أحمد عليبة
بدأت روسيا عملية غزو شاملة لأوكرانيا من جميع الجبهات، فجر الرابع والعشرين من فبراير 2022، حيث تحركت أطقم الدبابات الروسية من الشمال عبر بيلاروسيا، بالتزامن مع قوات أخرى من الغرب من داخل روسيا، وعمليات إنزال بحري عبر الجنوب من بحر “أزوف” و”القرم”، بينما بدأت عمليات الاشتباكات على أطراف “لوغانستيك” التي اعترفت بها موسكو كجمهورية مستقله قبل يومين من بدء الغزو في “شاستيه” التي كانت واقعة تحت سيطرة القوميين الموالين لنظام كييف في “دونباس”، فيما أعلن الجيش الأوكراني أن منظوماته الدفاعية أسقطت خمس طائرات ما بين مقاتلات ومروحيات روسية، رد عليها الجيش الروسي بالنفي وباستهداف تلك المنظومات.
الضربة الأولى: شلل وحصار عسكري لأوكرانيا
يعكس التصعيد العسكري الروسي المباغت على أوكرانيا في الساعات الأولى اتجاه موسكو لعملية حصار شاملة (برية وجوية وبحرية) لأوكرانيا، كما تشير الضربة الروسية الأولى إلى انهيار متسارع للدفاعات الحدودية الأوكرانية. وانطلاقًا من “دونباس”، استهدفت المنظومات الدفاعية فتح الأجواء بداية من الشمال، وبعد أقل من خمس ساعات تم استهداف الدفاعات أيضًا في منطقة “لفيف” غربًا باتجاه الحدود الأوكرانية مع بولندا، ومع عمليات الإنزال البحري الجنوبي من “القرم” يبدو أن عملية التطويق الشاملة تحكم هذا الحصار، وبالتوازي بدأت عمليات إطلاق صواريخ في العمق على العاصمة “كييف” التي بدت خالية من السكان الذين هرعوا إلى الملاجئ، ومحطات المترو.
على هذا النحو، يمكن القول إن الضربة الأولى أيضًا أحدثت شللًا عسكريًا مباشرًا للقوات الجوية الأوكرانية (12 مطارًا في جميع الأنحاء تم استهدافها وخروجها عن الخدمة)، وتعمل مراكز القيادة للانفصاليين في المرحلة الأولى في دونباس، وكذا السيطرة البحرية للقوات الروسية، على الحيلولة دون وصول أي تعزيزات عسكرية أخرى من الخارج، وبالتالي لم يعد من خيار في المرحلة الأولى سوى تحرك القوات البرية التابعة للجيش الأوكراني، لكنه أيضًا لن يكون خيارًا سهلًا. صحيح أنها أفضل حالًا من القوات الجوية وربما البحرية، إلا أن وضع انتشارها في الفترة الأخيرة، وأداءها في حالات التعبئة منذ العام الماضي استعدادًا لهذا اليوم، كاشف أيضًا عن أن مقاومتها ستكون محدودة مقابل القوات الروسية.
وبالنسبة للانتشار العسكري الروسي، فإن الطوق البري والبحري والحصار الجوي هو تحرك للخطوط الأمامية، بينما في الخطوط الخلفية تساند قوات عسكرية من الشمال قوات بيلاروسية، وهي الساحة الاستراتيجية التي بدأت جاهزيتها قبل أكثر من أسبوع عبر مناورات “الردع الاستراتيجي” بما فيها استعدادات الأسلحة “النووية” وصواريخ “كينجال” “الفرط صوتية”، كما تم تأهيل أسطول البحر الجنوبي الروسي المعززة بطرادات “موسكفا” و”كورفيت” وغواصات “كيلو”، أما دفاعيًا فتنتشر بطاريات اعتراضية ومنظومات هجومية لصواريخ “إسكندر” في “أوسيبوفيتشي” في عمق بيلاروسيا، إضافة إلى نشر منظومتي S-400 هناك أيضًا، فضلًا عن نشر ثلاث منظومات أخرى منها في “كراسنودار كراي” باتجاه خطوط التماس مع كل من أجواء “جورجيا” و”البحر الأسود” استعدادًا لأي هجوم جوي محتمل من البحر، كما تم نشر كتائب متنوعة من هذه المنظومات في “يلينا” باتجاه الشمال لتعزيز الجبهة مع حدود البلطيق. ويُشير هذا الانتشار إلى جاهزية روسية للضربة الثانية، كسيناريو محتمل في حال أقدمت قوات الناتو على أي رد فعل من خارج أوكرانيا.
استعدادات “الناتو”: حالة تعبئة وطوارئ دفاعية
بينما بدأ التحرك الروسي عسكريًا، فإن استعدادات الناتو العسكرية أيضًا للانتشار بدأت منذ منتصف فبراير 2022، حيث كانت هناك شكوك لدى الناتو في إمكانية تراجع موسكو عن غزو أوكرانيا، وبالتزامن مع الاجتياح الروسي انطلق اجتماع مجلس الناتو للتعامل مع التحرك الروسي، ويعكس وضع “التعبئة” استعدادًا لعملية طوارئ دفاعية في المقام الأول للجدار الشرقي لأوروبا (دول البلطيق، وبولندا، وألمانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، والمجر، وبلغاريا)، علمًا بأن العديد من البنية الأساسية في العديد من الدول “تحت الإنشاء” ولا سيما في بولندا. وفيما يعتقد أن التحرك الروسي باتجاه أوكرانيا جاء كخطوة استباقية لضم أوكرانيا إلى الحلف، فمن المرجح أن ترحيل هذه الخطوة لم يأتِ من جانب الناتو في إطار سياسة “الباب المفتوح” للدبلوماسية بقدر عدم جاهزية أوكرانيا للانضمام من الناحية العسكرية، وبالتالي فإن حالة التعبئة الحالية في شرق أوروبا هي جاهزية ليست للرد على روسيا التي استُخدم ضدها سلاح العقوبات لعزلها اقتصاديًا عن العالم، ولكن استعدادًا لما أطلق عليه الاتحاد الأوروبي في ساعات الغزو الأولى محاولات موسكو “تخريب الهندسة الدفاعية لأوروبا”.
في هذا السياق، نشرت القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا “يوكوم” 4000 جندي في بولندا وليتوانيا وأستونيا (منها فوج ألماني – استطلاع ومدفعية 360 جنديًا – تم نشرها قبل لقاء “بوتين – شولتز”) بالتزامن مع إعلان البنتاجون وضع نحو 8500 جندي، غالبيتهم من فرقتي المظليين الـ82 والـ101 في حالة تأهب عالية في قاعدتي فورت براغ في نورث كارولاينا وفورت كامبل في كنتاكي، لنقلهم إلى شرقي أوروبا. فيما تم نشر مجموعة قاذفات B-52H الاستراتيجية في قاعدة “فيرفورد” البريطانية، في 10 فبراير 2022، وبالتزامن أيضًا أعلن أمين عام حلف الناتو ينس سلتنبريج أنه يمكن نشر قاذفات أخرى في رومانيا، بالإضافة إلى الأصول الرئيسية للحلف التي باتت في وضع استعداد، ومنها على سبيل المثال نشر نظام إيجس أشور Aegis Ballistic Missile Defense System الأمريكي المضاد للباليستي في بولندا ورومانيا (ديفيسلو) وتركيا (كورجيك) ومقر قيادة عملياته في ألمانيا، بالإضافة إلى قوة الرد السريع وقوامها 4600 جندي، ومجموعة العمليات المشتركة بقيادة فرنسا التي تضم 40 ألف جندي يمكن تجهيزها خلال 3 أيام للانتشار، بالإضافة إلى القيادة العليا في بلجيكا (مونس).
على هذا النحو لا يزال مبكرًا نوعًا ما احتمال القيام بضربة ثانية، فعلى الأرجح وكرد فعل يعمل الناتو بالتزامن مع تعزيز دفاعاته في شرق أوروبا على تقدير الموقف للتحرك وفق شكل التحرك الروسي في كييف، وحجم القوات والإمكانيات التي ستوظف في هذه العملية، لكن حالة التعبئة الحالية لا تعكس اتجاهًا للضربة الثانية، والتي ستستغرق استعدادات مضادة لثلاثة أيام لتعبئة شاملة، لكن على الجانب الآخر سيتوقف تقدير الموقف على الموقف الصيني لمؤازرة روسيا، وفي سياق الاصطفاف هناك تعويل على الجانب التركي العضو في الناتو، فأنقرة ساهمت في تعزيز قدرات “أوكرانيا” بطائرات البيرقدار المسيرة كؤشر على التزاماتها تجاه الناتو، لكن في المقابل فإن روسيا تعول هي الأخرى على تركيا في إغلاق البسفور، وهو تحدٍّ كبير لأنقرة، وهي خطوات دقيقة لما قبل خوض حرب عالمية ثالثة، لا يعتقد أنها ستكون في مصلحة أي من الأطراف، وستكون السيناريو الأسوأ للعالم بأسره.
إجمالًا، بدأت روسيا بفرض قواعد الاشتباك باجتياح أوكرانيا، وهي في واقع الأمر لم تباغت أوكرانيا بقدر ما باغتت الناتو، رغم توقعاته وتقديراته العسكرية بأن الغزو كان أكثر احتمالًا، وبالتالي أصبح الناتو في مأزق رد الفعل العسكري، وحتى الآن فالأرجح هو حماية الخطوط الأمامية للحلف على خطوط التماس مع روسيا استعدادًا لما هو قادم.
.
رابط المصدر: