- يعكس تأخر انتخاب رئيس لمجلس النواب العراقي حالة التناحر ضمن المكون السني، والسعي لوراثة النفوذ السياسي لمحمد الحلبوسي، كما أنه يعكس هيمنة القوى الشيعية على الطرف السني لدرجة أن هذه القوى أصبحت المتحكم في هذا المنصب والمُرشِّح له.
- شهدت انتخابات رئيس مجلس النواب صراعاً بين المالكي الذي يسعى من خلال دعم مرشح الحلبوسي، محمود المشهداني، إلى تحصين موقعه داخل “الإطار”، وبين تحالف الخزعلي-السوداني الذي يحاول تجريد المالكي من مصادر قوته التقليدية، وفرض معادلة شيعية جديدة قبل الانتخابات العامة المقبلة.
- يبدو أن الثنائي المالكي-الحلبوسي وجدا في تعطيل انتخاب رئيس البرلمان واستمرار إدارته بالوكالة حتى إشعار آخر، بديلاً أقل تكلفة من عقد جولة الإعادة بين العيساوي الذي يحتاج إلى 8 أصوات إضافية للفوز بالمنصب، وبين المشهداني الذي يحتاج إلى 29 صوتاً آخر، ما يُنذر بأزمة ممتدة لفترة مفتوحة.
- من المرجح تمديد المدة الزمنية لحسم منصب رئيس البرلمان إلى الدورة البرلمانية المقبلة، بما يسمح بإدخال المنصب نفسه في سياق تسويات تخص مناصب أخرى في داخل السجال الشيعي. وقد تؤدي هذه التسويات إلى انتخاب محمود المشهداني، المدعوم من المالكي والحلبوسي، على حساب سالم العيساوي، مرشح تحالف السيادة والحزم والعزم والمدعوم من القوى الشيعية المؤيدة لتحالف الخزعلي-السوداني.
بعد أكثر من ستة شهور على إقالة رئيس البرلمان العراقي السابق محمد الحلبوسي، مازالت قضية اختيار بديلٍ له تشكّل تحدياً كبيراً للنظام السياسي في العراق يكشف عن مستوى التناحر الكبير حول هذا المنصب بين الفاعلين المتعددين في الوسط السني الذي جرى العُرف أن يُختار رئيس البرلمان من بين نوابه، لكنه من جهة اُخرى يوضّح المستوى الذي وصل إليه تحكّم القوى الشيعية، المهيمنة على السلطة ضمن مجموعة “الإطار التنسيقي”، بخيارات المكون السني، مع الأخذ في الحسبان أن الصراع حول منصب رئيس مجلس النواب العراقي بات اليوم صراعاً شيعياً-شيعياً بالدرجة الأساس. وقد تسبب التأخير في شغل هذا المنصب في تعقيدات تشريعية وتوترات سياسية مع تدخل مستمر للمحكمة الاتحادية العليا في صلب القضية، ما عقّد طرق التوصل إلى حلول لها.
المماطلة في إنجاز المهمة
يُشير اخفاق مجلس النواب العراقي للمرة الرابعة في انتخاب رئيس جديد له إلى عمق الصراع الدائر حول هذا الاستحقاق، وكان البرلمان على مقربة يوم 18 مايو 2024 من تحديد الفائز بالمنصب من بين النائب سالم العيساوي، مرشح تحالف السيادة والعزم والحزم، الذي نال في الجولة التمهيدية 156 صوتاً، والنائب محمود المشهداني، مرشح حزب تقدم وكتلة الصدارة، الذي حل ثانياً بـ 137 صوتاً من أصوات 311 نائباً حضروا الجلسة النيابية. ووفقاً للدستور العراقي فإن الفائز يحتاج إلى أصوات الأغلبية المطلقة (نصف +1) من عدد أعضاء البرلمان البالغ 328 مقعداً، ما يتطلب جولة جديدة بين أعلى المرشحَين، لكن تلك الجولة لم تمر بسبب حدوث شجار وفوضى داخل مبنى البرلمان، وهذه المرة كان المتسبب بعرقلة الجلسة نواب بارزون في حزب “تقدم” التابع للحلبوسي، وهو ما عُدَّ رداً على سلوك مشابه قام به خصومهم في الجلسة النيابية التي انعقدت في 3 يناير الماضي، حين كان النائب شعلان الكريّم عن “تقدم” على وشك الفوز بالمنصب بعد تصدر نتائج التصويت في الجولة الأولى بفارق الضعف عن أقرب منافسيه.
وعلى الرغم من أن الصراع يبدو في شكله النهائي بين القوى السُّنية الساعية إلى الفوز بثالث أركان الرئاسات الثلاث في العراق، حيث استقر العرف السياسي العراقي منذ عام 2006 على أن يكون من نصيب المكون السُّني، فإنَّهُ في واقعه يدور بين أقطاب الإطار التنسيقي الشيعي الذين دخلوا منذ انسحاب مقتدى الصدر من العملية السياسية وتشكيل حكومة محمد شياع السوداني، في سباقٍ محمومٍ من أجل حيازة أكبر قدر من السلطة والنفوذ، وهو ما يُعتقد أنَّه كان السبب وراء تباطؤ رئيس البرلمان بالوكالة محسن المندلاوي بعقد جولة الإعادة بين المرشحَين الفائزين من الجولة الأولى، مما أعطى الفريق المتأخر في النتيجة الوقت الكافي من أجل افتعال فوضى تدفع النواب إلى الانسحاب وكسر النصاب القانوني، ما لا يترك أمام المندلاوي من خيار سوى رفع الجلسة إلى إشعار غير معلوم ومن ثمَّ التعهد بعدم الدعوة إلى عقد جلسة جديدة ما لم تتفق الكتل السياسية مسبقاً على تسمية مرشح واحد لشغل المنصب.
وكما نشبت هذه الأزمة من الأساس عندما أصدرت المحكمة الاتحادية في 14 نوفمبر 2023 حكماً بإقالة محمد الحلبوسي من منصب رئيس البرلمان وإسقاط عضويته البرلمانية، بدعوى ارتكاب جريمة التزوير في محرَّر رسمي، فإن المحكمة ذاتها ساهمت في إطالة أمد اختيار البديل بإصدار تفسير جديد للمادة 12 من النظام فصلت فيه بين المهلة القانونية لفتح باب الترشح لرئاسة المجلس وبين انتخاب الرئيس الجديد، فضلاً عن التشديد على وجوب استمرار البرلمان في أداء مهام عمله في خلال الفصل التشريعي، وأن تنعقد جلساته برئاسة أحد نائبَي الرئيس إلى حين انتخاب رئيس جديد له، ما منح الكتل السياسية الحرية بالمماطلة في ملء الفراغ على رأس السلطة التشريعية لفترة قد تطول حتى نهاية الدورة الانتخابية.
عُقدة “الحلبوسي”
بخلاف رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء اللذين يمتعان بصلاحياتهما، قيَّدت تفسيراتٌ متباينة لنصوص الدستور منصبَ رئيس مجلس النواب بنظام داخلي يوزّع صلاحيات الرئيس (السُّني) بينه وبين نائبَيه (الشيعي والكردي)، ما حدّ كثيراً من إمكانية مَن تناوبوا على شغل هذا المنصب في خلال الدورات الماضية، وأبرزهم محمود المشهداني وإياد السامرائي وأسامة النجيفي وسليم الجبوري، في تحويله إلى مرجعية سياسية لسُّنة العراق قادرة على توحيد قوى المكون نفسه.
لكن الأمر تغيّر مع تولي محمد الحلبوسي المنصب عام 2018 بعد أقل من عام قضاها محافظاً للأنبار، قاد فيها إطلاق ورشة إعمار واسعة بأموال المانحين الدوليين، ولقي على إثرها قبولاً شعبياً في المناطق السنية بوصفه نموذجاً لسياسي شاب يختلف في أدائه عن القيادات التقليدية. وبدوره، تمسك الحلبوسي بتلك الفرصة الثمينة التي مُنحت له لسحب البساط من تحت أقدام معظم القيادات السنية الأخرى، بما فيها تلك التي رعت صعوده السياسي السريع ليكون أصغر رئيس برلمان في تاريخ البلاد وربما في المنطقة، قبل أن يمضي بخطى سريعة لتكريس نفسه زعيماً سياسياً وشعبياً لسنة العراق.
ومعلوم أن صعود الحلبوسي إلى كرسي رئيس البرلمان تم بدعم القوى الشيعية الأكثر موالاة لإيران، وبتزكية مباشرة من قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي السابق أبو مهدي المهندس، وعُدَّ انتخابه عام 2018 نصراً لفريق إيران ممثلاً في “كتلة البناء” بزعامة هادي العامري، على فريق “كتلة الإصلاح والإعمار” بزعامة مقتدى الصدر، لكنّ الحلبوسي قاد مناورة سياسية دقيقة سمحت له بالتحرر من تلك الغِلالة الإيرانية تدريجياً، أنتجت في المقابل توجساً من القوى المقربة من ايران.
وعلى ذلك، كان من الطبيعي أن يجد الحلبوسي نفسه بعد الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021، التي حل فيها حزبه “تقدم” في المركز الثاني بحصوله على 34 مقعداً (زاد العدد إلى 37 مع انضمام 3 نواب مستقلين إلى الكتلة)، أقربَ إلى مشروع مقتدى الصدر لتشكيل حكومة الأغلبية السياسية إلى جانب “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني، الأمر الذي مكّنه من الاحتفاظ بمنصب رئيس البرلمان. ولا يُخفي المقربون من الحلبوسي بأن العامل الوحيد الذي لم يَحسب زعيمهم حسابه هو انسحاب مقتدى الصدر من تحالف “إنقاذ وطن“، ومن مجلس النواب برمته.
ومع أن الحلبوسي حاول تدارك الموقف من خلال الانضمام إلى “تحالف إدارة الدولة“، الذي تتزعمه قوى “الإطار التنسيقي” المناهضة للصدر، في تشكيل حكومة محمد شياع السوداني، ودفْع “الإطار” إلى تجديد الثقة فيه، إلا أن ذلك لم يوقف قرار إقصائه عُقوبةً لمغامرته في “التحالف الثلاثي”، وقد تطورت خطوات عزل الحلبوسي وتقليص قوته ابتداءً من تقليص حصة حزبه من الدرجات الخاصة الرئيسة ومنحها إلى خصومه السُّنة، مروراً باجتثاث الضباط المقربين منه من قيادة الأجهزة الأمنية في الأنبار، وتحريك ملفات الفساد ضد عدد من المسؤولين التابعين له، وصولاً إلى إقالته شخصياً.
وكان واضحاً أن المساعي لإخراج الحلبوسي من المشهد السياسي بالكامل لم تكن محلَّ إجماع بين قوى “الإطار التنسيقي”، فقد عارضها زعيم “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي الذي ساهم نوابه بإفشال محاولات إقالة الحلبوسي بالتصويت البرلماني، لأسباب تتعلق بخشية المالكي من اختلال توازن القوة بينه وبين شركائه الأكثر قرباً لإيران منه داخل “الإطار”، مثل قيس الخزعلي وهادي العامري، لكن الأمر حُسِم عبر إصدار حكم من “المحكمة الاتحادية العليا” ببطلان عضوية الحلبوسي في البرلمان بتهمة تزوير استقالة احد النواب داخل حزبه، وهو الخطأ الاستراتيجي الذي يُضاف إلى فشله في جمع الشخصيات السنية، بدل العمل على محاربتها، ما قوّض فرص تسلمه أي منصب تشريعي أو تنفيذي الآن أو مستقبلاً.
والتهديد بمصير مشابه لمصير الحلبوسي يبدو أنه دفع شعلان الكريم، وهو أحد أهم قادة حزب “تقدم” والمرشح الأبرز للمنصب، إلى الإعلان في 18 أبريل الماضي، عن الانسحاب من السباق إلى رئاسة البرلمان ومن حزبه أيضاً، وذلك قبل أسبوعين من ردّ المحكمة الاتحادية الدعوى لإبطال عضويته في البرلمان التي رفعها ثلاثة من نواب “الإطار التنسيقي” بتهمة دعمه لحزب البعث وتمجيد رئيس النظام السابق.
جدل “إقليم الأنبار”
ثمة قاعدة يتحدث عنها السياسيون العراقيون، بصفة عامة، مفادها أن إيران بواسطة القوى الشيعية المرتبطة بها لن تسمح بأي موقف موحد للقوى السنية تجاه أي قضية، خصوصاً ما يمكن أن يتعلق بتشكيل الإقليم السني أو أقاليم في المحافظات ذات الغالبية السنية، ففي العامين الماضيين برزت بقوة إلى السطح دعوات لإقامة إقليم في الأنبار قد يكون نواةً لمشروع أكبر للمحافظات الأخرى. وتكثفت تاك الدعوات قبيل انتخابات مجالس المحافظات التي جرت أواخر 2023، وفُهم على صعيد النخب السياسية أن الحلبوسي نفسه يقف خلف المشروع، وأنه يتهيأ للإعلان عنه فور فوز حزبه في الانتخابات.
وعلى الرغم من نفي الحلبوسي، والسياسيين في الوسط السني، وجود مثل هذه النية، فإن مجرد تسرُّبها أثار مخاوف عميقة حول إمكانية نشوء مثل هذا الإقليم الذي لا يتطلب سوى تصويت الحكومة المحلية في المحافظة لتكون الحكومة الاتحادية -من ثم- ملزمةً بإجراء استفتاء في تلك المحافظة حوله، وبخاصة أنه يُتوقع أن يحظى خيار الإقليم بتأييد أغلبية ساحقة من السكان. وإقامة إقليم فيدرالي في الأنبار يعني إيجاد منطقة عازلة بين إيران وامتداداتها الإقليمية غرباً في سورية ولبنان، وكان ذلك من مسوغات الموقف العنيف الذي اتخذته قوى شيعية من هذه الدعوات، ومن ذلك إبعاد الحلبوسي نفسه عن مشهد التأثير السياسي، وزيادة الزخم الحكومي المركزي في الأنبار، من خلال إحداث تغيير شامل في المناصب الادارية والأمنية، بالإضافة إلى إيجاد أكثر من مركز ثقل سياسي في المحافظة نفسها.
بين “العيساوي” و “المشهداني”
مع رفض مطلب حزب “تقدم” تعديل النظام الداخلي للبرلمان، ما يتيح إعادة فتح باب الترشح لمنصب الرئيس، لتعويض مرشحه المنسحب شعلان الكريم، لم يجد محمد الحلبوسي بديلاً عن دعم ترشيح النائب محمود المشهداني من أجل تحقيق ثلاثة أهداف: الأول، اعتبار المشهداني خيار كتلة “تقدم” البرلمانية، بما يؤكد حقها الحصري في تمثيل المكون السني باعتبارها الكتلة السياسية السنية الأكبر؛ والثاني، إحباط مساعي خصومه في “الإطار التنسيقي” لخلق زعامة سنية موازية في معقله محافظة الأنبار، من خلال المجيء بشخصية توصف بأنها غير عشائرية وغير مؤثرة، خصوصاً في الأنبار، مثل محمود المشهداني الذي أُجبر على الاستقالة من منصب رئيس البرلمان الذي شغله بين عامي 2006 و2009 بسبب استياء النواب من افتقاره إلى الكياسة في التعامل؛ والثالث، دعم موقف نوري المالكي الذي يُعد الراعي الأول للمشهداني.
ودعم المالكي، بدوره، المشهداني من أجل تحقيق هدفين: الأول، كسر العرف الذي بات سائداً حول عدم السماح لمن خرج من منصب سيادي بالعودة إليه استناداً إلى مقولة “المجرب لا يجرب” التي طرحها السيستاني عام 2014 وأصبحت بمنزلة “الفيتو” على عودة المالكي إلى رئاسة الحكومة؛ والهدف الثاني، نيل نفوذ أكبر في طريقة إدارة البرلمان والقدرة على مناكفة رئيس الحكومة محمد شياع السوداني المدعوم بشكل أساسي من قيس الخزعلي زعيم “عصائب أهل الحق”، عبر تعطيل تمرير القوانين التي تقترحها واستجواب الوزراء، فضلاً عن التحكم بجدول أعمال البرلمان بما يخدم أجندة “ائتلاف دولة القانون”، لاسيما صوغ قانون الانتخابات الذي يريد المالكي هندسته بطريقة تحدّ من قدرة السوداني، الذي نجح مؤخراً في استقطاب ثلاثين نائباً مستقلاً لتشكيل كتلة “دعم الدولة“، على استغلال منصب رئيس الوزراء والموارد المالية المتاحة له في التأثير في اتجاهات التصويت في الانتخابات النيابية المقبلة، سيما أن الرجلين يُتوقع أن يتنافسا على جذب دعم الكتلة الانتخابية ذاتها من أبناء الطبقة المتوسطة وموظفي الدولة التي تُصوِّت تقليدياً لصالح رمز السلطة.
على الجهة المقابلة، ضغط فريق السوداني-الخزعلي بقوة من أجل انتخاب النائب سالم العيساوي، على الرغم من أن مباحثات “الإطار التنسيقي” قبل يوم من جلسة 18 مايو الماضي العاصفة، كانت تشير إلى أن الأمور ذاهبة إلى مصلحة انتخاب محمود المشهداني، لاسيما بعد إعلان “تقدم” دعمها له من جهة، وفشل العيساوي في إقناع زعيم “ائتلاف دولة القانون” بمنحه الثقة، من جهة أخرى. ويرى تحالف السوداني-الخزعلي في العيساوي، المتحدر من الأنبار، فرصةً إضافية لتقويض الحلبوسي وتفكيك حزبه وقاعدته الشعبية في الأنبار، من خلال الدفع نحو تكوين قيادة جديدة ذات امتداد عشائري واجتماعي أكبر، وهو ما ظهرت أولى مؤشراته بحضور خالد بتال وزير الصناعة عن حزب “تقدم” تلك الجلسة ممثلاً عن رئيس الوزراء للتأثير في النواب لمصلحة العيساوي، ما يؤشر إلى بداية عملية “نزوح” من معسكر “الحلبوسي” الى معسكر “السوداني” الذي يسعى بدوره إضعاف موقف الحرس الشيعي القديم (نوري المالكي ، وفالح الفياض ، وهادي العامري).
أمام هذه المعطيات، يبدو أن الثنائي المالكي-الحلبوسي وجدا في تعطيل انتخاب رئيس البرلمان واستمرار إدارته بالوكالة حتى إشعار آخر، بديلاً أقل تكلفة من عقد جولة الإعادة بين العيساوي الذي يحتاج إلى 8 أصوات إضافية للفوز بالمنصب، وبين المشهداني الذي يحتاج إلى 29 صوتاً آخر، ما يُنذر بأزمة ممتدة لفترة مفتوحة.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل رئاسة البرلمان
تبدو السناريوهات المطروحة حول مستقبل رئاسة مجلس النواب العراقي متقاربة جداً، وجميعها كما يبدو مرتبطة بقرار الفاعل الشيعي في المعادلة، إذ إن سيناريوهاً افتراضياً، مثل اتفاق “القوى السنية” على مرشح محدد لهذا المنصب بمعزل عن قرار “الإطار” الشيعي ليس مطروحاً أساساً، وفي حال حصل هذا السيناريو فلن يكون سوى صورة تكميلية لاتفاق “القوى الشيعية” أولاً. كما تُمكن ملاحظة غياب الفاعلين الأكراد من المعادلة نفسها بسبب الانقسام الواضح في موقف الحزبين الكرديَّين الرئيسيَن بين الجبهتين الشيعيتين داخل “الإطار”، إذ يميل حزب بارزاني إلى مصلحة المالكي، بينما يصوت حزب طالباني لمصلحة الخزعلي، ما يترك جلسة انتخاب رئيس البرلمان مفتوحة على السيناريوهات الآتية:
السيناريو الأول، إرجاء انتخاب رئيس البرلمان إلى الفصل التشريعي المقبل مع ترجيح تغيُّر اتجاهات التصويت لاحقاً لتصب في مصلحة محمود المشهداني، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً بناءً على معطيات عدة، أهمها:
- استمرار الانقسام الحاد في صفوف “الإطار التنسيقي” الشيعي بين جبهة نوري المالكي-فالح الفياض الداعمة لانتخاب محمود المشهداني لأسباب تتعلق أساساً بالحاجة إلى الحد من تنامي نفوذ قيس الخزعلي، الذي سيطر أتباعه على مكتب رئيس الوزراء وباتوا عملياً يمارسون سلطات واسعة في إصدار التوجيهات والتعليمات للوزراء، وبخاصة في المجال الاقتصادي وإحالة المشاريع والعقود، وبين جبهة السوداني-الخزعلي الداعمة لانتخاب سالم العيساوي بهدف إحكام السيطرة على الضلع الثالث من أضلاع مؤسسة الحكم، والانتهاء من الصداع الذي يمثله وجود الحلبوسي بوصفه مرجعية سياسية سنية قوية وديناميكية، كادت في لحظة واحدة أن تقلب موازين العملية السياسية بالانضمام إلى مشروع مقتدى الصدر لتشكيل حكومة الأغلبية السياسية، الذي كان الهدف الأساسي منه إقصاء الميليشيات الولائية والقوى الشيعية الموالية لإيران من معادلة السلطة والحكم.
- تمرد الكثير من النواب على قادة كتلهم بدوافع ذاتية تتعلق بعدم القناعة بخيارات مرجعياتهم السياسية، أو بفعل الإغراءات المالية التي يقال بأنها عُرضت علانية قبيل كل جولة من جولات انتخاب رئيس البرلمان الأربع التي عقدت منذ شهر يناير الماضي.
- تفسير المحكمة الاتحادية للمادة 55 من الدستور العراقي، الذي حرر الكتل السياسية من القيد الزمني الوارد في نص المادة “12/ثالثاً” من النظام الداخلي لمجلس النواب التي ألْزمت البرلمانَ بانتخاب رئيس البرلمان أو أي من نائبيه في الجلسة الأولى بعد حدوث الشغور في المنصب، ما جعل عقد الجلسة الأولى يتأخر شهرين بعد إقالة الحلبوسي، والجلسة الثانية بعد أربعة أشهر من الأولى، ما يعني أن تمديد الفصل التشريعي إلى شهر لن يكون كافياً لإعادة تنظيم صفوف الكتل الداعمة لكل واحد من المرشحَين.
- ربْط الحلبوسي والمالكي، اللذين يملكان كتلتين نيابيتين من 75 نائباً، مواقفهما من تمرير بعض القرارات المهمة، مثل المصادقة على جداول السنة الثانية من الموازنة العامة الثلاثية، التي أثار الكشف عنها غضب الكثير من نواب الإطار التنسيقي، بسبب ما عَدُّوه غُبناً لحقوق المحافظات الجنوبية ومحاباة لإقليم كردستان، سيجعل نجاح فريق السوداني-الخزعلي في تمرير ترشيح سالم العيساوي أمراً أكثر صعوبة من تمرير محمود المشهداني.
السيناريو الثاني، استمرار محسن المندلاوي في رئاسة البرلمان بالوكالة إلى أطول فترة ممكنة أو إلى نهاية الدورة الانتخابية. ويستند هذا السيناريو إلى جملة من المعطيات، من أبرزها:
- تفضيل محمد الحلبوسي إبقاء المنصب شاغراً على ذهابه إلى مصلحة أي شخصية سنية أخرى، بما فيها محمود المشهداني، بما يضمن احتفاظه بمكانة الزعيم السني الأول حتى وهو خارج السلطة، والحيلولة دون تمكن رئيس البرلمان المقبل من توظيف هيبة المنصب وصلاحياته السياسية والاقتصادية في صنع زعامة سنية موازية ستسحب البساط من تحت قدميه إن عاجلاً أم آجلاً، ناهيك عن أن ظفر سالم العيساوي بالمنصب سيشكل تحدياً لنفوذ الحلبوسي أو ما تبقى منه في محافظة الأنبار.
- ارتياح الكثير من قوى الإطار التنسيقي الشيعي، وبضمنهم النواب المستقلون القريبون من المندلاوي وعددهم يقترب من 15 نائباً، لفكرة الاستحواذ على منصب رئيس البرلمان ولو وكالةً.
- الرخصة القانونية التي منحتها المحكمة الاتحادية للبرلمان في مواصلة عمله كالمعتاد، وعدم ترتيب أي أثر قانوني على شغور منصب الرئيس، رفعت الضغط عن الكتل السياسية لإيجاد تسوية مُرضية أو الاستعجال في لعبة كسر الإرادة أو دفع الحلبوسي إلى تنفيذ وعيده بالانسحاب من الحكومة والبرلمان والعملية السياسية والتسبب بأزمة سياسية تستفز ردودَ فعل إقليمية ودولية من دون مبرر.
لكنْ ما لا يدعم هذا السيناريو وجود مخاوف داخل “الإطار” نفسه من طموحات المندلاوي، وإمكان تشكيله كتلة سياسية منافسة.
السيناريو الثالث، التوافق السريع بين قوى “الإطار التنسيقي” على دعم مرشح واحد. ويستند هذا السيناريو إلى جملة من المعطيات، من أهمها:
- ظهور بوادر زجّ مسألة انتخاب رئيس البرلمان في المساومات الجارية بين أقطاب الإطار التنسيقي بشأن منصبَي محافظ بغداد ومحافظ ديالى، مع توقيع الأعضاء الشيعة في مجلس محافظة بغداد على طلب إعفاء المحافظ المنتخب حديثاً بدعوى تجاوزه سن التقاعد، في حركة ضغط واضحة على زعيم “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي الذي يتبع المحافظ إليه، قد تتبعها خطوات أخرى في محافظة ديالى التي لا يزال المالكي يعلن أحقية ائتلافه في شغل منصب المحافظ فيها، طبقاً لاتفاق توزيع مناصب المحافظات بين قوى “الإطار التنسيقي”.
- كسر مقتدى الصدر عزلته السياسية والعودة إلى حشد أنصاره في تحركات احتجاجية مطلبية أو سياسية، ما سيفرض على القوى الشيعية الأكثر انتفاعاً من حكومة محمد شياع السوداني، إعادة حساباتها والتوقف عن استفزاز “الحرس الشيعي القديم”، وبخاصة نوري المالكي الذي كشف في أكثر من مقابلة تلفزيونية خلال الشهور القليلة الماضية عن استعداده لمدّ يد التعاون مع زعيم التيار الصدري.
- وجود اتفاق شيعي ضمني على أهمية عدم السماح بتبلور مرجعية سياسية سنية قوية، تفاوض من موقع الند للندّ لتنفيذ جملة من الاستحقاقات الواردة في البرنامج الحكومي، والتي جرى التنكر لها من قبل “الإطار التنسيقي”، مثل قانون العفو العام وإعادة النازحين وإخراج قوات الحشد الشعبي من المدن السنية، ما يرفع من احتمالات التوافق على ترشيح محمد المشهداني لاعتبارات تتعلق بسنّه المتقدمة وافتقاره إلى قاعدة شعبية سياسية أو اجتماعية داعمة.
ومع إمكانية تبلور هذا السيناريو بوجهٍ عام، فإن تحقُّقه لن يكون سريعاً وسوف تحتاج قوى الإطار الى مزيد من الوقت للتوصل إلى اتفاق.
الاستنتاجات
إن مشهد خلوّ منصب رئيس البرلمان في العراق، بصورة مؤقتة أو حتى دائمة، ينسجم تماماً مع السياق السياسي الذي يشهده العراق اليوم، وهو سياق سمح من خلال تظافر عوامل مختلفة، بهيمنة “الإطار التنسيقي” على المشهد العراقي مخدوماً باختلال التوازن السياسي الذي أوجده انسحاب التيار الصدري من المعادلة السياسية، والانقسام الحاد ضمن القوى السنية، وضمن القوى الكردية أيضاً.
وقد سمح هذا “الاستفراد السياسي” للقوى الشيعية (الإطار التنسيقي) بالدرجة الأساس، وبدرجات أخرى للقوى الكردية (الاتحاد الوطني الكردستاني والاتحاد الإسلامي) والسنية (السيادة والعزم والحزب الإسلامي) الأكثر قرباً من إيران، بالعمل على إضعاف خصومها المحليين داخل المكونات نفسها، والعمل على سياسة “تمكين” يراد لها أن تستمر لتفرض أمراً واقعاً مستقبلياً.
ولا يخرج الجدل حول منصب رئاسة البرلمان عن مشهد “الاستفراد السياسي” هذا، وما يترتب عليه من عدم الرغبة في تشكل زعامة للمجتمعات السنية قادرة على جمعها حول توجه واحد، وإن كان يضاف إليه رغبة إيرانية في تقويض أي اتجاه يدعم أفكاراً تتعلق بإنشاء إقليم فيدرالي في الأنبار وما يترتب عليه من قطع الامتداد الجيوسياسي الإيراني نحو البحر المتوسط.
وبهذا الحال، فإن تقليص “حزب تقدم” بزعامة الحلبوسي لطموحاته في استمرار السيطرة على منصب رئيس البرلمان، وتبني اختيار محمود المشهداني البعيد أساساً من الحزب والقريب من قوى الإطار، لم يكن مجرد تراجع “براغماتي” بل محاولة لتلافي المزيد من الانهيارات داخل الحزب تحت وقع الهجوم المستمر ضده، ومع ذلك لم يكن ذلك كافياً لتمرير ترشيح المشهداني لأن المطلوب هو عدم احتفاظ الحلبوسي بأيٍّ من مكامن القوة خلال المرحلة المقبلة التي تنبئ بعودة التيار الصدري إلى المشهد، ما يعني تهيئة مبكرة لأرضية لن تسمح للصدر باستعادة طموح إنشاء تحالف يقود الحكومة بمعزل عن قوى الإطار الأخرى.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/alsirae-ala-riasat-majlis-alnwwab-aleiraqi-ma-alkhatwa-attalia