محمد علي جواد تقي
عندما ينظر الناس في الشارع لرجل وقد احتوشه جماعة يضربونه أو يسيئون اليه، فان أول شعور ينتابهم؛ التضامن مع استضعاف الرجل الوحيد، حتى وإن كان يستحق الضرب لسبب أو لآخر، ومقولة “حكم القوي على الضعيف” غير مستساغة نفسياً وفطرياً عند الغالبية العظمة من الناس، وفي بعض الاحيان نلاحظ من يبغي التضامن مع قضيته فيستعين بتلك المشاعر الانسانية لاثارتها والاستقواء بها أمام من يعجز عن مواجهتهم، بغض النظر عن صحة أو سقم الموقف، وما اذا كان على حق أم باطل.
استبدال الضعف بالمظلومية فكرة كتب عنها وناقشها العلماء والمفكرون، وتبناها كثيرون، بينما لو مررنا ببيت الصديقة فاطمة الزهراء، نجد انه تحوّل من بيت مهتوكٌ الستر ومُعتدى عليه يطلب القوة والتضامن لمواجهة المعتدين، الى بيت مُعتدى عليه وفي نفس الوقت يتحول بشكل غير متوقع الى مدرسة للشجاعة والبطولة يفند قوة “الرجال”، و يخرس أفواه البلغاء، ويفحم “المشايخ” من دعاة الصُحبة والكتاب المجيد، عندما خرجت الصديقة الطاهرة تدافع عن أمير المؤمنين، بعد ذلك الهجوم الارهابي المريع، وايضاً خروجها الى مسجد رسول الله، مطالبة بحقّها في فدك وفق ما جاءت به شريعة السماء.
الخطبة الفدكية وثيقة الشجاعة
لنتصور امرأة شابة لم تتجاوز الثامنة عشر من العمر، وقد غُصب حقها في “نحلة أبيها” فدك وسط صمت وتخاذل المجتمع، وفي جو إرهابي مطبق، والأمض منه، أنها تكون قرينة رجل مأمور ومكلف بالصبرعلى أي اعتداء يتعرض له هو، او أسرته، فهي تخرج للمطالبة بحقها، وهو جليس الدارّ! هي وحيدة في الساحة والناس يقفون يتفرجون عليها!
هذا كان حال الصديقة الزهراء في تلك اللحظات الاستثنائية والعصيبة، ولكن؛ هل كانت في موقف ضعف تستدر به عطف الآخرين؟
ما صدحت به أمام المهاجرين والانصار في المسجد، وأمام التاريخ والاجيال يدلنا على شجاعة منقطعة النظير، تكشف عن شخصية القائد الجريح المخذول، لا يبرح ينصح أفراده ويذكرهم بالصواب والاستقامة، ويحذرهم من مهاوي الفتن، ودواهي الانحراف عن الطريق الصحيح. وربما يكون نَفَس الزهراء، وهي تخاطب الناس في تلك الساعات الرهيبة، تفرغ عن لسان أبيها رسول الله، ومنطقه، وخطابه النبوي والأبوي في آن.
وفي سرد تاريخي سريع مفعم بالبلاغة والفصاحة وقوة المنطق، تعرّف المسلمين المغلوبين على أمرهم بمكانتهم ومسؤوليتهم لتلزمهم الحجة وتحملهم المسؤولية: “أَنْتُمْ عِبادَ الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ، وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ للهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ. كِتابُ اللهِ النّاطِقُ”، ثم تذكرهم بماضيهم، وما كانوا عليه في الجاهلية: “وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}، فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ، صَلى الله عليه وآله، بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ”.
وفي مقطع لاحق تبدأ الصديقة الطاهرة بجلد المسلمين بشكل مباشر وصريح: “فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ وَسَمَلَ جِلبْابُ الدّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوِينِ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلِين. فَخَطَرَ فِي عَرَصاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ”، ثم تتوجه الى أبي بكر، الذي وجد نفسه خلال ساعات أنه أول خليفة بعد رسول الله، يقود الأمة، وقالت له: “يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أ في كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا}، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، اذْ يَقُولُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}.
عناصر القوة في هذه المواجهة في قوة المنطق والبرهان والحجج الدامغة على وقوع الظلم وليس إظهار الاستضعاف، علماً أن هذه المفردة تُعد من أبرز افرازات الطغيان والظلم عبر التاريخ، وقد سلط العلماء الضوء على هذه المفردة في آيات عدّة من القرآن الكريم لاكتشاف حقيقة الاستضعاف الناشئة من قمع واضطهاد الحاكم الذي يفرض الضعف على الناس والمؤمنين، وليس المشكلة دائماً في هؤلاء المؤمنين انفسهم، فكانت دعوة السماء لاستنهاض هؤلاء المستضعفين لمواجهة الظلم والطغيان، ثم وعدهم بالجنان والرضوان إن هم قتلوا خلال جهادهم هذا، وقد وردت المفردة في آيات عديدة وبصيغ مختلفة، وفي هذا المضمار لا مجال للحوار الشجاع، ولغة المنطق لتبيين الظلامة وفضح الظالم، ولكن الصديقة الزهراء كان لها هذا الميدان الرحب لتصول وتجول فيه متسلحة ببلاغة رفيعة، وأدلة دامغة من القرآن الكريم ومن سيرة أبيها رسول الله، فلا تجد رجل رشيد يواجهها، فالقوم كأن على رؤوسهم الطير، وإن كان من ردّ –كما تحدث أبو بكر وفق الرواية التاريخية- فانه لم يعدُ تكريساً للانحراف و مجانبة الحق في أمر حق الصديقة في فدك التي وهبها لها أبيها رسول الله في حياته.
هل تحتاج الزهراء لمنظمة تدافع عن حقوقها؟
الدفاع عن المظلومين، ومقارعة الظالمين، مبدأ أساس في النظام السياسي والاجتماعي في الاسلام، و أول من حمل هذا اللواء أمير المؤمنين، عليه السلام، من بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، عندما جعل العدل والمساواة والإنصاف وكل ما يردع الظلم، ضمن أولويات حكمه، وتحمل في هذا الطريق الشائك الكثير من التحديات ممن تعودوا ظلم الآخرين للحصول على مكاسب مادية ليس أقلها حرب الجمل، وحرب صفين من أجل أن يعيد كل ذي حقٍ الى حقه.
ولكن؛ ماذا لو تعرضت المرأة للظلم والاضطهاد؛ سواءً من داخل البيت، او من خارجه، هل تجلس تنتظر من يدافع عنها ويأخذ لها حقها؟
كان بإمكان أمير المؤمنين الخروج الى مسجد رسول الله والقيام بما قامت به الصديقة الزهراء في المطالبة بحقها الشرعي، بيد أن نظرة المجتمع آنذاك، وحتى اليوم لن تنظر الى عدالة القضية والحقوق الشرعية بقدر ما تنظر الى حركة الدفاع ومن اين تأتي، فاذا كان ذا قربى وصلة رحم بصاحب القضية، رموه فوراً بالانحياز والتعاطف، لذا فضّل، عليه السلام، الجلوس في البيت، والسماح للزهراء لتسجل موقفها للتاريخ بنفسها.
وهذا يُعد درساً بليغاً لكل نساء العالم بأن تتولى أمر الدفاع عن حقوقها بنفسها وعدم الاعتماد على قوى وعناصر أخرى، وإن وجدت فهي للدعم والمساندة فقط، وهذا يحتاج أمرين أساس من المرأة المتعرضة للظلم والاضطهاد:
الأمر الأول: أن تعرف نفسها وقدراتها وتثق بما عندها لتكون خطواتها مطمئنة وثابتة في طريق استعادة الحقوق ومجابهة الظلم والعدوان، حتى لا تتحول قضيتها الى عنوان يستفيد منه الآخرون ممن لا يستشعرون آلام الآخرين بقدر ما يبحثون عن مصالحهم الخاصة في هذا الميدان.
الأمر الثاني: أن تؤمن بعدالة قضيتها وأنها على حق والمقابل على باطل، وذلك بالدليل والبرهان وقوة المنطق، وهذا بحد ذاته يكفي لنشر الظلامة الى أبعد نقطة في العالم، كما هي مظلومية الصديقة الزهراء، ثم مظلومية الأئمة من بعدها التي امتدت طيلة اربعة عشر قرناً من الزمن، ويستمر المدّ الرافض للظلم والداعي لإعادة الحق الى أهله الى يوم القيامة، ومن ثم يُصار الى تحميل المسؤولية لجميع من يرى ويسمع، فاذا كان صوت المظلومية يصدح بين جدران مسجد رسول الله قبل اكثر من اربعة عشر قرناً، فانه اليوم يصدح في جميع ارجاء العالم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي.
فان تحدثت المرأة اليوم عن مظلوميتها وضياع حقوقها، ثم اكتشاف مواطن الخلل في التعامل مع المرأة بشكل عام، وذلك بلغة المنطق، وبالأدلة القاطعة، كما فعلت الصديقة الزهراء، ستتغير أمور عديدة، وتغيب أزمات طالما نشكو منها، ليس أقلها الامتثال المطلق للتقاليد دون النظر الى سقمها، والتفسير الخاطئ لبعض الاحكام الشرعية، ومسائل تربوية وأخلاقية عديدة تعيد للمرأة مكانتها الحقيقية في المجتمع والأمة، فتكون ليس فقط مصونة من الظلم والاضطهاد، بل ويكون استقرارها النفسي واطمئنانها الارضية الصالحة للنمو والتطور والازدهار لجميع افراد الامة.
رابط المصدر: