنى، كأن يجعل المناظر ماهو ليس بعلّة علّة، أو يربط بين جمل أو كلمات لا ربط بينها ويجعلها وكأنها مرتبطة ببعض حقيقة.
ومن أمثلة المغالطة اللفظية هي:
1- الاشتراك اللفظي: ففي كثير من المغالطات اللفظية يستخدم المغالط المشترك اللفظي دون أن ينصب قرينة معينة توضح مراده ما يوقع الطرف المقابل في الفهم الخاطئ أو يبقى متحيراً في المراد من كلامه، وكمثال على ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (9).
ففي الحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (وكانت هذه اللفظة: (راعنا) من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون: راعنا، أي أرع أحوالنا واسمع منّا نسمع منك، وكان في لغة اليهود: اسمع لا سمعت، فلمّا سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله يقولون: راعنا ويخاطبون بها قالوا: كنّا نشتم محمداً (صلى الله عليه وآله) إلى الآن سرّاً فتعالوا الآن نشتمه جهراً، وكانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون: راعنا، يريدون شتمه، فتفطّن لهم سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، أراكم تريدون سبّ رسول الله توهمونا أنّكم تجرّون في مخاطبته مجرانا والله لا سمعتها من أحد منكم إلا ضربت عنقه، ولولا أنّي أكره أن أقدم عليكم قبل التقدّم والاستيذان له ولأخيه ووصيّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) القيم بأمور الأمة نائباً عنه لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا، فأنزل الله تعالى: يا محمد (منَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (10).
وأنزل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (11).
2- الإيهام في عود الضمير: وهو أن يُوهم المُناظر في إرجاع الضمير بحيث يختلط الأمر على الخصم.
يقال: إنّ معاوية أمر صعصعة بن صوحان أن يرقى المنبر ويلعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فرقى المنبر وقال: إنّ معاوية أمرني أن ألعن علياً فالعنوه (12).
ونُقل في أحوال ابن الجوزي، وكان حنبلي المذهب ولكنه اتهم بالتشيع، فسُئل عن مذهبه يوما وهو على المنبر وتحته جماعة من مماليك الخليفة وخاصته، وهم فريقان سنة وشيعة، فقيل له: من أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي (عليه السلام) أو أبو بكر؟ فقال: أفضلهما بعده من كانت ابنته تحته.
فأوهم الحاضرين ولم يعرفوا مذهبه، فقالوا: نسأله غير هذا، فقالوا: كم الخلفاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فصاح: أربعة، أربعة، أربعة، إيماء إلى الأئمة الاثني عشر (13).
3- التعميم غير الصحيح: كأن يُعمّم الإنسان الأمر على الكل من خلال استقراء ناقص: ومثاله أن يحكم المُناظر على طائفة كاملة بالفساد لفساد بعض رجالها، كأن يقول: النُحاة فاسدون والحال أنّ بعضهم يكون فاسداً.
3- عدم الترابط: كأن يقول المناظر: عمّار يسكن في عمارة كبيرة، إذاً عمّار يعيش في شقّة كبيرة. ومن الواضح أنه لا ترابط بين الاثنين.
4- التحريف: وهي أن يغيّر أو يضعّف ادّعاء الشخص ليكون من السهل انتقاده، ويتم هذا التشويه أو التحريف إمّا بقصد أو بدون قصد ولكن طريقته تعتمد على المُبالغة، أو تشويه، أو اختلاق حجّة بل أحيانا يعتمد على سوء فهم الحجّة. ومن ثم يتم الهجوم على الحجّة البديلة بشكل أسهل من موقع يؤهّل لكسب المُناظرة العقلانيّة عن طريقة طرح بديل أكثر عقلانيّة. لكن هذا المكسب الظاهري هو نوع من التضليل ويضعف النقاش العقلاني الصحيح والصادق. وتكون نتائجه وخيمة وسيّئة لكل من يسعى إلى الوصول إلى أفضل وأكثر الحلول عقلانيّة.
5- خلط الارتباط بين الأسباب: كما خلط كثير من العامة بين المعاصي وعدالة الصحابة، حيث جوزوا لهم المعاصي بل وأثبتوها ومنها الكبائر ومع قالوا بعدالتهم بدعوى عدم الارتباط بين المعاصي والعدالة.
6- انتقاء الشواهد التي تدعمه وترك ما يخالف رأيه: كما هو الحال لدى كثير من العامة في قضية الغار حيث إنهم تمسكوا باصطحاب الرسول أبي بكر واعتبروها دليلاً على أفضليته دون أن يتعرضوا للسبب الذي جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) يصطحبه معه، وهل أن اصطحابه إياه فضيلة أصلا أو لا؟
7- غضّ الطرف عن الاستثناءات: كأن يقول المُناظر للخصم: أنت شاعر، والشعراء يتبعهم الغاوون وهم في كل واد يهيمون، فأنت غاوي وفي كل واد تهيم.
8- التصديق بالتالي: وهو أن يستنتج ويرتب التالي حسب برهان غير تام: وكمثال على ذلك تصديق العامة واعتقادهم بخلافة الخلفاء الثلاثة ببراهين مزيفة ومنها اقتضاء المصلحة، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت فيه دعابة وغيرها من البراهين الواضحة البطلان.
أجزاء المغالطة الخارجية
وعادة ما يستفيد من هذا النوع من المغالطة هم الضعفاء ممّن ليست لهم القدرة على المناظرة العلمية، وهذا النوع من المغالطة على أقسام منها:
1- السؤال المشحون أو المُركّب: وهذا النوع من المُغالطة يُعد تكتيكاً يعمد المُغالط من خلاله إلى دسّ فروض لا يلتزم بها الخصم كأن يقول له: هل توقّفت عن تضليل الناس؟
فإنّ الخصم أمام هكذا مغالطة يجد نفسه أمام محذورين، فإمّا يقول: توقّفت أو مازلت أُبلّغ الناس، وفي الحالين فهو قد التزم بأنّه يُضل الناس.
2- مُغالطة الحجّة الشخصيّة: وتُسمّى بالنقد الشخصي أو (الشخصنة)، وهي أن ينتقد الشخص صاحب الإدّعاء بأمور شخصيّة خاصة بدلاً من إبراز الرأي، ويسعى إلى إمالة الرأي في المُناظرة وكسبها والتضليل.
3- التشنيع: وهي أن يشنّع المُناظر على الطرف المقابل ويحقّر رأيه كأن يقول له: المطلب أدق من أن يستوعبه أمثالك.
4- التكذيب: وهو أن يكذّب المُناظر الطرف المقابل ويرمي آرائه بالكذب حتى لو كانت من المُسلّمات، وهذا النوع من المغالطة كانت الأمم السابقة تعتمد عليه كثيراً في مناظراتها مع رسلهم وإلى ذلك يشير قوله تعالى (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ) (14).
5- استعمال الكلمات المُغلقة: وهي أن يستعمل المناظر عبارات مغلقة ومبهمة لدى الطرف المقابل تجعله يعجز عن الجواب.
موضوع المُناظرة
المُراد من موضوع المُناظرة هو ماتجري فيه المُناظرة أي ما يكون محل البحث والنقاش ويُسمّى القضيّة لأنّه يحتوي على نسبة خبرية تحتمل مطابقة الواقع وعدمه، ويدور البحث والاختلاف والمناقشات والاستدلال بين الخصمين عليها.
وأمّا الإنشاء- مثل أُكتب، وادرس، واللفظ المُفرد مثل زيد، والمُركب مثل غلام زيد- فلا تجري المُناظرة فيه لعدم وجود النسبة الخبريّة، نعم المُناظرة لا تنحصر بالنسبة الخبرية فقد تقع في غيرها مثل التعاريف لاحتوائها على قضيّة.
مثال على ذلك: في تعريف الإنسان يقال: حيوان ناطق.
فهذا اللفظ مركّب ناقص ليس فيه إسناد أو نسبة لأنّه موصوف وصفة، والمُفترض أن لا تقع فيه المُناظرة، إلا أنّهم قالوا: إنّ الطرف لمّا يذكر التعريف فهو يدّعى فيه أكثر من دعوى منها:
1- أنّ هذا التعريف جامع وهذه قضيّة، أي مركب خبري لاحتوائها على موضوع ومحمول.
2- أنّ هذا التعريف مانع.
فيقع التناظر في هذه الدعاوى كأن يقول طرف: لا أُسلّم بأنّ هذا التعريف صحيح لأنّه غير جامع أو غير مانع، أو لأنّه ليس بأجلى من المُعرّف.
وعليه فموضوع المُناظرة هو القضيّة، والمُناظرة في التعاريف هو لاستلزامها قضيّة ونسبة ما.
وكلمّا كان موضوع المناظرة مهماً كانت ازدادت أهمية المناظرة كأن يتناظران في العقائد أو الأحكام أو الأخلاق أو الأفكار.
يقول الشهيد الثاني (رحمه الله) في شرائط المناظرة: أن يناظر في واقعة مهمّة أو في مسألة قريبة من الوقوع وأن يهتم بمثل ذلك والمهم أن يُبيّن الحق ولا يطول الكلام زيادة على ما يحتاج إليه في تحقيق الحق.
ولا يغتر بأن المُناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر وملكة الاستدلال والتحقيق كما يتفق ذلك كثيرا لقاصدي حظ النفوس من إظهار المعرفة فيتناظرون في التعريفات وما تشتمل عليه من النقوض و التزييفات و في المغالطات و نحوها و لو اختبر حالهم حق الاختبار لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار (15).
مقوّمات المُناظرة
تتقوّم المُناظرة بشيئين أساسيين:
1- السؤال والجواب وتبعاً لهما فإنّ المُناظرة لاتتحقّق إلا بسائل ومُجيب.
2- موضوع تجري حوله المُناظرة، مثل وجود الصانع لهذا الكون، أو النبوة، أو الإمامة وغيرها من المواضيع.
أقسام السؤال
السؤال في المُناظرة على أقسام:
1- السؤال المُباشر: وهو أن يطرح المُناظر سؤاله حول محور الخلاف مباشرة ويتجنّب اللفّ والدوران وهذه الطريقة مطلوبة في بعض الأحيان وأخصر إلى المطلوب ولكنّها عادة ما تولّد حاجزاً من الانفعال لدى الطرف المقابل.
يقال: إنّ أحد علماء المعتزلة يُدعى بمعروف الكُتبي سأل الشيخ المُفيد (رحمه الله)، فقال: ما الدليل على فساد إمامة أبي بكر؟
فقال الشيخ المُفيد (رحمه الله): الأدلة على ذلك كثيرة، فأنا أذكر لك منها دليلاً يقرُب من فهمك، وهو أنّ الأمّة مجتمعة على أنّ الإمام لا يحتاج إلى إمام، وقد أجمعت الأمّة على أنّ أبا بكر قال: ولّيتكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتّبعوني، وإن اعوججت فقوّموني، فاعترف بحاجته إلى رعيّته وفقره إليهم في تدبيره، ولاخلاف بين ذوي العقول أنّ من احتاج إلى رعيّته فهو إلى الإمام أحوج، وإذا ثبتت حاجة أبي بكر إلى الإمام بطُلت إمامته بالإجماع المُنعقد على أنّ الإمام لا يحتاج إلى الإمام (16).
2- السؤال غير المباشر: كأن يقول: سأل البعض، أو يتساءل الكثير، أو سئلت ذات مرّة، وهكذا، وأحياناً يقتضي الأمر أن يسأل المُناظر عن أمور بعيدة جداً عن المحتوى المطلوب ثم يتسلسل بالتسائل حتى يصل إلى المطلب المراد السؤال عنه.
روي: أنّ فضّال بن الحسن بن فضّال الكوفي مرّ بأبي حنيفة وهو في جمع كثير، يُملي عليهم شيئاً من فقهه وحديثه، فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة.
فقال صاحبه الذي كان معه: إنّ أبا حنيفة ممّن قد علمت حاله، وظهرت حجّته.
قال: صه! هل رأيت حجة ضال علت علي حجة مؤمن؟!
ثم دنا منه فسلّم عليه، فردّ وردّ القوم السلام بأجمعهم، فقال: يا أبا حنيفة إنّ أخا لي يقول: إنّ خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنا أقول أبو بكر خير الناس وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك الله؟
فأطرق مليّاً ثم رفع رأسه، فقال: كفى بمكانهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرماً وفخراً، أما علمت أنّهما ضجيعاه في قبره، فأيّ حجّة تريد أوضح من هذا؟
فقال له فضّال: إنّي قد قلت ذلك لأخي، فقال: والله لئن كان الموضع لرسول الله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما حق فيه، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد أساءا وما أحسنا، إذ رجعا في هبتهما، ونسيا عهدهما.
فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنّهما نظرا في حق عايشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما. فقال له فضّال: قد قلت له ذلك، فقال: أنت تعلم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) مات عن تسع نساء، ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة بنته تمنع الميراث؟!
فقال أبو حنيفة: يا قوم نحّوه عني فإنّه رافضي خبيث (17).
3- السؤال الاستدراجي: كأن يستدرج المُناظر خصمه في سؤالاته ويجعله يُقرّ بما يُريد ثم يوقعه في شراكه ويواجهه بالسؤال المطلوب.
يقول يونس بن يعقوب: كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام ابن سالم، والطيّار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟
فقال هشام: يا ابن رسول الله إنّي أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أمرتكم بشيء فافعلوا.
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء مُتزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: أيّها العالم إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟
فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟
فقال: يا بني أيّ شي هذا من السؤال؟
وشيء تراه كيف تسأل عنه؟
فقلت: هكذا مسألتي.
فقال: يا بنيّ سل وان كانت مسألتك حمقاء.
قلت: أجبني فيه.
قال لي: سل.
قلت: ألك عين؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص.
قلت: فلك أنف؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع به؟
قال: أشم به الرائحة.
قلت: ألك فم؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع به؟
قال: أذوق به الطعم.
قلت: فلك اُذن؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع بها؟
قال: أسمع بها الصوت.
قلت: ألك قلب؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع به؟
قال: أميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.
قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
فقال: لا.
قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟
قال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمته أورأته أو ذاقته أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك.
قال هشام: فقلت له: فإنّما أقام الله القلب لشك الجوارح؟
قال: نعم.
قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟
قال: نعم.
فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتيقّن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟!
قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً، ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟
فقلت: لا.
قال: أمن جلسائه؟
قلت: لا.
قال: فمن أين أنت؟
قال: قلت: من أهل الكوفة.
قال: فأنت إذا هو، ثم ضمّني إليه، وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: يا هشام من علمك هذا؟
قلت: شيء أخذته منك وألفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى (18).
4- السؤال الاستنكاري: وهو يسأل المُناظر خصمه باستنكار واعتراض كأن يقول: هل يُعقل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان حريصاً على أمته يموت دون أن يوصي لأحد وهو القائل: من مات ولم يوص مات ميتة جاهلية؟!
أو يقول في شهادة الزهراء (عليه السلام): هل يعقل أنّ فتاة في الثامنة عشرة من العُمر تموت من دون أيّة علّة؟
5- السؤال النقضي: النقض هو إلزام الطرف بما يلتزم به كأن ينقض على الطرف بقوله: ألستم تنقولون في صحيح مصادركم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية؟ (19).
فيا ترى من كان إمام زمان فاطمة الزهراء (عليها السلام) أيعقل أن يكون أبو بكر والحال أنّها ماتت واجدة عليه؟!
أو أن يقول: ألستم تروون في أصح مصنّفاتكم عن سمرة، قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، يقول: >لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشرة خليفة، ثمّ قال كلمة لم أفهمها.
قال: قلت لأبي: ما قال؟
فقال: كلّهم من قريش (20).
فياترى من هم هؤلاء الأئمة؟!
وصايا إلى السائل
ينبغي للسائل أن يراعي عدّة أمور خلال المُناظرة ومنها:
1- أن يستمد المُناظر العون من الله في بيان الحق وقبول جهد المُناظرة ويسأله الوصول إلى الحق واتباعه، ففي دعاء مكارم الأخلاق ورد: اللهم صلّ على محمد وآله، واجعل لي يداً على من ظلمني ولساناً على من خاصمني وظفراً بمن عاندني (21).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي اليقظان: ادع بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك برحمتك… أسألك السعة في الرزق والزهد في الكفاف والمخرج بالبيان من كل شبهة والصواب في كل حجة والصدق في جميع المواطن (22).
2- أن يتجنّب إحساس الطرف المقابل بما يُريد من أسئلته بل يلف به ويدور بحيث يشغله في تساؤلاته عن المطلوب.
3- أن لا يرتّب أسئلته بشكل تجعل الخصم يشعر بالمُراد.
4- أن يدوّن أسئلته مُسبقاً ويتأمّل فيها جيّداً ويحرص قدر الإمكان أن لا يرتجل أسئلته ارتجالاً.
أقسام الجواب
كما قُسّم السؤال إلى أقسام كذلك الجواب فيه أقسام ومنها:
1- الجواب المُباشر: بحيث يُجيب المُناظر مباشر من دون أيّ مرواغة أو تمهيد مقدّمات، كأن يُجيب سؤال من يقول: هل لديكم دليل على أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) نص على الإمام علي (عليه السلام)؟
فيقول: نعم (حديث الدار) الذي رواه عبد الله بن عباس، عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: (لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (23) دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا علي، إنّ الله يأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتّ عليها، حتى جاءني جبرئيل، فقال لي: يا محمد إلا تفعل ما تُؤمر يُعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسّا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتّى أبلغهم ما أمرت به.
ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً، أو يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب.
فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئتهم به، فلمّا وضعته، تناول رسول الله (صلى الله عليه وآله) جذبة من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وأيم الله أن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم.
ثم قال: إسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله أن كان الرجل الواحد منهم يشرب مثله.
فلمّا أراد رسول الله أن يكلّمهم بدره أبو لهب، فقال: سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال في الغد: يا علي، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم، فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعت، فدعاني بالطعام فقرّبته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بني عبد المطلب، إنّي قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟
فأحجم القوم عنها جميعاً.
فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: يا نبي الله، أكون وزيرك عليه.
قال: فأخذ برقبتي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع (24).
2- الجواب الإسكاتي: وهو أن يجيب المُناظر لا لكي يدفع استفهامه بل لكي يسكته فقط، عن أبيالصلت الهروي، قال: قال المأمون يوماً للرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن أخبرني عن جدّك أمير المؤمنين بأيّ وجه هو
قسيم الجنة والنار، وبأي معنى فقد كثر فكري في ذلك؟
فقال له الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد الله بن عباس أنّه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: حب علي إيمان وبغضه كفر؟
فقال: بلى. فقال الرضا (عليه السلام): فقسمة الجنّة والنار إذا كانت على حبّه وبغضه فهو قسيم الجنة والنار، فقال المأمون: لا أبقاني بعدك يا أبا الحسن أشهد أنّك وارث علم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال: أبو الصلت الهروي: فلمّا انصرف الرضا (عليه السلام) إلى منزله أتيته فقلت له: يا بن الله ما أحسن ما أجبت به أمير المؤمنين؟
فقال الرضا (عليه السلام): يا أبا الصلت إنّما كلّمته حيث هو ولقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن علي (عليه السلام) أنّه قال: قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي أنت قسيم الجنّة يوم القيامة تقول للنار: هذا لي وهذا لك (25).
3- الجواب الاستدراجي: وهو أن يستدرج المُناظر في جوابه ويقدّم بمقدّمات حتى يصل إلى الجواب والمراد الحقيقي، كأن يقول: هل تقبل أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ؟
وبعد أخذ الإقرار بذلك يقول: وهل تسلّم أنّ البخاري هو أصح الكتب عندكم؟
ثم يقول: نفس البخاري الذي هو أصح كتبكم يروي عن عمر أنّ خلافة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها (26).
ثم يلزمه بنتيجة إقراره وهي: أنّ خلافة أبي بكر باطلة بأصح كتبكم وبإقرار الخليفة الثاني، ولا يخفى أنّ خلافة عمر بوصيّة من أبي بكر فهي أيضاً فاسدة، وخلافة عثمان بالشوري التي جعلها عمر، فيتضح من الحديث الذي في البخاري فساد خلافة الثلاثة.
4- الجواب التمويهي: وهو أن لا يُجيب المُناظر سؤال السائل بل يموّه عليه ويورّي.
ينقل أنّه وشي البعض الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى خليفة الوقت العباسي (أحمد) أنّه هو وأصحابه يسبّون الصحابة، وكتابه المصباح يشهد بذلك، فقد ذكر أن من دعاء يوم عاشوراء: – اللهم خص أنت أول ظالم باللعن منّي وابدأ به أولاً ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، اللهم العن يزيد بن معاوية خامساً.
فدعا الخليفة بالشيخ والكتاب، فلمّا أحضر الشيخ ووقف على القصّة ألهمه الله أن قال: ليس المراد من هذه الفقرات ما ظنّه السعاة بل المراد بالأول قابيل قاتل هابيل وهو أول من سن الظلم والقتل، وبالثاني قيدار عاقر ناقة صالح، وبالثالث قاتل يحيى ابن زكريا من أجل بغي من بغايا بني إسرائيل، وبالرابع عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب. فلما سمع الخليفة من الشيخ تأويله وبيانه قبل منه ذلك ورفع منزلته، وانتقم من الساعي وأهانه (27).
5- الجواب المبنائي: وهو أن يُجيب جواباً لا يعتقد به ولكن لكي يخصم المُناظر يجيبه على مبناه، يقال: إنّ السيّد شرف الدين لمّا زار القاهرة وأُقيم هناك مهرجان عظيم جاءته بنت الشاطئ ومدّت يدها لتصافحه، ولكي لا يُحرجها ولايقع في الحرام أجابها قائلاً: عفواً أنا متوضّئ.
أو أن يقول كما قال البهائي لما سئل لماذا تسبون الصحابة: فقال: أقتدينا بالصحابة أنفسهم، ألستم تروون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم؟
فنحن اقتدينا بالصحابة أنفسهم حيث كان يسب بعضهم البعض بل ويقتل بعضهم البعض (28).
6- الجواب المُقدّماتي: وهو أن يذكر المُناظر مقدّمات مختلفة توصل الطرف إلى الحقيقة، كأن يُجيب إشكال من يقول إنّ الله غير موجود لأنّني لا أراه، فيقول:
المقدمة الأولى: أتؤمن بأنّ هناك بعض الأشياء موجودة ولكنّنا لا نراها؟
وبعد أن يقر الطرف المقابل بذلك ينتقل إلى المرحلة الثانية قائلاً:
المقدمة الثانية: هل أنّ عدم رؤيتنا للأشياء تلازم عدم وجودها؟
وبعد أن يقر الطرف المقابل بأنّ عدم رؤيتنا للأشياء لا يلازم عدم وجودها يقول:
المقدّمة الثالثة: نحن لم نصل إلى المريخ وبعض الكواكب الأخرى فلربما كان الله موجوداً هناك.
ثم يجيبه على سؤاله فيقول: أنت تقرّ بأنّك لم تذهب إلى المريخ كي ترى ماهو موجود فيه، وتقرّ أنّ وجود الشيء لايلازم رؤيته، فكيف تقول لو كان الله موجوداً لرأيناه؟!
6- الجواب التعريضي: وهو أن يُجيب المُناظر على سؤال الخصم ولكن من خلال التعريض بأمر له ربط بالجواب.
يقال: إنّ أبا حنيفة قال لمؤمن الطاق ذات يوم: لم لم يطالب علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحقّه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن كان له حق؟
فأجابه مؤمن الطاق قائلاً: خاف أن تقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة بسهم المغيرة بن شعبة (29).
وفي قصة العلامة الحلي (رحمه الله) مع حاكم إيران الملك خدابنده الذي طلّق زوجته واستدعى العلامة في مجلسه..
ولمّا دخل العلامة المجلس -وكان علماء المذاهب- مجتمعين- وكان قد تأبط نعليه وجلس الى جوار الملك، فسخر علماء المذاهب منه، وقالوا للمك: ألم نقل لك بأنّ الرافضة ليست لديهم آداب؟
فأخذ العلامة يعرّض بهم وبمذاهبهم، وقال: خشيت أن تسرقوا نعليّ كما سرق أبو حنيفة نعلي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فضجّوا بالضحك والاستهزاء، وقالوا: أين أبو حنيفة من رسول الله، فإن بينهما فاصلة زمنية طويلة؟
فقال العلامة: اعتذر كما سرقها أحمد بن حنبل، فعاودوا الضحك والسخرية.
فقال العلامة: اعتذر كما سرقها مالك.
فضحكوا أيضا، فقال العلامة: كما سرقها الشافعي.
فضحكوا أيضا، فاستغل العلامة الفرصة ووجه إليهم صفعة موجعة بقوله: أنتم تقرّون بألسنتكم أنّ هؤلاء بعيدون كل البعد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع ذلك تتلقّون أمور دينكم منهم، وتعيبون علينا أخذنا ديننا من علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
وكانت تلك المناظرة سبباً لتشيّع الملك.
7- الجواب الحصري: وهو أن يحصر المُجيب الردّ على سؤال السائل باحتمالات ثم يفنّدها ممّا يجعل السائل يجد نفسه أمام خيار واحد وهو مُختار الطرف المقابل، ومن ذلك ما ورد عن هشام بن الحكم في ردّ الوجوه لعدم عصمة الإمام (عليه السلام) قال: إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد، والغضب، والشهوة، فهذه منفيّة عنه، فلا يجوز أن يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه، لأنّه خازن المسلمين، فعلى ماذا يحرص؟
ولا يجوز أن يكون حسوداً، لأنّ الإنسان إنّما يحسد من هو فوقه، وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه؟
ولا يجوز أن يغضب لشيء من أمور الدنيا، إلا أن يكون غضبه لله عز ّوجلّ، فإن الله عزّ وجلّ قد فرض عليه إقامة الحدود، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود الله عزّ وجل، ولا يجوز أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة، لأنّ الله عزّ وجلّ حبب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح، وطعاماً طيباً لطعام مرّ، وثوباً ليّناً لثوب خشن، ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟ (30).
وصايا إلى المُجيب
مقابل السائل الذي عادة ما يلتزم جانب الهجوم والتسائل يأتي دور المُجيب الذي يذود عن مبادئه ورؤاه وعادة ماتكون مهمة المجيب أصعب من السائل لأن يلتزم الدفاع والبرهنة على مدعاه بخلاف السائل الذي يهاجم ويلقي التساؤلات.
ولا بد للمُجيب أن يُراعي أمور أثناء المُناظرة ومنها:
1- الإلمام والمعرفة بالموضوع المطروح للمناظرة قبل دخول في المناظرة.
2- التمييز بين نقل القول والاعتقاد: فلا بد أن يميّز المُجيب بين ما يطرحه السائل كأقوال وشواهد وبين مُعتقده ويركّز على معتقداته ولا ينشغل كثيراً بالأقوال التي ينقلها، فقد ينقل هذه الأقوال وهو لايعتقد بها.
3- أن لا يفسح المجال للسائل كي يسترسل بطرح تساؤلاته ويظهر للملأ على أنّه المُنتصر بل عليه أن يتوقّف عند كل سؤال ويُجيب عليه ملياً ثم يسمح له بالتساؤلات البقيّة.
4- أن لاتثيره تساؤلات السائل وتقوده إلى الانفعال والغضب بل عليه أن يقابل تساؤلاته بكل هدوء ويسمح له بطرح تساؤلاته بكل حرية ويفكر ملياً بالجواب عليها بالتي هي أحسن.
(1) رجال الكشي: 2/638.
(2) تصحيح الاعتقادات: 71.
(3) رجال الكشي: 2/424.
(4) سورة يس: 77-81.
(5) سورة القلم: 35-36.
(6) سورة الروم: 28.
(7) شرح الإلهيات من كتاب الشفاء للنراقي: 1/196.
(8) آشنائي باعلوم اسلامي ج1 (منطق وفلسفة): 137-139.
(9) سورة البقرة: 104.
(10) سورة البقرة: 104.
(11) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 478.
(12) الغارات: 2/888.
(13) بحار الأنوار: 104/17.
(14) سورة المؤمنون: 44.
(15) منية المريد: 313.
(16) الفصول المختارة: 25.
(17) الاحتجاج: 2/149.
(18) الكافي: 1/169-171.
(19) مسند أحمد: 4/96.
(20) صحيح البخاري: 6/2640.
(21) الصحيفة السجادية: 94 دعاؤه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق.
(22) الكافي: 2/592.
(23) سورة الشعراء: 214.
(24) معالم التنزيل: 4/278-279.
(25) عيون أخبار الرضا×: 2/92.
(26) صحيح البخاري: 4/ 179/ باب رجم الحبلى من الزنا.
(27) الاستبصار: 1/16.
(28) قصص العلماء للتنكابني: في أحوال الشيخ البهائي (رحمه الله).
(29) بحار الأنوار: 47/399.
(30) أمالي الصدوق: 732.
رابط المصدر: