تمثل مشكلات الحدود السياسية في أفريقيا واحدةً من أعقد وأقدم المشكلات في القارة بفعل التقسيم المعيب لتلك الحدود على يد القوى الاستعمارية في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهو التقسيم الذي حكمته مصالح وتوازنات القوى الكبرى في تلك المرحلة ومتطلبات حسن إدارة المستعمرات عبر سياسة “فَرِّق تَسُد” أحيانًا و”جَمِّع تَسُد” في بعض الأحيان. دونما اعتبار لمصالح شعوب تلك الأقاليم وكياناتها السياسية القائمة آنذاك والمأمولة عند الاستقلال. الأمر الذي جعل ميلاد العديد من دول القارة ميلادًا مشوهًا عاجزًا عن القيام بمتطلبات الدولة التي تختلف عن متطلبات المستعمرة من ناحية، وبفعل القنابل الموقوتة التي اشتملت عليها المساحات المؤطرة بتلك الحدود في ظل جمع تلك الحدود ما لا يجمع من كيانات اجتماعية بالمعنى الواسع (عرقية، إثنية، قبلية، طائفية، دينية…)، متنافسة متصارعة وتقسيمها لما لا يقسم من ذات الكيانات. والأمثلة على الحالتين كثيرة على الساحة الأفريقية بصفة عامة، فالحالة الأولى: يجسدها واقع الهوتو والتوتسي في “روندا” و”بوروندي”، وواقع “الهوسا” و”الإيجبوا” و”اليوروبا” في نيجيريا، و”الدينكا” و”الزاندي” و”الشيلك” في جنوب السودان. والصورة الثانية أيضًا: تجد لها تطبيقات في تلك الجماعات الاجتماعية التي تم فصم عرى وحدتها بسيف الحدود. ومن أمثلتها، جماعة الطوارق، والفولاني، والأيوي في غرب القارة، والباسوتو والسوازي في الجنوب. وإضافة إلى تلك الأبعاد الاجتماعية، كان للحدود السياسية أيضًا دورها في إضعاف القدرات الاقتصادية، وبالتبعية القدرات السياسية والأمنية للدول الأفريقية في ضوء عدم اتساق كثير من تلك الحدود الموروثة مع متطلبات وظائف الحدود وفي مقدمتها تحقيق الأمن، بتوفير عمق استراتيجي وامتلاك دفاعات طبيعية، وتحقيق الأمن الاقتصادي الاجتماعي بموارد تحقق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي والقدرة على النمو، وتجانس اجتماعي وثقافي يحقق متطلبات العيش المشترك ويقود إلى الأمن والاستقرار السياسي.
ورغم الحقائق سالفة البيان، ورغم دعوات البعض وفي مقدمتهم الزعيم الغاني “كوامي نكروما” إلى وحدة أفريقية جامعة في صورة ولايات متحدة أفريقية، اختارت الدول الأفريقية الاحتفاظ بحدودها المروثة عن الاستعمار في تطبيق حرفي لمفهوم السيادة، وتم إضفاء المشروعية على ذلك تباعًا في المواثيق والوثائق القارية بدءًا من قرار رؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الأفريقية رقم 16/أ بمؤتمر القمة القاهرة عام 1964، وصولًا إلى إدراج ذات النص الخاص باحترام تلك الحدود في ميثاق الاتحاد الأفريقي.
ولم تكن دول القرن الأفريقي بعيدة عن تلك السجالات، بل كانت في قلبها منذ بداية الاستقلال ومن قبل ذلك، حيث أدت سياسات القوى الاستعمارية ومطامع الإمبراطورية الإثيوبية إلى دمج إريتريا فيدراليا مع إثيوبيا عام 1952، ثم إلغاء الفيدرالية وضمها كجزء من إثيوبيا عام 1962. وبالمثل أدت السياسات الاستعمارية إلى تمزيق شعب الصومال عبر خمسة أقاليم؛ صومال بريطاني، صومال إيطالي، صومال فرنسي (جيبوتي حاليًا)، صومال إثيوبي (إقليم الأوجادين)، صومال كيني (المقاطعة الشمالية NFD). وقد كان لكلا الأمرين تداعياته السلبية على أمن واستقرار منطقة القرن الأفريقي ودوله، حيث قاد الضم الإثيوبي إلى حرب استقلال طويلة انتهت باستقلال إريتريا في 1993، وولدت مشاعر عدائية بين الجانبين تتوارى حينًا تحت ضغوط المصالح والمخاطر الأمنية الحالة لأحد الطرفين أو كليهما، وتتبدى أحيانًا كثيرة في ضوء الخلافات العديدة في الرؤى والمصالح بين الطرفين، والتي قادت متفاعلة مع الحدود المعيبة بين الجانبين إلى حرب عسكرية بين الجانبين على الحدود أواخر التسعينيات لم تنجح الوساطات المختلفة ولا أحكام التحكيم في حلها في ظل تعنت إثيوبيا، ورفضها طويلًا الامتثال لقرارات التحكيم بين الطرفين والتي قضت بأحقية إريتريا في معظم المناطق المتنازع عليها بين الجانبين، وكان لزامًا الانتظار لمأزق أو مطمع جديد للسياسة الإثيوبية كي يتم حلحلة ذلك الأمر وهو ما تحقق عام 2018 مع أبي أحمد وسعيه لتصفير الصراعات مع دول الجوار للحيلولة دون استغلال تلك الصرعات من قبل قوى إقليمية من داخل والمنطقة خارجها لإحباط مشروعات إثيوبيا وفي مقدمتها مشروعات الطاقة والمياه.
وبالمثل قاد النزاع الصومالي الإثيوبي بشأن “الأوجادين” إلى مواجهات سياسية وعسكرية بين الطرفين أبرزها حرب “الأوجادين” أواخر السبعينيات (1977-1978)، والتي انتهت بهزيمة الصومال، وبقاء “الأوجادين” كجزء من دولة إثيوبيا، وشاهدٍ حيٍّ على تمزق الأمة الصومالية. وهو الأمر الذي تراجعت أهميته نسبيًا في أعقاب انهيار الدولة الصومالية مطلع التسعينيات، وتفشي وباء التشرزم والانقسام في النواة المركزية للوحدة الصومالية بإعلان إقليم جمهورية أرض الصومال انفصاله في الشمال، وكذا ظهور كيانات إقليمية أخرى موازية تسعى إلى توسيع نطاق الحكم الذاتي مثل “بونت لاند” في الشمال الشرقي، و”جوبا لاند” في الجنوب، علاوة على تحدي الجماعات الإرهاب داخل الصومال، وهي العوامل التي قادت إلى انكفاء الحكومات الصومالية المتتابعة داخليًا في محاولة للملمة شتات البلاد والحفاظ على وحدتها الإقليمية برفض أي مساعٍ لإضفاء المشروعية القانونية أو الشرعية الإقليمية والدولية على واقع التجزئة الذي تعانيه البلاد. وهي مهمة من الصعوبة بمكان في ظل حقيقة أن مصالح عديد من القوى الإقليمية المباشرة وغير المباشرة ترتبط ببقاء الصومال على ما هي عليه.
وإذا ما قمنا بتوسيع زاوية النظر بعيدًا عن التعريف الضيق للقرن الأفريقي، سنجد أن منازعات الحدود القائمة والكامنة تكاد تكون قاسمًا مشتركًا بين دول القرن الأفريقي ودول جوارها على نحو ما تشير إليه مصفوفة الصراعات الواردة أدناه. والتي تكشف بوضوح عن تعدد وتنوع صور الخلافات الحدودية في المنطقة بصورها المختلفة (ادعاءات، نزاعات، صراعات) وهو أمر تشاركت في صنعه العديد من الأسباب التاريخية (مواريث الاستعمار)، والأسباب القانونية (غياب تخطيط وترسيم الحدود، تضارب الأسانيد القانونية، تعارض التفسيرات،..)، والأسباب الاجتماعية (التقسيمات والخلافات الإثنية العرقية والقبلية..)، والأسباب الاقتصادية (ندرة الموارد، اكتشاف موارد بمناطق حدودية، التدهور الاقتصادي والبيئي..)، والأسباب السياسية (طموحات الزعماء، خلافات النظم السياسية وبعضها ببعض، وأزمات النظم السياسية، والروح القومية لدى بعض الجماعات الداخلية؛ كالأورومو، والتيجراي في إثيوبيا، أو الجماعات المنتشرة إقليميًا كالصوماليين، والعفر). وجميع تلك الأسباب متداخلة ومتساندة على صعيد الأزمات الحدودية على نحو يصعب معه إسناد صراع حدودي إلى سبب بعينه.
فعلى سبيل المثال، لا يمكن فصل النزاع السوداني الإثيوبي حول الفشقة عن الحدود سيئة التحديد التي أنشئت خلال الحكم الاستعماري البريطاني حيث تركت معاهدات 1902 و1907 وضع منطقة الفشقة غير واضح إذ لم تُرسم بشكل دقيق على الأرض؛ مما ترك مجالًا للتفسيرات المختلفة من قبل الجانبين. ولا عن الواقع الاقتصادي الاجتماعي في المنطقة المتنازع عليها.
فمنطقة الفشقة متنازع عليها في المقام الأول من قبل مجموعتين عرقيتين رئيسيتين هما: الأمهرة (إثيوبيا) حيث يقوم العديد من مزارعي الأمهرة بزراعة الأراضي في منطقة الفشقة منذ أجيال، والمجموعات العربية (السودان) من بينهم البني عامر والرزيقات. وقد اعتادت هذه المجموعات على استخدام منطقة الفشقة لرعي مواشيها؛ مما يجعل سبل العيش للجانبين على المحك، فبالنسبة للمزارعين الأمهرة، فإن زراعة الأراضي في الفشقة أمر حيوي لكسب عيشهم. وعلى الجانب الآخر تعتمد المجموعات العربية السودانية على المنطقة لرعي حيواناتها. وأي تعطيل لهذه الممارسات التقليدية يؤدي إلى احتكاك.
يتضافر مع ذلك الأسباب السياسية المتعلقة بالعلاقة بين “الخرطوم” و”أديس أبابا” وداخل البلدين. فالخطاب القومي الذي يلقيه الساسة على الجانبين سعيًا إلى توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة “العدوان الخارجي”، يمكن أن يؤجج التوترات ويجعل التوصل إلى تسوية أمرًا صعبًا، كما أن تحسن العلاقات بين الجانبين غالبًا ما يؤدي إلى تواري المشكلة الحدودية لحين استدعائها من جديد عند الحاجة كأداة ضغط ومساومة خارجية أو لمواجهة تحديات داخلية بافتعال تلك الأزمة الخارجية فيما يعرف بالإدارة بالأزمات.
وهو أمر سبق تجربته في حرب “الأوجادين” وكذا الحرب الإثيوبية الإريترية حول “بادمي”. وينطبق كذلك على النزاع الإريتري الجيبوتي بشأن “الدوميرة”، والنزاع الكيني- الصومالي بشأن كل من الحدود البرية والبحرية بين الجانبين وإن اختلف الثقل النسبي لأسباب الصراع، حيث يرتفع ثقل الأبعاد الاجتماعية فيما يتصل بالحدود البرية، بينما تلعب العوامل الاقتصادية دورًا أكبر فيما يتعلق بالصراع حول الحدود البحرية في ظل الثروات الطبيعة القائمة والاكتشافات المعدنية الواعدة في تلك المناطق.
وهو ما يفسر تصاعد المطالب والادعاءات المتبادلة بين دول منطقة القرن الأفريقي وبعضها ببعض من جانب وبين بعض دولها (إريتريا، الصومال ويتوقع جيبوتي) واليمن من جانب آخر بشأن الحدود البحرية. فإلى جانب النزاع الكيني الصومالي سالف الذكر، والنزاع الإريتري اليمني بشأن جزر حنيش والذي تم حسمة قضائيًا عبر محكمة التحكيم الدولي عام 1998، هناك ادعاءات صومالية حكومية وشعبية (عبر وسائل التواصل الاجتماعي) بشأن حقوق الصومال في المياه الإقليمية بينها وبين اليمن خاصة في المياه المحيطة بجزيرة سوقطرى استنادًا إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982. وهو أمر جدير بالرصد والمتابعة في ظل ما يمكن أن يقود إليه من تصعيد سيكون له تداعيات إنسانية واقتصادية وأمنية شديدة الوطأة، بفعل وجود وتداخل مصالح دولية وإقليمية في تلك المنطقة.
ولا شك أن التعامل مع المشكلات سالفة البيان يتطلب بدوره نهجًا متعدد الجوانب لمعالجة هذه الصراعات يأتي في مقدمته الدبلوماسية والحوار، من خلال تشجيع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الأطراف المعنية للاتجاه نحو الحوار السلمي والتسويات. والإسراع بترسيم الحدود، تلك الحدود الواضحة والمعترف بها دوليًا أمر بالغ الأهمية لتحقيق السلام على المدى الطويل. وكذا الاتفاق على صيغ مقبولة لتقاسم الموارد وبلورة أطر تعاونية لإدارة الموارد المشتركة مثل المياه وأراضي الرعي بما يخفف من حدة التوترات. علاوة على تطبيق وتعزيز مبادئ الحكم الجيد، فالاستثمار في المؤسسات القوية وتعزيز سيادة القانون يمكن أن يوفر أساسًا مستقرًا لحل النزاعات سلميًا. كما أن مداخل التكامل الإقليمي بين دول القرن الأفريقي بجناحيه الأفريقي والآسيوي يمكن أن يكون بدوره أحد الاقترابات الفاعلة في التعامل مع مواريث التقسيمات المشوهة ليس لحدود الدول الأفريقية فقط، بل لحدود القارة نفسها التي حالت دون الوحدة الإقليمية بين الجزيرة العربية بإمكاناتها الاستثمارية الكبيرة والقارة الأفريقية بثرواتها الطبيعية والبشرية، وهي الوحدة التي يمكن من خلالها تحقيق نقلة كبيرة لصالح الجانبين وتخفف وطأة ما أحدثته المواريث التاريخية والممارسات السياسية السابقة واللاحقة على الاستقلال من مرارات.
المصدر : https://ecss.com.eg/46703/