دعت منظمة الصحة العالمية الجمعة بلدان العالم كافة إلى زيادة استثماراتها في مجال الصحة النفسية، مؤكدة أن “المعاناة هائلة” على هذا الصعيد وقد تفاقمت بفعل جائحة كوفيد-19.
وحتى قبل بدء الجائحة، كان حوالى مليار شخص في العالم يعانون نوعا من الاضطرابات النفسية، وفق ما أعلنت الوكالة التابعة للأمم المتحدة في دراسة هي الأوسع لها بشأن الصحة الذهنية حول العالم استغرق إعدادها عقدين من الزمن.
وخلال السنة الأولى من الجائحة، ازدادت نسب الإصابة بالاكتئاب والقلق بواقع الربع.
لكن الاستثمارات اللازمة للتصدي لهذه الحالات لم تشهد أي ازدياد، إذ إن 2% فقط من الميزانيات الوطنية للصحة وأقل من 1% من إجمالي المساعدات الدولية على قطاع الصحة مخصصة للصحة النفسية، وفق تقرير منظمة الصحة العالمية.
وقال مارك فان أوميرين من قسم الصحة النفسية في منظمة الصحة العالمية، خلال مؤتمر صحافي إن “كل هذه الأرقام متدنية للغاية”، لافتا إلى أن هذا التقرير يعكس إلى أي مدى “المعاناة هائلة” حول العالم.
ولفت التقرير إلى أن شخصا من كل ثمانية أشخاص في العالم تقريبا يعاني اضطرابا ذهنيا.
وهذا الوضع أسوأ للأشخاص الذين يعيشون في مناطق النزاع، حيث تشير التقديرات إلى أن شخصا من كل خمسة يعاني مشكلة في الصحة النفسية.
وقد تضرر الشباب والنساء والأشخاص الذين يعانون أصلا مشكلات في الصحة العقلية، بدرجة أكبر جراء تبعات الجائحة والقيود المترتبة عنها، وفق فان أوميرين.
وسلط “التقرير العالمي بشأن الصحة العقلية” الضوء أيضا على الفروق الشاسعة بين البلدان على صعيد النفاذ إلى الرعاية الطبية اللازمة على صعيد الصحة النفسية: ففي حين أكثر من 70% من الأشخاص الذين يعانون حالات ذهان يحصلون على علاج في البلدان المرتفعة الدخل، لا تتخطى نسبة هؤلاء 12% في البلدان ذات الدخل المنخفض، بحسب فان أوميرين.
ودعا المسؤول في منظمة الصحة العالمية إلى إنهاء الوصمة السلبية للمصابين بمشكلات نفسية، موضحا أن 20 بلدا في العالم لا تزال تجرّم محاولات الانتحار.
وإذ ذكّر بأن محاولة انتحار واحدة من كل عشرين تنتهي بالوفاة، أشار فان أوميرين إلى أن الانتحار لا يزال السبب في أكثر من 1% من الوفيات في العالم.
وفي عام 2019، بلغ عدد الأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية حول العالم مليار شخص، من بينهم 14% من مراهقي العالم. وكان الانتحار السبب وراء أكثر من وفاة واحدة من كل 100 وفاة، في حين تركزت نسبة 58% من الوفيات الناجمة عن الانتحار بين أشخاص تقل أعمارهم عن 50 عاماً. وتشكّل الاضطرابات النفسية السبب الرئيسي للإعاقة، حيث تقف وراء سنة واحدة من كل ست من سنوات العيش مع الإعاقة. ويموت الأشخاص المصابون باضطرابات صحية نفسية شديدة قبل عموم السكان بما معدله 10 سنوات إلى 20 سنة، بسبب أمراض بدنية يمكن الوقاية منها غالباً. ويشكّل الاعتداء الجنسي والتعرّض للتنمر في مرحلة الطفولة سببين رئيسيين للاكتئاب. كما تشكّل عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية وطوارئ الصحة العامة والحرب وأزمة المناخ تهديدات هيكلية عالمية للصحة النفسية. جائحة كوفيد-19 تسبب زيادة بنسبة 25% في معدلات انتشار القلق والاكتئاب في العالم.
وتتفشى ممارسات الوصم والتمييز وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الأشخاص المصابين بحالات الصحة النفسية في المجتمعات المحلية ونُظم الرعاية في كل مكان، حيث لا تزال محاولات الانتحار تعدّ جريمة في 20 بلداً. وفي مختلف البلدان، تتعرّض الفئات الأفقر والأكثر حرماناً في المجتمع لمخاطر اعتلال الصحة النفسية أكثر من غيرها في حين تتدنى أيضاً فرص حصولها على الخدمات الملائمة والكافية على الأرجح.
وحتى قبل جائحة كوفيد-19، لم تكن خدمات رعاية الصحة النفسية الفعالة والجيدة والميسورة التكلفة متاحةً إلا لنسبة صغيرة ممن يحتاجون إليها. فعلى سبيل المثال، تفتقر نسبة 71% من المصابين بالذهان حول العالم إلى خدمات الصحة النفسية. وفي حين تصل نسبة المصابين بالذهان الذين يتلقون العلاج في البلدان المرتفعة الدخل إلى 70%، فإن النسبة المقابلة لها في البلدان المنخفضة الدخل لا تتجاوز 12%. أما بالنسبة للاكتئاب، فإن الفجوة في التغطية العالمية واسعة في جميع البلدان، فحتى في البلدان المرتفعة الدخل لا يحصل على خدمات رعاية الصحة النفسية الرسمية سوى ثلث المصابين بالاكتئاب، وتشير التقديرات إلى تفاوت نسب من يتلقون علاجاً مناسباً في الحد الأدنى للاكتئاب بين 23% في البلدان المرتفعة الدخل و3% في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
ويستند تقرير المنظمة الشامل إلى آخر البيّنات المتاحة، ويعرض أمثلة على أفضل الممارسات، ويعكس التجارب الحقيقية للأشخاص، مسلطاً الضوء على كيف وأين يلزم إحداث التغيير وأفضل السبل لتحقيقه. كما يدعو أصحاب المصلحة إلى العمل معاً لتعميق القيمة المعطاة للصحة النفسية وترسيخ الالتزام بها، وإعادة تشكيل البيئات التي تؤثر عليها وتعزيز النُظم التي تقدم الرعاية لصحة الأفراد النفسية.
وفي هذا الصدد، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس أدحانوم غيبريسوس، إن “حياة كل أحدٍ تلامس حالة الصحة النفسية لشخص ما. والصحة النفسية الجيدة تنعكس في الصحة البدنية الجيدة، وهذا التقرير يقدم أدلة دامغة على ضرورة إحداث التغيير. فالروابط الوثيقة بين الصحة النفسية والصحة العامة وحقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية الاقتصادية تعني أن إحداث تحوّل في سياسات وممارسات الصحة النفسية من شأنه أن يعود بمنافع جوهرية حقيقية على الأفراد والمجتمعات المحلية والبلدان في كل مكان. فالاستثمار في الصحة النفسية هو استثمار في حياة أفضل ومستقبل أفضل للجميع”.
وقد صادقت جميع الدول الأعضاء، وعددها 194 دولة، على خطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030، التي تلزمها بغايات عالمية لإحداث تحوّل في الصحة النفسية. ويدلّ التقدم الذي أُحرز في بعض الأماكن خلال العقد الماضي على إمكانية إحداث هذا التغيير. غير أن التغيير المنشود لا يحدث بالسرعة الكافية ولا تزال الصحة النفسية تشكو من العوز والإهمال، حيث يُخصص 2 من كل 3 دولارات من الإنفاق الحكومي الشحيح على الصحة النفسية لمستشفيات الطب النفسي القائمة بذاتها، بدلاً من إنفاقها على خدمات الصحة النفسية المجتمعية التي تقدم للأفراد خدمات أفضل. وما زالت الصحة النفسية من أبرز مجالات الصحة العامة المهملة منذ عقود من الزمن، إذ لا تحظى سوى بقدر ضئيل من الاهتمام والموارد التي تحتاجها وتستحقها.
ووجّهت ديفورا كيستل، مديرة الصحة النفسية وتعاطي مواد الإدمان، نداء من أجل التغيير قائلةً “لدى كل بلد فرصة سانحة لإحراز تقدم ملموس نحو النهوض بالصحة النفسية لسكانه. وسواء كان ذلك من خلال وضع سياسات وقوانين أقوى في مجال الصحة النفسية، أو إدراج الصحة النفسية في مخططات التأمين الصحي، أو استحداث خدمات الصحة النفسية المجتمعية أو تعزيزها، أو إدماج الصحة النفسية في الرعاية الصحية العامة والمدارس والسجون، فإن الأمثلة العديدة التي يسردها هذا التقرير تُظهر أن التغييرات الاستراتيجية من شأنها أن تحُدث فرقاً كبيراً”.
ويحث التقرير جميع البلدان على تسريع وتيرة تنفيذ خطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030. ويقدم توصيات عديدة للعمل مصنفة ضمن ثلاثة “مسارات للتحوّل” ينصبّ تركيزها على إحداث نقلة نوعية في المواقف من الصحة النفسية، والتصدي للمخاطر التي تواجه الصحة النفسية، وتعزيز نُظم رعايتها. وتتمثل مسارات التحوّل الثلاثة في التالي:
1- تعميق القيمة التي نعطيها للصحة النفسية وترسيخ الالتزام بها. ويشمل ذلك على سبيل المثال ما يلي:
– زيادة الاستثمارات في الصحة النفسية. ولا يقتصر ذلك على تأمين الأموال والموارد البشرية المناسبة في قطاع الصحة وغيره من القطاعات لتلبية احتياجات الصحة النفسية، وإنما يشمل أيضاً الالتزام القيادي وتبنّي السياسات والممارسات القائمة على الأدلة، وإنشاء نُظم قوية للرصد والمعلومات.
– إشراك الأفراد المصابين بحالات صحة نفسية في جميع مجالات المجتمع وعمليات صنع القرار للتغلب على مواقف الوصم والتمييز، والحد من أوجه التفاوت وتعزيز العدالة الاجتماعية.
2- إعادة تشكيل البيئات المؤثرة على الصحة النفسية، بما في ذلك المنازل والمجتمعات المحلية والمدارس وأماكن العمل وخدمات الرعاية الصحية والبيئات الطبيعية: ويشمل ذلك على سبيل المثال ما يلي:
– تعزيز مشاركة جميع القطاعات لتحقيق أهداف من بينها فهم المحددات الاجتماعية والهيكلية للصحة النفسية، وبلورة تدخلات تحدّ من المخاطر وتبني القدرة على الصمود وتزيح الحواجز التي تحول دون مشاركة المصابين باضطرابات النفسية في المجتمع على أكمل وجه.
– تنفيذ إجراءات ملموسة لتحسين البيئات بما يعزز الصحة النفسية، من قبيل تشديد الإجراءات لمكافحة عنف الشريك الحميم والاعتداء وإهمال الأطفال وكبار السن، وتمكين رعاية التنشئة في مرحلة الطفولة المبكرة، ودعم إعالة الأفراد المصابين بحالات الصحة النفسية، ووضع برامج لتعلّم المهارات الاجتماعية والعاطفية والتصدي في الوقت ذاته لممارسات التنمر في المدارس، وإحداث نقلة نوعية في المواقف وتعزيز الحق في رعاية الصحة النفسية، وزيادة إتاحة المساحات الخضراء، وحظر المبيدات الحشرية الخطرة التي ترتبط بخُمس مجموع حالات الانتحار في العالم.
3- تدعيم رعاية الصحة النفسية من خلال تغيير أماكن وأساليب تقديم الرعاية وتلقيها والقائمين على تقديمها.
– بناء شبكات مجتمعية من الخدمات المترابطة التي تبتعد عن الرعاية الوصائية في مستشفيات الطب النفسي وتغطي الطيف الكامل من الرعاية والدعم من خلال توليفة من خدمات الصحة النفسية المدمجة في النظام العام للرعاية الصحية، وخدمات الصحة النفسية المجتمعية، والخدمات المقدمة خارج قطاع الصحة.
– تنويع وتعزيز خيارات الرعاية للاضطرابات النفسية الشائعة، مثل الاكتئاب والقلق، التي تمثل نسبة فائدتها إلى تكلفتها 5 – 1. ويشمل ذلك اعتماد نهج لتقاسم المهام يوسّع نطاق تقديم الرعاية القائمة على الأدلة لتشمل العاملين في مجال الصحة العامة ومقدمي الخدمات المجتمعية، بالإضافة إلى الاستفادة من التكنولوجيات الرقمية لدعم المساعدة الذاتية الموجّهة وغير الموجّهة وتقديم خدمات الرعاية عن بُعد.
المبادئ والعوامل المحفزة في مجال الصحة النفسية العامة
تشكل الصحة النفسية جزءاً لا يتجزأ من صحتنا العامة وعافيتنا وهي حق أساسي من حقوق الانسان. ويعني التمتع بالصحة النفسية أننا قادرون بشكل أفضل على التواصل والعمل والتأقلم والنجاح. وتكمن الصحة النفسية في سلسلة متصلة معقدة، تتخللها تجارب تتراوح من الحالة المثلى للعافية إلى الاعتلالات المنهكة التي تتسم بالمعاناة الشديدة والالم النفسي. ومن المرجح أن يعاني الاشخاص المصابون باعتلالات الصحة النفسية من انخفاض مستويات الصحة النفسية، ولكن هذا ليس هو الحال دائماً أو بالضرورة.
وقد تتحد، في أي وقت من الاوقات، مجموعة متنوعة من العوامل الفردية والاسرية والمجتمعية والهيكلية لحماية صحتنا النفسية أو تقويضها وتغيير موقعنا على مسار الصحة النفسية. وعلى الرغم مما يبديه معظم الناس من مرونة، فإن الاشخاص الذين يتعرضون لظروف غير مواتية -بما في ذلك الفقر والعنف وعدم المساواة- هم أكثر عرضة لخطر الاصابة باعتلالات الصحة النفسية. وقد تظهر المخاطر في جميع مراحل الحياة، ولكن تلك التي تحدث خلال الفترات الحساسة للنمو، ولاسيما مرحلة الطفولة المبكرة، تكون ضارة بوجه خاص. وتظهر عوامل الحماية بالمثل طوال حياتنا وتعمل على تعزيز المرونة. وهي تشمل أموراً منها مهاراتنا وسماتنا الاجتماعية والعاطفية الفردية بالاضافة إلى التفاعلات الاجتماعية الايجابية والتعليم الجيد والعمل اللائق والاحياء الآمنة والتماسك المجتمعي.
وبالنظر إلى أن العوامل التي تحدد الصحة النفسية هي عوامل متعددة القطاعات، فإنه ينبغي أيضاً تنفيذ التدخلات الرامية إلى تعزيز الصحة النفسية وحمايتها في قطاعات متعددة. وحينما يتعلق الامر بتوفير الرعاية، فسيكون من الضروري، بشكل مماثل، اتباع نهج متعدد القطاعات نظراً لأن الاشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية يحتاجون في أغلب الاحيان إلى خدمات وأوجه دعم تتجاوز العلاج السريري.
ويمكن العثور على المخاطر التي تهدد الصحة النفسية وعوامل حمايتها في المجتمع على مستويات مختلفة. وتزيد التهديدات المحلية من المخاطر التي يتعرض لها الافراد والاسر والمجتمعات المحلية. وتزيد التهديدات العالمية من المخاطر التي تتعرض لها فئات سكانية بكاملها ويمكن لها أن تبطئ التقدم نحو تحسين الرفاه على الصعيد العالمي. وفي هذا السياق، تشمل التهديدات الرئيسية القائمة اليوم ما يلي: الانكماش الاقتصادي والاستقطاب الاجتماعي؛ والطوارئ الصحية العامة؛ وحالات الطوارئ الانسانية الواسعة الانتشار والنزوح القسري؛ وأزمة المناخ المتنامية.
وترتبت على جائحة كوفيد-19 آثار عديدة من بينها حدوث أزمة عالمية على مستوى الصحة النفسية، مما أدى إلى تنامي الاجهاد على المديين القصير والطويل وتقويض الصحة النفسية لملايين البشر. وعلى سبيل المثال، تشير التقديرات إلى ارتفاع نسبة كل من القلق والاضطرابات الاكتئابية بأكثر من 25٪ خلال السنة الاولى من الجائحة. وفي الوقت نفسه، تعطلت خدمات الصحة النفسية بشدة واتسعت الفجوة العلاجية لاعتلالات الصحة النفسية.
الصحة النفسية في العالم اليوم
تنتشر اعتلالات الصحة النفسية انتشارً كبيراً في جميع البلدان. ويتعايش شخص واحد تقريباً من كل ثمانية أشخاص في العالم مع اضطراب نفسي ما. ويختلف انتشار الاضطرابات النفسية باختلاف النوع الاجتماعي والعمر. وتشكل اضطرابات القلق والاضطرابات الاكتئابية أكثر الاضطرابات شيوعاً لدى الذكور والاناث على حد سواء.
ويؤثر الانتحار على الناس وأسرهم من جميع البلدان والسياقات، وفي جميع الاعمار. وعلى الصعيد العالمي، قد تحدث 20 محاولة انتحار لكل حالة وفاة واحدة، ومع ذلك يمثل الانتحار أكثر من حالة واحدة من كل 100 حالة وفاة. ويشكل أحد الاسباب الرئيسية للوفاة في صفوف الشباب.
والاضطرابات النفسية هي السبب الرئيسي للسنوات التي يعيشها الشخص مع الاعاقة، وهو ما يمثل سنة واحدة من كل ستة سنوات على مستوى العالم. ويشكل الفصام، الذي يصاب به شخص واحد تقريباً من كل 200 شخص بالغ، مصدر قلق رئيسياً، ويكون في حالاته الحادة أكثر الاعتلالات الصحية تعويقاً. ويموت الاشخاص المصابون بالفصام أو غيره من اعتلالات الصحة النفسية الحادة في المتوسط قبل 10 إلى 20 عاماً من عامة السكان، وغالباً ما يكون ذلك بسبب أمراض جسدية يمكن الوقاية منها.
وبوجه عام، تكون العواقب الاقتصادية الناجمة عن اعتلالات الصحة النفسية هائلة. وغالباً ما تكون خسائر الانتاجية وغيرها من التكاليف غير المباشرة التي يتحملها المجتمع أكبر بكثير من تكاليف الرعاية الصحية. ومن الناحية الاقتصادية، يشكل الفصام أكثر الاضطرابات النفسية تكلفة للشخص الواحد في المجتمع. وتكون الاصابة بالاضطرابات الاكتئابية واضطرابات القلق أقل تكلفة بكثير للشخص الواحد؛ ولكنها أكثر انتشارً بكثير، وبالتالي فهي تساهم بشكل كبير في التكاليف الوطنية الاجمالية.
وبالإضافة إلى انتشار اعتلالات الصحة النفسية وتكلفتها الباهظة، فهي لا تحظى أيضاً والى حد بعيد بالخدمات الكافية. وتعتري نظم الصحة النفسية في جميع أنحاء العالم فجوات واختلالات كبيرة من ناحية المعلومات والبحوث والحوكمة والموارد والخدمات. وغالباً ما تُعطى الاولوية للحالات الصحية الاخرى على حساب الصحة النفسية؛ وفي حدود الميزانيات المخصصة للصحة النفسية، يعاني مجال الرعاية الصحية النفسية المجتمعية من نقص التمويل باستمرار. وترصد البلدان، في المتوسط، أقل من 2٪ من ميزانيات الرعاية الصحية للصحة النفسية. ولا يزال أكثر من 70٪ من الانفاق على الصحة النفسية في البلدان المتوسطة الدخل مخصصاً لمستشفيات الطب النفسي. ويعيش حوالي نصف سكان العالم في بلدان ال يوجد فيها سوى طبيب نفسي واحد لخدمة 200000 شخص أو أكثر. ويظل أيضاً توافر الادوية النفسية الاساسية بأسعار معقولة محدوداً، لا سيما في البلدان المنخفضة الدخل. ولا تتلقى غالبية الاشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية أي علاج. وفي جميع البلدان، يتضاعف حجم الفجوات القائمة في تغطية الخدمات بسبب التباين في جودة الرعاية المقدمة.
وهناك عدة عوامل تمنع الناس من التماس المساعدة لعلاج الاعتلالات الصحة النفسية، بما في ذلك رداءة جودة الخدمات، وانخفاض مستويات التثقيف الصحي في مجال الصحة النفسية، والوصم والتمييز. وتنعدم في العديد من الأماكن الخدمات الرسمية المخصصة للصحة النفسية. وغالباً ما يتعذر الحصول على هذه الخدمات أو لا يمكن تحمل تكاليفها حتى في الحالات التي تكون فيها متاحة. ويختار الناس في أغلب الاحيان المعاناة من الاضطرابات النفسية دون الحصول على ما يخفف حدتها بدلا من التعرض لمخاطر التمييز والنبذ التي تأتي بعد الحصول على خدمات الصحة النفسية.
فوائد التغيير
هناك ثلاثة أسباب رئيسية تدعو إلى الاستثمار في الصحة النفسية، وهي: الصحة العامة، وحقوق الانسان، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ويعزز الاستثمار في الصحة النفسية للجميع الصحة العامة. ويمكن أن يقلل بشكل كبير من المعاناة ويحسن الصحة ونوعية الحياة والاداء ومتوسط العمر المتوقع للأشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية. ويشكل تعزيز التغطية وزيادة الحماية المالية خطوتين أساسيتين نحو سد الفجوة الواسعة في مجال الرعاية والحد من أوجه عدم المساواة في الصحة النفسية. وتحقيقاً لهذه الغاية، يحظى إدراج الصحة النفسية في مجموعات التغطية الصحية الشاملة للخدمات الاساسية بأهمية بالغة. وكذلك هو الحال بالنسبة لدمج الرعاية الصحية النفسية والبدنية، مما يحسن من إمكانية الاستفادة ويقلل من تجزئة الموارد وازدواجيتها لتلبية الاحتياجات الصحية للناس على نحو أفضل.
ويتعين الاستثمار في الصحة النفسية لوقف انتهاكات حقوق الانسان. وفي جميع أنحاء العالم، كثيراً ما يُستبعد الاشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية من الحياة المجتمعية ويُحرمون من الحقوق الاساسية. وعلى سبيل المثال، فهم لا يتعرضون للتمييز في مجالات التوظيف والتعليم والاسكان فحسب، ولكنهم لا يحظون أيضاً بالاعتراف، على قدم المساواة مع غيرهم، أمام القانون. وكثيراً ما يكونون عرضة لانتهاكات حقوق الانسان في بعض الدوائر الصحية المسؤولة عن رعايتهم.
ويمكن، من خلال تنفيذ اتفاقيات حقوق الانسان المتفق عليها دولياً، مثل اتفاقية حقوق الاشخاص ذوي الاعاقة، إحراز تقدم كبير في مجال حقوق الانسان. ويمكن أيضاً للتدخلات المناهضة للوصم – ولا سيما استراتيجيات الاتصال الاجتماعي التي يساعد من خلالها الاشخاص ذوو التجارب الحياتية في تغيير المواقف والاجراءات – أن تقلل من الوصم والتمييز في المجتمع المحلي.
ويمكن أن يتيح الاستثمار في الصحة النفسية تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويؤدي اعتلال الصحة النفسية إلى كبح التنمية من خلال الحد من الانتاجية، وتوتير العلاقات الاجتماعية، ومضاعفة دورات الفقر والحرمان. وعلى العكس من ذلك، يمكن للناس، حينما يكونون أصحاء نفسياً ويعيشون في بيئات داعمة، التعلم والعمل بشكل جيد والمساهمة في مجتمعاتهم المحلية، بما يعود بالفائدة على الجميع.
وتظهر البيّنات المتراكمة وجود مجموعة أساسية من التدخلات الفعالة من حيث التكلفة لعلاج الاعتلالات ذات الاولوية والتي تكون مجدية وميسورة التكلفة ومناسبة. وهي تشمل برامج التعلم الاجتماعي والعاطفي في الوسط المدرسي واجراءات الحظر التنظيمي لمبيدات الآفات الشديدة الخطورة (لمنع حالات الانتحار)، فضلا عن مجموعة من التدخلات السريرية على النحو الوارد في خالصة منظمة الصحة العالمية للتغطية الصحية الشاملة.
أسس التغيير
من نواح عديدة، يوفر تعزيز النظام الصحي أساساً للتغيير في الصحة النفسية. ويتيح إعادة التنظيم وتوسيع نطاق الخدمات والدعم. وتشمل مجالات العمل الرئيسية ما يلي: الحوكمة والقيادة؛ والتمويل؛ واذكاء الوعي العام؛ وتوفير الكفاءات اللازمة في مجال الرعاية الصحية النفسية.
وتحظى الاطر العالمية والوطنية بأهمية بالغة في توجيه العمل المضطلع به في مجال الصحة النفسية وتوفير سياق تمكيني للتحول. وهناك حاجة تدعو إلى وضع تشريعات تمتثل للصكوك الدولية لحقوق الانسان من أجل حماية حقوق الانسان وتعزيزها. وبالنظر إلى أن أسباب اعتلالات الصحة النفسية واحتياجاتها تشمل عدة قطاعات، فمن الضروري أن تتناول القوانين والسياسات الرامية إلى تحسين الصحة النفسية جميع القطاعات.
وهناك حاجة إلى ثالثة أنواع من الالتزام السياسي – المعبّر عنه والمؤسسي والمتعلق بالميزانية – للمضي قدماً ببرنامج الصحة النفسية. ويمكن أن يكون للمناصرة والبيّنات والسياق السياسي تأثير كبير في تعزيز جانبي الالتزام والقيادة. وتمثل حالات الطوارئ الانسانية والطوارئ الصحية العامة على وجه الخصوص التزاماً تتعهد به البلدان وفرصة سانحة لها للاستثمار في مجال الصحة النفسية. وهي توفر منصات لا نظير لها لإحداث التغيير. ويقود أيضاً اهتمام الجمهور الشديد وفهمه القوي إلى التحسين. ويشكل الاشخاص الذين لديهم تجارب حياتية عوامل تغيير هامة لتحسين الوعي العام بالصحة النفسية وقبول الاشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية.
ولتغيير خدمات الصحة النفسية، يجب ترجمة الالتزام إلى عمل من خلال توفير التمويل المناسب. ويعني ذلك، من الناحية العملية، ضرورة أن يخصص راسمو السياسات والمخططون المزيد من الاموال للصحة النفسية. ويتحقق ذلك إما عن طريق الحصول على موارد إضافية من خزينة الدولة أو من الممولين الخارجيين، أو عن طريق إعادة توجيه الموارد نحو الصحة النفسية، سواء داخل الميزانية المخصصة للصحة أو على صعيد الحكومة.
وتشكل القوى العاملة المتصفة بالكفاءة والحماس عنصراً حيوياً في أي نظام صحي جيّد الاداء. ويتعين على جميع البلدان توسيع قواها العاملة المتخصصة في مجال الصحة النفسية، مع بناء الكفاءات اللازمة في مجال الرعاية الصحية النفسية لمقدمي الرعاية والافراد الاخرين. ويتعين، على وجه الخصوص، تزويد موظفي الرعاية الاولية ومجموعة واسعة من مقدمي الخدمات المجتمعية -بمن فيهم العاملون المجتمعيون والاقران- بمهارات جديدة للكشف عن اعتلالات الصحة النفسية، وتوفير التدخلات والدعم الاساسيين، إو احالة الاشخاص عند الضرورة، والمتابعة.
وبالاضافة إلى القوى العاملة في مجال الصحة النفسية، يمكن لنا جميعاً تعزيز مهاراتنا وكفاءاتنا الفردية لفهم صحتنا النفسية والعناية بها. ويتعين على كل فرد في المجتمع المحلي ونظام الرعاية دعم الادماج الاجتماعي للأشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية، وتعزيز الرعاية والدعم اللذين يقومان على أساس الحقوق ويركزان على الفرد ويُوجّهان صوب تحقيق التعافي.
وفي العديد من المواقع، توفر التكنولوجيات الرقمية أدوات واعدة، ويمكن أن تعزز نظم الصحة النفسية من خلال توفير طرق لإعلام الجمهور وتثقيفه، وتدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية ودعمهم، وتقديم الرعاية عن بُعد، واتاحة سبل المساعدة الذاتية.
التعزيز والوقاية من أجل التغيير
في جميع مراحل الحياة، تكون تدخلات التعزيز والوقاية أمراً مطلوباً لتعزيز العافية النفسية والمرونة، ومنع ظهور اعتلالات الصحة النفسية وتأثيراتها، وتقليل الحاجة إلى الرعاية الصحية النفسية. وهناك بيّنات متزايدة على إمكانية أن يكون التعزيز والوقاية فعالين من حيث التكلفة.
وتعمل تدخلات التعزيز والوقاية من خلال تحديد المحددات الفردية والاجتماعية والهيكلية للصحة النفسية، ثم التدخل للحد من المخاطر وبناء القدرة على التعافي واقامة بيئات داعمة للصحة النفسية. ويمكن تصميم التدخلات للأفراد أو مجموعات محددة أو مجموعات سكانية بأكملها.
وكثيراً ما تتطلب إعادة تشكيل محددات الصحة النفسية اتخاذ إجراءات تتجاوز القطاع الصحي، مما يجعل التعزيز والوقاية الفعالين مشروعاً متعدد القطاعات. ويمكن للقطاع الصحي أن يساهم بشكل كبير من خلال إدماج جهود التعزيز والوقاية في الخدمات الصحية؛ وعن طريق المناصرة إلى التعاون والتنسيق في قطاعات متعددة والشروع فيهما وتيسيرهما عند الاقتضاء.
ويشكل منع الانتحار إحدى الاولويات الدولية، في ظل الغاية المُحدّدة في أهداف التنمية المستدامة بشأن خفض معدل وفيات الانتحار بمقدار الثلث بحلول عام 2030. ولمساعدة البلدان على بلوغ هذه الغاية، وضعت منظمة الصحة العالمية نهج «عيش الحياة» الرامي إلى الوقاية من الانتحار، والذي يعطي الاولوية لأربعة تدخلات ثبتت فعاليتها، وهي: تقييد إمكانية الحصول على وسائل الانتحار؛ والتواصل مع وسائل الإعلام لعرض تقارير مسؤولة بشأن الانتحار؛ وتعزيز مهارات الحياة الاجتماعية والعاطفية لدى المراهقين؛ والتدخل المبكر لصالح أي شخص يتأثر بالسلوكيات الانتحارية. ويمثل حظر مبيدات الآفات شديدة الخطورة تدخلا غير مكلف وفعال من حيث التكلفة بوجه خاص. وفي البلدان التي تعاني من عبء كبير من التسمم الذاتي بمبيدات الآفات، يمكن أن يؤدي الحظر إلى انخفاض فوري وواضح في معدلات الانتحار الاجمالية، دون تكبد خسائر زراعية.
وتمثل مرحلة الطفولة المبكرة والطفولة والمراهقة على حد سواء أعمار الضعف والفترات التي تتاح فيها الفرص في مجال الصحة النفسية. ويمكن أن توفر بيئات التنشئة وتقديم الرعاية وبيئة التعلم الداعمة حماية كبيرة للصحة النفسية في المستقبل. ومن ناحية أخرى، تزيد تجارب الطفولة السلبية من خطر الاصابة باعتلالات الصحة النفسية. وتتضمن أربع استراتيجيات رئيسية للحد من المخاطر وتعزيز عوامل الحماية ما يلي: وضع وانفاذ سياسات وقوانين تعزز الصحة النفسية وتحميها؛ ودعم مقدمي الرعاية لتوفير رعاية التنشئة؛ وتنفيذ البرامج المدرسية، بما في ذلك التدخلات المناهضة للتنمر؛ وتحسين جودة البيئات في المجتمعات والمساحات الرقمية. وتشكل البرامج المدرسية للتعلم الاجتماعي والعاطفي إحدى أكثر استراتيجيات التعزيز فعالية للبلدان من جميع مستويات الدخل.
وعلى غرار المدارس، يمكن أن تكون مواقع العمل أماكن تتاح فيها على حد سواء الفرص التي تعزز الصحة النفسية وتنشأ فيها المخاطر التي تهددها. ويتحمل أصحاب العمل والحكومات مسؤولية استحداث المزيد من فرص العمل للأشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية، وتعزيز الصحة النفسية لجميع الناس وحمايتها في العمل. ويعني ذلك بالنسبة للحكومات تنفيذ التشريعات واللوائح الداعمة في مجالات حقوق الانسان والعمل والصحة المهنية. وبالنسبة لأصحاب العمل، تشدد المبادئ التوجيهية لمنظمة الصحة العالمية على أهمية التدخلات التنظيمية وتدريب المديرين في مجال الصحة النفسية وتنفيذ التدخلات لصالح العمال.
إعادة هيكلة وتوسيع نطاق الرعاية من أجل التأثير
تندرج إحدى عمليات إعادة التنظيم الكبرى لخدمات الصحة النفسية، في معظم البلدان، في صميم إصلاح الصحة النفسية. ويجب عليها أن تحوّل مركز الرعاية لاعتلالات الصحة النفسية الشديدة نحو خدمات الصحة النفسية المجتمعية بعيداً عن مستشفيات الطب النفسي. وفي الوقت نفسه، يجب توسيع نطاق الرعاية المكرسة للاعتلالات الشائعة مثل الاكتئاب والقلق. وتحظى كلتا الاستراتيجيتين بأهمية بالغة لتحسين التغطية والجودة اللازمتين للرعاية الصحية النفسية. وتكون الرعاية الصحية النفسية المجتمعية أيسر منالا وأكثر قبولا ًمن الرعاية المؤسسية وتقدم نتائج أفضل للأشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية. وتكون الرعاية التي تركز على الافراد وتُوجّه صوب تحقيق التعافي وتقوم على حقوق الانسان ضرورية في هذا الصدد.
وتتألف الرعاية الصحية النفسية المجتمعية من شبكة من الخدمات المترابطة التي تغطي ثالثة أنواع من الخدمات، هي: خدمات الصحة النفسية المدمجة في الرعاية الصحية العامة؛ وخدمات الصحة النفسية المجتمعية؛ والخدمات التي تقدم الرعاية الصحية النفسية في الاماكن غير المرتبطة بالصحة والتي تدعم الحصول على الخدمات الاجتماعية الرئيسية. ويكمل الدعم الاجتماعي والدعم غير الرسمي اللذان يوفرهما مقدمو الخدمات المجتمعية (مثل العاملين المجتمعيين والاقران) الخدمات الرسمية ويحظيان بأهمية بالغة لضمان بيئات تمكينية للأشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية. وبوجه عام، لا يوجد نموذج واحد لتنظيم خدمات الصحة النفسية المجتمعية التي تنطبق على جميع السياقات القطرية. ومع ذلك، يمكن لكل بلد، بغض النظر عن القيود المفروضة على موارده، اتخاذ الخطوات اللازمة لإعادة هيكلة الرعاية الصحية النفسية وتوسيع نطاقها من أجل إحداث التأثير اللازم.
وعادة ما ينطوي إدماج الصحة النفسية في خدمات الصحة العامة على تقاسم المهام مع مقدمي الرعاية الصحية غير المتخصصين في مجال الرعاية الصحية النفسية؛ أو إضافة موظفين متفرغين وموارد مخصصة للصحة النفسية إلى الرعاية الصحية الاولية والثانوية. وقد ثبت أن تقاسم المهام مع مقدمي الرعاية الصحية الاولية يساعد في تقليص فجوة العلاج وزيادة التغطية لاعتلالات الصحة النفسية ذات الاولوية. وقد يُحسّن تقاسم المهام داخل الخدمات المتعلقة بأمراض معينة مثل برامج مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/ الايدز أو السل نتائج الصحة البدنية والنفسية على حد سواء.
وتقدم المستشفيات العامة والمراكز أو الافرقة المعنية بالصحة النفسية المجتمعية رعاية صحية نفسية ثانوية. وتشكل في أغلب الاحيان حجر الزاوية في شبكات الخدمات المجتمعية. وهي عادة ما تغطي مجموعة من اعتلالات الصحة النفسية لدى البالغين والمراهقين والاطفال وتمزج بين الخدمات السريرية، بما في ذلك على سبيل الاحتمال خدمات الازمات والتواصل، مع إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي والانشطة الرامية إلى تعزيز الادماج الاجتماعي والمشاركة في الحياة المجتمعية. وتوفر الخدمات المعيشية المدعومة بديلا قيّما للرعاية المؤسسية؛ ويمكن أن تشمل مزيجاً من المرافق ذات المستويات المتفاوتة من الدعم مقابل مستويات مختلفة من الاعتماد على غيرها.
وعلى جميع مستويات الرعاية الصحية، توفر خدمات دعم الاقران مستوى إضافياً من الدعم يستخدم فيه الناس تجاربهم الخاصة لمساعدة بعضهم البعض – من خلال تبادل المعارف، أو توفير الدعم العاطفي، أو إيجاد فرص للتفاعل الاجتماعي، أو تقديم المساعدة العملية، أو المشاركة في المناصرة واذكاء الوعي.
وتتداخل مسؤولية تقديم الرعاية الصحية النفسية المجتمعية بين قطاعات متعددة. ويشكل استكمال التدخلات الصحية بالخدمات الاجتماعية الرئيسية، بما في ذلك حماية الطفل والحصول على التعليم والعمل والحماية الاجتماعية، عنصراً ضرورياً لتمكين الاشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية من تحقيق أهدافهم المتعلقة بالتعافي والعيش حياة مرضية وهادفة بدرجة أكبر.
الخلاصة
يدعو هذا التقرير إلى إحداث تحول في جميع أنحاء العالم من أجل تحقيق صحة نفسية أفضل للجميع. وتمثل خطة العمل الشاملة الخاصة بالصحة النفسية في الفترة 2030-2013 والتي وضعتها منظمة الصحة العالمية التزاماً من جانب جميع البلدان بتحسين الصحة النفسية والرعاية الصحية النفسية، وتوفر مخططاً للعمل. ولا يُتوقّع من أي بلد من البلدان الوفاء بكل خيار من خيارات التنفيذ في خطة العمل العالمية. ولا تملك العديد من البلدان الموارد اللازمة لتنفيذ كل إجراء مبيّن في هذا التقرير. ولكن أمام كل بلد من البلدان فرص وافرة لإحراز تقدم ملموس نحو تحقيق صحة نفسية أفضل لسكانه. وسيتوقف اختيار ما يجب التركيز عليه أوالً على السياقات القطرية، والاحتياجات المحلية في مجال الصحة النفسية، والاولويات الاخرى، والحالة والهيكل القائمين لكل نظام من نظم الصحة النفسية.
وتشير البيّنات والتجارب والخبرات المقدمة في هذا التقرير إلى ثلاثة مسارات رئيسية للتحول من شأنها أن تُسرّع وتيرة التقدم المحرز في تنفيذ خطة العمل العالمية، وتركز هذه المسارات على تحويل المواقف تجاه الصحة النفسية، ومعالجة المخاطر التي تهدد الصحة النفسية في بيئتنا، وتعزيز النظم التي تهتم بالصحة النفسية.
ويجب علينا أولا ترسيخ القيمة والالتزام اللذين نعطيهما للصحة النفسية كأفراد ومجتمعات محلية وحكومات؛ ومواءمة هذه القيمة بزيادة الالتزام والمشاركة والاستثمار من جانب جميع أصحاب المصلحة، في جميع القطاعات. ويجب علينا ثانياً إعادة تشكيل الخصائص المادية والاجتماعية والاقتصادية للبيئات – في المنازل والمدارس وأماكن العمل والمجتمع الاوسع – لحماية الصحة النفسية بشكل أفضل والحيلولة دون الاصابة باعتلالات الصحة النفسية. ويتعين على هذه البيئات أن تمنح الجميع فرصة متساوية للنماء والوصول إلى أعلى مستوى يمكن تحقيقه من الصحة النفسية والعافية. ويجب علينا ثالثاً تعزيز الرعاية الصحية النفسية بحيث تُلبّى مجموعة كاملة من احتياجات الصحة النفسية من خلال شبكة مجتمعية من الخدمات وأوجه الدعم الجيدة والميسورة والمعقولة التكلفة.
وكل مسار للتحول هو طريق من الطرق المفضية إلى تحقيق صحة نفسية أفضل للجميع. وستجعلنا نقترب سوياً من عالم تُقدّر فيه الصحة النفسية وتُعزّز وتُحمى؛ حيث تتاح لكل فرد، على قدم المساواة مع غيره، فرصة للتمتع بالصحة النفسية وممارسة حقوق الانسان الخاصة به؛ وحيث يمكن للجميع الحصول على الرعاية الصحية النفسية التي يحتاجونها.
وأمام الافراد والحكومات ومقدمي الرعاية والمنظمات غير الحكومية والأكاديميين وأصحاب العمل والمجتمع المدني وغيرهم من أصحاب المصلحة دور يؤدونه في هذا الشأن. وسيتطلب ذلك تضافر جهودنا جميعاً لإحداث تحول في الصحة النفسية.
.
رابط المصدر: