يصنف العراق في مؤشر مدركات الفساد العالمي، بأنه ضمن الدول الأكثر فسادًا في العالم، حيث احتل المرتبة 157 في تقرير منظمة الشفافية العالمية 2021، وأصبح الفساد عبارة عن شبكة عنكبوتية تدخل فيه شخصيات سياسية، ومكاتب اقتصادية تابعة لأحزاب سياسية أو ميليشيات مسلحة، وعلى مدار الحكومات السابقة دائمًا ما كان يُثار الحديث عن قضايا الفساد وترفع الشعارات لمحاربته، لكن لم تنجح أي من الحكومات في ذلك، وكان آخر قضايا الفساد ما سمى في الإعلام العراقي “بسرقة القرن” ؛ إذ تمت سرقة نحو 2 مليار ونصف دولار من الأموال المودعة في خزانة دائرة الضرائب العامة، الأمر الذي أثار التساؤل عن أبعاد قضية سرقة القرن، وما الدلالات التي عكست إثارة هذه القضية في الوقت الحالي.
أبعاد القضية
أثيرت قضية “سرقة القرن” في أكتوبر 2022 خلال انتهاء فترة رئاسة رئيس الوزراء العراقي السابق “مصطفى الكاظمي”، وتدور حول اختلاس نحو 2.5 مليار دولار من الأمانات الضريبية، ثم أثيرت مجددًا في مارس الجاري وشُكلت لجنة لتقصى الحقائق من أعضاء مجلس النواب، ممثلة من قبل العديد من القوى السياسية للبحث في هذه القضية ومن يقف وراء عملية الاختلاس، وتوصلت اللجنة إلى تورط أربعة أعضاء في الحكومة السابقة برئاسة “مصطفى الكاظمي” في تسهيل عملية اختلاس الأموال أثناء توليهم مناصبهم، وصدر قرار من هيئة النزاهة الاتحادية بالقبض عليهم: وهم (مدير مكتب رئيس الوزراء “رائد جوجى”، ووزير المالية السابق “على علاوى”، والسكرتير الخاص “أحمد نجاتي” والمستشار “مشرق عباس”) استنادًا إلى أحكام المادة 316 من قانون العقوبات، وحجز أموالهم المنقولة وغير المنقولة استنادًا إلى أحكام المادة 184/أ من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
مما دفع رئيس الوزراء السابق “مصطفى الكاظمي” إلى الرد بانتقاد الإجراءات التي اتخذتها جهات التحقيق، معتبرًا أنها تفتقر إلى الاستقلالية وأنها مرتبطة بقوى وأحزاب سياسية، وتعمل على استهداف أعضاء الحكومة السابقة بهدف التستر على المتهمين الفعليين، وأن إثارة القضية في هذا التوقيت استهداف وتصفية سياسية مبيتة.
وسبق أن طالبت حكومة الكاظمي مختلف الجهات بالتدقيق في ملف الأمانات الضريبية في أغسطس 2020، وأن القضية تعود إلى فترة سابقة قبل تشكيل حكومة الكاظمي، وأن اتهام الشخصيات بصورة انتقائية بعيد عن مجريات التحقيق يدلل على وجود دوافع سياسية ورائها. بالإضافة إلى أنه كان لحكومة الكاظمي دور في الكشف عن هذه القضية وفقًا لتصريحات وزير النفط العراقي ووزير المالية بالوكالة “إحسان عبد الجبار” في 15 أكتوبر 2022، قائلًا “إن نتائج التحقيق في القضية الخاصة بسرقة 2.5 مليار دولار من أموال الرافدين تم تسليمها من قبل وزارة المالية إلى الجهات المختصة ومنها اللجنة المالية البرلمانية”.
أوضح تقرير لجنة التحقيق، أنه تم سحب أربعة تريليونات دينار “حوالي 3 مليارات دولار” من مصرف الرافدين وذلك من خلال 260 شيكًا، وتم توزيعها على سبع شركات خاصة بين سبتمبر 2021 وأغسطس 2022. خمس شركات منها حديثة التأسيس وليس لديها سجلات ضريبية، أما الشركات المتبقية تم شراؤها من قبل المتهمين بهدف إتمام عملية الاختلاس، ولم يكن لدى هذه الشركات تفويض من قبل المالكين الفعليين للودائع من أجل سحب هذه الأموال، ولم يقم المجلس الاتحادي للرقابة المالية والمحاسبة وهو مختص بمراقبة الإنفاق العام في الدولة بالإشراف على طلبات استرداد الودائع الضريبية، لكن قبل عملية السرقة حدث تغيير بإنهاء دور هيئة التدقيق المالي في فحص السحوبات من حسابات هيئة الضرائب، نظرًا لوجود شكاوى حول طول الإجراءات به بما سمح بسحب الأموال دون إذن مجلس الرقابة، من قبل شاكر محمود مدير هيئة الضرائب سابقًا، وتشير بعض التقارير بأنه مقرب من منظمة بدر وهي بديل فيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة بالعراق.
وبحسب التقارير، سرقت الأموال الضريبية بحيلة قانونية من رجل الأعمال “نور الخفاجي” وعدد من شركائه، عبر صكوك صدرت من مصرف الرافدين ودائرة الضرائب في يوليو 2021، بحوالي 247 صكًا صرفتها هذه الشركات ثم سحبت الأموال من حساب هذه الشركات، وأن “على علاوى” وزير المالية في حكومة الكاظمي أصدر قرارًا في نوفمبر 2021، بحظر عمليات السحب من دون موافقته إلا أن هذه العمليات استمرت.
وكان للوزير “علاوى” تصريحات علنية بأن “الحكومة لم تنجح في ضبط الفساد وأنه وحش متعدد الرؤوس وقد حفر في السنوات العشرين الماضية جذورًا عميقة في الدولة، ولا يمكن السيطرة عليه، واقتلاع جذوره يتطلب إرادة سياسية وإجماعًا على القيام بذلك، إذ لا يزال الفساد مستشريًا ومنهكًا وواسع الانتشار”.
وقد سبق أن وجهت وحدة مكافحة تبييض الأموال التابعة لبنك الرافدين، رسائل عدة إلى الإدارة للتبليغ عن هذه المعاملات المالية، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء من قبل بنك الرافدين أو البنك المركزي، واستقال على علاوى بعد ذلك.
وأفاد تقرير لجنة التحقيق وبعد مراجعة المراسلات الرسمية، أنه تبين مشاركة كل من رئيس اللجنة المالية النيابية “هيثم الجبوري” والمدير العام السابق للهيئة العامة للضرائب “سامر عبد الهادي”، والمدير السابق لدائرة التحقيقات في هيئة الضرائب “كريم بدر الغازي”، ومدير مكتب رئيس الوزراء” رائد جوجى”.
دلالات مهمة
تعكس إثارة القضية في هذا التوقيت بعض الدلالات المهمة على النحو الآتي:
• توقيت إثارة القضية مرتبط بتوجهات الحكومة الحالية برئاسة “محمد شياع السوداني” لمكافحة الفساد في العراق، وبهدف بعث رسالة مفاداها بأن مواجهة الفساد على رأس أولويات الحكومة، وإذا نجحت في تحقيق ذلك ستكون إحدى نقاط القوة فى تاريخ هذه الحكومة، بما ينعكس على استمرارها.
• أعلن محمد شياع السوداني فى 28 نوفمبر 2022، عن تسوية ملف سرقة القرن مقابل الإفراج المشروط باسترداد الأموال المنهوبة، وهي خطوة لم تحدث من قبل في تاريخ الدولة العراقية، وأعلن أن الدولة نجحت في استرداد 123 مليون دولار من قبل رجل الأعمال “نور الخفاجي” مقابل الأفراج عنه، وقد يمثل ذلك إنجازًا يحسب للحكومة الحالية.
• لم تكن العلاقات وطيدة بين الكاظمي والقوى السياسية الشيعية العراقية والميليشيات التابعة لها خلال فترة رئاسته للحكومة، ومن ثم تكون هذه القوى -التي شكلت الحكومة الحالية والممثلة كذلك فى البرلمان العراقي- العداء للكاظمي وحاولت الميليشيات التابعة لها اغتياله في 7 نوفمبر 2021، وذلك لأنه خلال فترة توليه سعى إلى تحجيم نفوذ ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران، ورفض التمويل الحكومي لها، وعمل على إنهاء دورها، حيث اتجه الكاظمي إلى إقرار مشروع قانون التجنيد الإلزامي في مجلس الوزراء بهدف تحجيم دور قوات الحشد الشعبي، وكان خطابه قائمًا على استعادة سيادة الدولة وإحداث توازن في علاقتها الخارجية، بينما لم توافق الميليشيات (حزب الله- حركة النجباء- عصائب أهل الحق) على السياسات التي كانت يتبعها الكاظمي كونه رئيس حكومة انتقالية، ولم تميل هذه الميليشيات إلى برنامجه في ذلك الوقت الذى كان يقدمه على أنه شخصية مستقلة ويحاول حصر السلاح، ويعمل على استعادة القرار الأمني والسياسي بيد الدولة.
• قبل تولي الكاظمي رئاسة الحكومة السابقة، وجهت بعض الميليشيات المسلحة الاتهامات ضده ومنها “كتائب حزب الله”، وروجت أنه كان له دور في مقتل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري ونائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي” العراقية أبومهدي المهندس بواسطة طائرة أمريكية من دون طيار في 3 يناير2020، وعليه فإن استهداف الكاظمي من خلال الاتهامات يبدو أنه هدف قائم بالنسبة للقوى السياسية المعادية له، فضلًا عن أن تسليط الضوء على مسؤولين متورطين في القضية كانوا تابعين للكاظمي، ربما بهدف الانتقام وتشويه شخص الكاظمي وإيصال رسائل بعدم قدرته على ضبط الأوضاع في الدولة خلال فترة رئاسته للحكومة العراقية السابقة، ومنعه من الترشح في الانتخابات البرلمانية القادمة، أو من العمل السياسي برمته.
ختامًا، يبدو أن إثارة قضية سرقة القرن في هذا التوقيت جاء بسبب هدف سياسي ورائها، وفي سياق الصراع بين القوى السياسية الشيعية الموالية لإيران وشخص الكاظمي، فإذا ما حققت نجاحًا في استعادة الأموال وسجن المسؤولين، ستكون إحدى نقاط القوة لصالح الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني.
.
رابط المصدر: