تتصدر الصين دول العالم من حيث المساهمة في نمو الاقتصاد العالمي منذ عام 2006، حيث فاق الناتج الإجمالي للبلاد 14 تريليون دولار عام 2019، وأصبح الاقتصاد الصيني يمثل 19% من الاقتصاد العالمي، في حين تُمثل الصناعة في الصين 28.4% من القطاع الصناعي العالمي. معطياتٌ جعلت البلاد تتبوأ المرتبة الثانية كأكبر اقتصاد في العالم، وسط توقعات بأن تحتل الصين المرتبة الأولى بحلول عام 2027.
تسعى بكين لتحقيق “الحلم الصيني” من خلال فرض هيمنتها الاقتصادية والتجارية وبسط نفوذها حول العالم، وفي الوقت الراهن أصبحت الصين “دولة ضرورة” لكثير من الدول، وعبارة “صنع في الصين” التي غزت معظم البلدان وخاصة العربية والأفريقية وحتى الغربية منذ 40 عامًا كشفت ضخامة الإنتاج الصيني ومدى ارتباط اقتصادها بحركة الاقتصادات العالمية، إذ شكلت السلع الصينية في تلك الدول منافسة حقيقية حتى للسلع المحلية بسبب انخفاض أسعارها.
تبرز تأثيرات الصين الاقتصادية على العالم كله إلى الحد الذي دفع الكثير من الخبراء الاقتصاديين للترجيح، بأن أحد الأسباب الرئيسية في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي هو تراجع معدلات النمو الصيني، بل ذهب البعض من حكومات الدول الغربية، إلى التحذير من سطوة الاقتصاد الصيني على قطاعات مهمة واسعة وذات أبعاد استراتيجية.
ومن أهم العوامل الرئيسية وراء النهوض الاقتصادي في الصين شبكتها الضخمة من المصانع التي أدت إلى تقديم كل شيء للعالم، كما ساعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 على ترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية لا يُستهان بها، فقد وجد تقرير “ماكينزي” الذي حلل 186 دولة أن الصين هي أكبر وجهة تصدير لـ 33 دولة وأكبر مصدر للواردات لـ 65 دولة[1].
ومع انفجار الأزمة العالمية في عام 2008، والتي أجبرت الاقتصاد الصيني على دفع ثمن اعتماده الكامل على الصادرات لجأت بكين إلى تفعيل سوقها المحلي لتقليل تأثير ضعف الصادرات على نمو الناتج المحلي، من خلال تحفيز الاستهلاك المحلي الذي نما خلال السنوات الأخيرة بقوة وساهم بنسبة 60% من النمو الاقتصادي خلال الفترة ما بين 2015 إلى 2018، وبمعنى آخر أصبحت الصين أكثر اعتمادًا على نفسها، وأقل تعرضًا لبقية دول العالم، خاصة في ظل الحرب التجارية الحالية مع أمريكا.
هذا التحول في الاستراتيجية غيّر من مشهد العلاقة بين الصين والعديد من الدول والشركات العالمية، والتي كانت ولا تزال أسواقًا رئيسية للمنتجات الصينية وأبرزها الاقتصادات الآسيوية، حيث ترتبط هذه الدول بدرجة كبيرة مع الصين عبر سلاسل التوريد ورؤوس الأموال التي تضُخها بكين على شكل استثمارات وتحديدًا في الدول الآسيوية التي أصبح مصيرها مرتبطًا بمصير الاقتصاد الصيني لا العكس.
كيف استغلت الصين قوتها الاقتصادية لإسكات العالم عن انتهاكاتها؟
تستخدم الصين نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي بشكل متزايد لدرء الجهود العالمية لمحاسبتها على قمعها للأقليات الإثنية والدينية، وحالات التعذيب وعمليات الإعدام، إضافة لقمعها حرية التعبير والإعلام[2].
منظمات إنسانية وأممية دعت العالم للتحرك، إزاء ما اعتبرته “تحرّكًا صينيًا ممنهجًا لزعزعة حقوق الإنسان في العالم”، واتهمت بكين أنها تستفيد وتستغل قوتها الاقتصادية من أجل مهاجمة النظام العالمي وقيمه الأساسية، وأنها طورت أنظمةً إلكترونيةً شديدة التقدم من أجل مراقبة شبكة الإنترنت وقمع أي انتقادٍ للحكومة، خاصة فيما يتعلق بمعاملة المسلمين لديها، في حين تستخدم نفوذها الاقتصادي المتنامي من أجل قمع الانتقادات خارج حدودها[3].
كثيرٌ من الحكومات والشركات والجامعات في مختلف أنحاء العالم تفضل الصمت على الانتهاكات التي ترتكبها بكين، وخاصة ضد أقلية الأيغور المسلمة في إقليم “تركستان الشرقية”، حتى لا تفقد السوق الصيني واستثماراته الضخمة.
ومن هذه الاستثمارات مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين عام 2013، على نمط “طريق الحرير” التجاري في القرن التاسع عشر والذي ربط الصين بالعالم، وتهدف لتوثيق الروابط التجارية والاقتصادية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتتضمن المبادرة تشييد شبكات من السكك الحديدية وأنابيب نفط وغاز وخطوط طاقة كهربائية وإنترنت وبنى تحتية بحرية، ما يعزز اتصال الصين بالقارات الثلاث[4].
وحتى الآن توصّلت الحكومة الصينية إلى اتفاقيات تعاون في إطار هذه “المبادرة” مع 18 دولة عربية، بينما وقّعت شركات صينية عقودًا هناك بقيمة 35.6 مليار دولار، منها 1.2 مليار دولار مخصّصة لقطاعات الطاقة والتصنيع المحلية. وفي الوقت نفسه، بلغت تجارة الصين مع الدول العربية 244.3 مليار دولار عام 2019. مثل هذه العلاقات تعطي الدول العربية سببًا فعالًا لتجنب انتقاد الصين، وهذا ما اعتادت بكين تذكير تلك الدول به.
هناك أسبابٌ أخرى تدفع بعض دول العالم وخاصةً العربية والإسلامية إلى الصَّمت عن انتهاكات الصين ضد الأقلية المسلمة، فالحكومات العربية ترسم سياساتها الخارجية بناءً على الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بكل منها[5]. ومع ذلك، يبدو أن استعدادها الشامل لتأييد المعاملة الصينية للإيغور أو تجاهلها تبدو نابعة من عدة مخاوف مشتركة، أبرزها العامل الاقتصادي.
الصين استطاعت النفاذ إلى أقوى اقتصادات العالم، لكن في العالم الإسلامي، حيث تضعف المقاومة الاقتصادية المحلية، واحتياج السوق المحلي لما يُصنع في الصين، قد تجد الحكومات نفسها أمام ضرورة خلق علاقات قوية مع بكين، ثمَّ تبدأ أول فصول فهم الصمت الإسلامي على تضييق الصين ضد أقلية الإيغور المسلمة في إقليم “تركستان الشرقية”[6].
تشكّل المصالح الاقتصادية سببًا وجيهًا في تعامل الحكومات مع الصين، فالسعودية هي أكبر شريك تجاري للصين في الشرق الأوسط، وقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين 63.3 مليار دولار عام 2018، بارتفاع نسبته 26.7% عن العام السابق.
بينما تصل القيمة الحالية للتبادل التجاري غير النفطي بين الإمارات والصين إلى 43 مليار دولار، وبينها وبين تركيا إلى 26 مليار دولار، وبينها وبين إيران إلى 31.2 مليار دولار، في حين أضحت الصين مستثمرًا مهمًا في الجزائر، حيث فازت بالكثير من الصفقات العمومية[7].
كذلك الحال مع الكويت، حيث تعدّت قيمة التبادل التجاري بين البلدين 12 مليار دولار في 2017، وتعمل فيها قرابة 40 شركة صينية في قطاعات النفط والبناء والبنى التحتية، وتعد الكويت أول دولة عربية استثمرت في الصندوق السيادي الصيني بمبلغ 10 مليارات دولار منذ عام 2005، وهي أيضًا من أوائل الدول الموقعة على مبادرة “الحزام والطريق” مع الصين.
انتقادات واشنطن سياسات بكين ضد الإيغور.. دوافعها إنسانية أم اقتصادية؟
أدى تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين على المستوى التجاري والاقتصادي وحقوق الإنسان إلى فرض الإدارة الأميركية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 قيودًا على منح تأشيرات لمسؤولين في الحكومة الصينية والحزب الشيوعي تحملهم “مسؤولية قمع” الأيغور والأقليات المسلمة.
مثل هذه التحركات الأمريكية التي تبدو في ظاهرها إنصافًا للأقلية المسلمة في الصين، لا تخرج عن كونها ضمن إطار الحرب التجارية المشتعلة بين البلدين، والتي بدأت بعد إعلان ترامب في آذار/مارس 2018 فرضَ رسوم جمركية على السلع الصينية، ما دفع بكين إلى الرد بالمثل[8].
يتلخص الموقف في استخدام أمريكا للأيغور كورقة ضغط لإبطاء وعرقلة صعود الصين اقتصاديًا وتقنيًا، لذلك لجأت الولايات المتحدة بشكل متكرر إلى إثارة القضايا الإنسانية المتعلقة بمسلمي الصين بوصفها انتهاكًا لحقوق الإنسان.
لماذا تُصعّد الصين ضد الأيغور وما أهمية إقليم “تركستان الشرقية”؟
الأيغور هم أقلية مسلمة من أصول تركية تعيش في منطقة “تركستان الشرقية” التي احتلتها الصين عام 1949، وحولت اسمها إلى “شينغ يانغ”، أي الحدود الجديدة. يُقدر عددهم بقرابة 13 مليون نسمة، وكانوا يشكلون أغلبية ساحقة قبل أن تقوم الصين بتوطين سكان من عرقية “الهان” في تركستان، بهدف إحداث توازن عرقي وإثني لتمنع أي محاولة للاستقلال عن الصين خصوصًا بعد انضمام أيغوريين إلى صفوف جهاديين في أفغانستان والشيشان.
ولم تكتفِ الصين بالتغيير الديمغرافي وإيصال نسبة الأيغور إلى قرابة 50% فقط بعدما كانوا يشكلون 75%، بل اتبعت سلسلة من الإجراءات منذ عام 2017 لسحق هذه الأقلية وغسل دماغها، وذلك تحت ذريعة مكافحة التطرف، إذ وضعت بكين استراتيجية أمنية قمعية لضبط الإقليم من خلال مراقبة تحركات ونشاطات الأهالي، ووضعهم في معسكرات اعتقال جماعي ضخمة[9].
تنوعت الممارسات اللاإنسانية التي قامت بها الحكومة الصينية ضد الأقلية المسلمة من إعدامات وتعذيب واغتصاب وانتزاع أعضاء من أجساد المحتجزين والإجهاض القسري وتلقين الإلحاد قسرًا، ويمكن القول إن الصين تريد اجتثاث الإسلام من الإقليم أو تفصيل “إسلام شيوعي”، تُلزم المسلمين في “تركستان الشرقية” باعتناقه والتخلي عن عاداتهم وتقاليدهم.
استكملت الصين سلسلة الممارسات العنصرية ضد مسلمي الأيغور بإصدارها في تشرين الأول/أكتوبر 2020 “قانون الحج”، وفرضت من خلاله قواعد جديدة لاختيار المتقدمين المؤهلين لأداء فريضة الحج تضفي بشكل ملموس “الطابع الصيني” عليه، ومن ضمن القواعد أن يستوفي المتقدم “معيار الوطنية وملتزم بالقانون مع حسن السيرة والسلوك”، كما منعت من أدّوا الفريضة سابقًا من التقديم مجددًا، إضافة إلى حظر الحج الفردي أو الشخصي[10].
ولا يبدو أن الإجراءات التي قامت بها الصين ضد الأقلية المسلمة جاءت لأسباب تتعلق بمحاولة سحق معتقداتهم الدينية فحسب، بل إن “تركستان الشرقية” أو “شينغ يانغ” تتمتع بموقع استراتيجي مؤثر بشكل كبير في مشروع “الحزام والطريق”، فالإقليم له حدود مع 8 دول، وهي (روسيا، منغوليا، كازخستان، قرغيزستان، كازخستان، طاجكستان، أفغانستان، باكستان، والهند)، ما يعني أنه سيكون بوابةً اقتصادية رئيسية، ومن غير الوارد السماح ببقاء أي جذوة قتالية فيه أو نزعة انفصالية لسكان الإقليم، فهذا الأمر سيصطدم بالمشروع الاقتصادي العابر للقارات، ومن هنا كانت الأسباب الاقتصادية سببًا مباشرًا في الحملة الشعواء التي شنتها الصين الشيوعية ضد الأقلية المسلمة في “تركستان الشرقية”.
ويرى البعض كذلك أن ما يحصل مع الأيغور يشابه في كثيرٍ من جوانبه مع ما حصل مع الشيشان[11]، إلا أن روسيا تمكنت بطريقة أكثر ذكاءً من احتواء المسألة الشيشانية بعد التدمير الكبير الذي تعرضت له بلادهم.
وبالرغم من أن روسيا تعد حليفًا مهماً للصين في مواجهة المعسكر الغربي، إلا أنها تدرك مدى خطورة نجاح المشروع الذي تعمل عليه الصين “الحزام والطريق”، لكن ذلك لم يدفعها إلى دعم أقلية الأيغور، لما قد يشكله ذلك من حافز لثورة ضدها في الشيشان، ما يعني أنه يمكن القول إن روسيا وقعت بين نارين، إما أن تدعم الأيغور وهذا قد يخلق لها مشاكل في الشيشان، أو أن تلتزم الصمت وتبارك النهج الصيني ضدهم، وهذا ما ستكون له تداعيات على المدى البعيد بعد سيطرة الصين على الطرق التجارية المهمة الموصلة إلى السوق الآسيوية.
خاتمة:
على ضوء ما تقدم يظهر جليًا أن الصين استغلت قوتها الاقتصادية ونفوذها المتنامي لإسكات أي انتقادٍ قد تتعرض له إزاء الانتهاكات التي ترتكبها ضد أقلية الأيغور، أو حتى فيما يخص خروجها عن أي من القوانين الأممية وحرية التعبير، فالعامل الاقتصادي لعبَ دورًا كبيراً في شراء صمت الدول العربية والإسلامية ضد ما تتعرض له الأقلية، إلى حدٍ جعل الكثير من تلك الدول تقف إلى جانب الصين بشكل علني في مجلس الأمن وتدافع عن الممارسات الصينية في إقليم “تركستان الشرقية”، كما يتضح أن وقوف بعض الدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة مع الأقلية المسلمة ليس نابعًا بالضرورة من منطلقٍ إنساني، بل إنما قد يندرج في إطار تشويه سمعة الصين وفضح ممارساتها أمام العالم، من أجل فرض عقوبات قد تزعزع من مشروعها بأن تكون القوة الاقتصادية رقم واحد في العالم.
سكاي نيوز- لماذا يحتاج العالم للصين أكثر من حاجتها إليه؟
هيومن رايتس وتش- الحكومة الصينية تمثل تهديدا عالميا لحقوق الإنسان
Akı -هيومان رايتس واتش: الصين تستخدم نفوذها لزعزعة حقوق الإنسان بالعالم
الغد – ما هي مبادرة الحزام والطريق.. نظرة عامة
معهد واشنطن – الدول العربية تسمح للصين بالإفلات بفعلتها في قمع الإيغور
قنطرة – قمع الإيغور المسلمين في الصين – دول إسلامية صامتة ودول غربية منددة
دويتشه فيله- قمع أقلية الإيغور.. لماذا كل هذا الصمت “الإسلامي”؟
صحيفة الاستقلال- رغم العداء.. لماذا دافعت واشنطن عن المسلمين المضطهدين بالصين؟
برق- المشهد الصيني: أهداف سياسات الصين الاستراتيجية في إقليم شنجيانغ
الجزيرة- في الصين.. “الوطنية” شرط لأداء فريضة الحج
ن بوست- إيكونوميست: الصين تصنع شيشان جديدة من مسلمي الإيغور