تتسم المرحلة الحالية من المواجهة الأميركية-الإيرانية بتوتر نتج عن دخول الدولتين، عام 2020، باستهدافات تخطت المألوف: اغتيال الجنرال سليماني وأبو مهدي المهندس في مطار بغداد واستهداف إيراني مباشر لقاعدة عين الأسد. ولكل دولة حساباتها التي اجتمعت علی ضرورة الردع وتثبيته. وبعد ثلاثة أشهر من تلك الجولة وبينما يصارع ثاني رئيس وزراء عراقي مكلف في 2020 الأيام لرأب الصدع الداخلي بامتداداته الخارجية، تخيم نذر التصعيد علی المشهد العراقي نتيجة تحركات أميركية علي عدة صُعُد برز العسكري منها بشكل أوسع إعلاميًّا، وردود إيرانية تتوعد بالرد علی أي اعتداء، ومواقف عراقية بين هذا وذاك تحاول النأي بالعراق جانبًا. إنها جولة جديدة ترتكز علی السالفة وتبني عليها، تريد الولايات المتحدة من خلالها تثبيت الحاصل بمكاسب جديدة مرتكزة علی الفراغ الذي تراه قائمًا منذ الثالث من يناير/كانون الثاني 2020. فكيف تقرأ طهران السياسة الأميركية وتحركاتها الجديدة؟ وما إمكانية حدوث مواجهة بين الطرفي؟
تحركات أميركية
ثمة حراك عسكري أميركي مستجد ترصده إيران عن كثب، حسب رئيس أركانها، اللواء باقري(1)، وهي لن تقوم بالاعتداء علی أحد لكن ستلقن المعتدي دروسًا، حسب وزير خارجيتها. والمستجد عبارة عن نقل معدات وعسكريين وتقنيين ومنظومة بطاريات باتريوت إلی قاعدة عين الأسد وتجهيز مطارها لاستقبال قاذفاتB-52، وهو حراك عسكري رفضته رئاسة الوزراء العراقية التي طالبت بـ”تهدئة الموقف” ثم أصدرت بيانًا ضد الفصائل التي استهدفت قاعدة التاجي وقوات الاحتلال بعد رفض واشنطن مطلب التهدئة(2).
ولم يكن خطاب الرئيس الأميركي ووزير خارجيته ليضع القوات الإيرانية في جهوزية تامة لولا رصد الأخيرة تحركات القوات الأميركية في العراق. وبيَّن تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، في 27 من مارس/آذار 2020، أنه بالإضافة لزيادة المعدات العسكرية الأميركية في العراق وتزويد قواتها ببطاريات باتريوت وقاذفاتB-52 ومسيرات ريبر المسلحة وغيرها من المعدات العسكرية واللوجستية وقوات دعم وهندسة، تم إصدار أوامر من قبل البنتاغون لقوات القيادة المركزية في الشرق الأوسط للتخطيط لتدمير كتائب حزب الله العراقي(3).
وكانت وسائل إعلام قريبة من محور المقاومة نشرت منذ منتصف مارس/آذار تقارير وأخبارًا عن عملية انقلاب تحضِّر لها واشنطن اعتبرها البعض “بروباغاندا” لتبرير أعمال الحشد الشعبي في العراق (4). وجاء تقرير نيويورك تايمز ليؤكد الحراك الأميركي ضد الحشد الشعبي، وإن لم يأت علی ذكر مصطلح الانقلاب إلا أنه أبرز إلی جانب ذلك، خلافات داخل الإدارة الأميركية حول الموضوع وأن الأمر الصادر للتخطيط والاستعداد ضد كتائب حزب الله جُوبِه بطرح المخاطر المترتبة علیه من قبل قائد القوات الأميركية في العراق. فما هي دوافع الحراك العسكري الأميركي؟ وهل من أسباب محددة لاختيار الظرف الحالي؟
هناك ثلاث رؤى تُطرح حول مآرب هذه التحركات، تركز الأولی علی ازدياد تخوف واشنطن من الحشد الشعبي وضرورة تحصين قواتها بالتالي كما أشار مستشار المرشد الأعلی للشؤون العسكرية، اللواء رحيم صفوى (5)، بينما ترى الثانية أن الحراك يأتي في سياق التهديدات المطروحة من قبل صقور الإدارة ضد محور المقاومة، كما رأى وزير الخارجية في تغريدته المذكورة مثلًا. وحسب الثالثة، فإن واشنطن تستعد لسحب قواتها، أو جزء منها، من العراق (6). وثمة نقاط تُطرح بخصوص هذا النقاش الساخن في أوساط إيران ومحور المقاومة.
لقد بات ردع طهران خطابًا تسويقيًّا لسياسة إدارة ترامب تجاه إيران وتراه دوائر فكرية واستراتيجية أميركية ضرورة ملحَّة -وهناك نقاش مستمر في الداخل الأميركي حول هذه المسألة.(7) وقد أعلنت الإدارة الأميركية ردع إيران هدفًا لعملية الاغتيال في مطار بغداد، في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020 (8). وحاولت كل من طهران وحلفائها إبطال مفعول الردع المرجو من تلك العملية. وإن جاء الرد الإيراني محدودًا حتی الآن، فإن استمرار استهداف فصائل الحشد الشعبي للقوات الأميركية والقواعد التي تضمها أسقط بالفعل المرجو أميركيًّا من تلك العملية. تحاول واشنطن من خلال استعادة المبادرة، وإجلاء القوات والمعدات من القواعد الأقل تحصينًا إلی أخرى يجري العمل علی تحصينها بشكل أفضل، واستهدافاتها للحشد الشعبي ووعيد رئيسها ومسؤوليها باستعادة الردع الذي تهاوى عمليًّا.
وللتركيز علی الردع أسباب يأتي علی رأسها السعي للحد من الخسائر الأميركية والبشرية منها بشكل خاص. فبينما صوَّت البرلمان العراقي علی قرار غير ملزم لإنهاء التفويض العسكري للقوات الأجنبية ولاسيما الأميركية (9)، لا يبدو واردًا في حسابات الإدارة الأميركية الخروج من الأراضي العراقية. وقد قامت القيادة المركزية للقوات الأميركية بإدخال منظومات دفاعية ومعدات عسكرية أكثر دقة وفتكًا إلی العراق للحد من الخسائر عبر ردع يرتكز علی التهديد وتوسيع الترسانة الأميركية تارة والرد علی الهجمات ضد قواتها تارة أخرى. والواضح أن الأمر لم يستقم للإدارة الأميركية حتی الآن وكان قائد القيادة المركزية الأكثر وضوحًا في ذلك بالقول: إن الخطر مستمر وإن الوضع لم يتحسن بعد اغتيال الجنرال سليماني. لذلك، أصبح الحد من الخسائر أحد الأهداف الرئيسة للمرحلة الراهنة.
وكثفت واشنطن نشاطها منذ عملية الاغتيال لملء الفراغ الناتج عنها. وقد بُنيت هذه الرؤية علی واقع الدور والتأثير المباشر لكل من الجنرال سليماني والقائد أبو مهدي المهندس في إدارة الصراع مع الولايات المتحدة. ويأتي النشاط العسكري لتعزيز النشاط السياسي الذي يقول بضرورة استخدام الفراغ وتتويج العملية السياسية العراقية بأوليجاركية تدين بالولاء للولايات المتحدة -وهو وضع أشبه بالفترة الليبرالية الأولی وولاء الأوليجاركية الحاكمة لبريطانيا. ويصب أمر البنتاغون والحديث عن الانقلاب في ذات الاتجاه ويهدف بوضوح لإضعاف إيران وحلفائها. ونتجت عملية الاغتيال عن زيادة قوة حلفاء إيران وتراجع أعدائها بشكل غير مسبوق بعد انهيار داعش وتنظيم البعث في العراق، فمن أهدافها إضعاف طهران وإعادة التوازن الأقرب للمطلوب أميركيًّا وذلك عبر ضرب حلفاء إيران من جهة واستهداف العلاقة الإيرانية-العراقية متعددة الأبعاد والمستويات من جهة أخری.
من الواضح أيضًا أن الحراك العسكري الأميركي يأتي في سياق سياسة الضغط الأقصی التي انتهجتها ضد إيران، ويمكن تتبع العلاقة بين أجزاء مهمة من السياسة الأميركية تجاه العراق في إطار رؤيتها تجاه طهران. ومن هنا، تنبع أهمية استهداف العلاقات الإيرانية-العراقية وتقليمها، وتحجیم قوة حلفاء إيران، وأهم من ذلك الإتيان بالبدائل المدعومة من الولايات المتحدة الباقية في العراق. وبشكل عام، فإن الحراك العسكري الأميركي مرتبط بعداء واشنطن لإيران ومحاولتها زيادة الضغط عليها.
ردود إيرانية
اتسمت الردود الإيرانية بخطابية هي للردع أقرب. فبعد اتهامها من قبل الرئيس الأميركي بالتخطيط للهجوم علی القوات والممتلكات الأميركية في العراق، أعاد وزير الخارجية الإيراني التذكير بأن بلاده لن تكون سبَّاقة للحرب لكنها سترد علی المعتدي. وكان رئيس أركانها قد أسهب في إيضاح رصد قواته التحركات الأميركية الجديدة في العراق وجهوزيتها العسكرية واستعدادها للرد كما سلف. وتلتها ردود أخرى عسكرية وسياسية رسمية محذرة من خطر التهديد الأميركي تارة ومُقلِّلة من أهمية التحرك باعتباره ناجمًا من خوف واشنطن من الهجمات علی قواتها. ويبقی السؤال قائمًا حول واقع السياسة الإيرانية في المرحلة الجديدة وما إذا كانت ستقود لمواجهة.
استُهدفت طهران بضربة موجعة، في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020؛ وذلك بعد مناوشات بين القوات الأميركية وفصائل من الحشد الشعبي. وقد هيأت للعملية الرؤية الأميركية بأن أي تحرك من قبل الحشد هو عمل إيراني غير مباشر ولذلك سيُحسب علی طهران. قال ذلك وزير الخارجية الأميركي (10) وأُعيد التأكيد عليه من قبل العديد من مسؤولي الإدارة الأميركية، وبالفعل اعتبرت واشنطن استهداف تلك الفصائل سفارتها وأماكن وجود قواتها ضربات إيرانية بالوكالة. ولم يأت حادث الاغتيال بمعزل عن تلك القراءة الرابطة والموحِّدة بين عمل الحشد العراقي وأهداف وسياسة إيران إزاء واشنطن.
وبالفعل، أثَّر الاغتيال علی السياسة الإيرانية بشكل متدرج وبدأت واشنطن التقاطه بتدرج أكبر؛ فقد زار العراق منذ الاغتيال كل من رئيس المجلس الأعلی للأمن القومي، علي شمخاني، وقائد فيلق القدس، إسماعيل قاءاني. وإلی جانب الكثير من النقاط التي طرحها شمخاني، لم تَفُتِ المتابعَ الثقةُ التي أراد شمخاني نقلها حول رؤية إيران تجاه العراق بعد حادث الاغتيال حين قال ردًّا علی سؤال عن التدخل الإيراني في العراق: “لا سبب لتدخُّل إيران”، وإنه باستطاعة العراقيين أنفسهم “إدارة أمور العراق ولا حاجة لتدخل إيران”(11). وهي النقطة ذاتها التي قيل: إن الجنرال قاءاني كان قد نقلها في زيارته الأخيرة للعراق حول رؤية إيران. ونقل قاءاني رؤية وأولويات إيران واستمرار مواجهتها واشنطن وحلفائها والمحاور الأخرى، لكن المهم والجديد قوله: “إن سياسة إيران الجديدة هي عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية”(12). إذن ثمة مستجد إيراني تجاه العراق يقول: على العراقيين إدارة أمورهم. فما الذي يعنيه هذا الموقف؟ وكيف يجتمع مع أهداف إيران العليا في المنطقة وفي مواجهة الولايات المتحدة؟
مما لا شك فيه أن السياسة الإيرانية بعد عملية اغتيال الثالث من يناير/كانون الثاني هي استمرار لما قبلها في الكثير من الأبعاد. وقد أمر القائد الأعلى للقوات المسلحة باستمرار تلك السياسة في خطاب تعيينه الجنرال قاءاني خلفًا لسليماني(13). فالمستجد لا يعني تغييرًا جذريًّا ولا هو ترك للحلفاء تحت رحمة العدو. والالتزام الإيراني بدعم الحلفاء مستمر لكن تقرَّر -فيما يبدو من النقاط السالفة- أن يُترك للحلفاء إدارة الصراع مع واشنطن بل وتحديد أولوياته محليًّا. بعبارة أوضح، لا خطوط حمراء ولا نقاط محددة لإيران في توجيه أو تنسيق سياسة الحلفاء تجاه واشنطن وقواتها في العراق. النقطة الأخرى هي أن المستجد لا يعني ترك إيران أولوياتها تجاه الولايات المتحدة والعراق. فالعراق الصديق هدف استراتيجي لا غنی عنه لدولة تحده بـ1458 كلم وعانت عداء حكامه في الثمانينات، بحرب هي الأشد فتكًا في تاريخها الحديث، وهو، حسب الرؤية الإيرانية، ما تريد واشنطن إحياءه بإضعاف حلفاء إيران وتنصيب أوليجاركية (نخبة رجال الأعمال) موالية لها. لذلك، فهي تنسق مع الحلفاء في قضايا أخری وتنقل لهم مخاوفها الأمنية وتتعامل مع مطالبهم بجدية كالسابق.
ومن أهم رسائل هذا التحول أن استهداف الفصائل العراقية للقوات الأميركية هو فعل عراقي وطني لا يرتبط بالضرورة بالترتيبات الإيرانية لمواجهة واشنطن. وذلك أمر اتضح في الهجوم علی التاجي -الذي راح ضحيته عسكريون أميركيون وبريطاني(14). فقد ذكر تقرير نيويورك تايمز آنف الذكر ومصادر غربية أخرى أن الهجوم لم يحدث بالتنسيق مع طهران، بل وزادت رويترز أن الهجوم لم يكن متفقًا عليه حتی في داخل الحشد الشعبي(15). وأتت رسالة الوزير ظريف ردًّا علی تهديد ترامب في نفس الاتجاه: لإيران أصدقاء لا وكلاء في العراق. ويبدو أن الرسالة وصلت للإدارة الأميركية، وانعكس في قرار البنتاغون استهداف كتائب حزب الله بدل تحميل إيران المسؤولية. ومعنی ذلك أن إيران، وإلی حين، ليست معنية بتوحيد رؤی وسياسات حلفائها إزاء واشنطن وعلی الأخيرة التعاطي مع الأخطار المحدقة بعُدَّتها وعديدها في العراق كما أرادت: دون تدخل إيراني! بذلك، تضع طهران القوات الأميركية تحت ضغط هائل وذلك دون تحريك ساكن.
ويشير التحول الإيراني إلی ثقة إيرانية بالحلفاء العراقيين من جهة وتركيز القيادة الجديدة -بعد الجنرال سليماني- علی ألا تُحمَّل طهران أعباء تطورات دون أن تكون تحت سيطرتها التامة، من جهة أخرى. فقد حمَّلتها واشنطن عداء العراقيين لها حتی إن قام ذلك بدوافع وطنية، كما حمَّلها البعض في العراق والمنطقة إسقاطات فشل النظام السياسي وفساده لمجرد أنها دعمته ولم تقف موقفًا معاديًا له -كالسعودية مثلًا. إذن، تتسم المرحلة الجديدة بنأي طهران بنفسها عن كل ذلك وإظهار ذلك قولًا وفعلًا، كما جاء في حيث كل من شمخاني وقاءاني وحدث في التاجي. ولكن كيف ينسجم ذلك مع أهداف إيران وأولوياتها السابقة؟
باستهداف مهندس استراتيجيتها الإقليمية بمطار بغداد، أحست طهران بوقع الضربة علی الردع الذي طالما ركزت علی بنائه أمام الولايات المتحدة وحليفاتها في المنطقة. وكان من الأرجح إعادة تثبيت الردع كمقوم رئيسي لاستراتيجيتها الإقليمية طالما يمنع الولايات المتحدة من مهاجمتها وضرب حلفائها. وبالاستهداف الصاروخي، عسكريًّا، جرى استعادة جزء من الردع، إلا أن الجزئية الأهم في عملية إعادة تثبيت الردع تمثلت بإبطال مفعول الضربة الأميركية علی محور المقاومة. وبغية ذلك، أعلنت طهران بالتدرج أبعادًا جديدة لسياستها أهمها عدم محاولتها توجيه الحلفاء أو التنسيق بينهم. ومن الواضح أن الواقع الجديد كفيل بزيادة مطردة للضغط علی واشنطن بسياستها وعسكرييها.
وبنأيها بالنفس عن الانخراط مباشرة ضد الولايات المتحدة في العراق، تحاول طهران إظهار وضع القوات الأميركية الرث أمنيًّا وحقيقة أن قوة إيران وحلفائها في العراق لم تتراجع علی الأرض رغم وقع ضربة مطار بغداد. وفي ذات السياق، ثمة نقاش حول أخطار الخلافات الداخلية في الحشد حول خلافة قائدها الراحل وترتيب أولوياتها في المرحلة الجديدة، حيث يقول البعض بتهديده تماسك ومصالح محور المقاومة، ويرد الطرف الآخر بأن الثقة بالحلفاء كانت -ولا تزال- العصب الرئيسي في استراتيجية إيران الإقليمية يجب التذكير والعمل بها لتحجيم أثر دعاية الأعداء ضد محور المقاومة أولًا، والحد من أعباء العمل المباشر ثانيًا، وتقوية استراتيجية محور المقاومة محليًّا ثالثًا.
الضغط إذن دون تحريك ساكن ودون الانخراط في مواجهة مع واشنطن هو الوصف الأوضح لسياسة إيران الجديدة. وحسب رؤية طهران، سيزيد استمرار هذا الوضع من خسائر واشنطن بشكل متدرج وسيضع قادتها في قلق وأرق مستمرين يأتيان في النهاية بالهدف النهائي لمحور المقاومة: إخراج القوات الأميركية من العراق. ففي نقاش دائر في طهران وردًّا علی من اعتبر قوة حلفاء إيران في طور التراجع، يقول مؤيدو السياسة الإيرانية: إن الضغط اليوم بات مركزًا علی واشنطن بعد عملية الاغتيال وقرار البرلمان العراقي إخراج القوات الأميركية، وما التدخل الأميركي ضد الحشد أو الانقلاب إلا انعكاس لهذا الواقع. وعند تراجع النفوذ الأميركي يبقی العراق دولة صديقة إذ تبقی الأغلبية صديقة أو غير معادية لإيران علی أقل تقدير. كذلك تبدو سياسة “ترك الأمر للإخوة العراقيين” لقاءاني والقيادات الإيرانية من باب عدم إتاحة المجال لواشنطن وحلفائها لشيطنة طهران وحلفائها كما حدث أثناء المظاهرات العراقية ضد الفساد وسوء الإدارة.
أخطار المواجهة
أوضحت عملية الاغتيال والرد الإيراني عليها مخاطر الانزلاق إلی مواجهة قد لا تكون في الحسبان. وبذلك، ازداد التركيز علی سياسات تحد من أخطار المواجهة المباشرة رغم الاستمرار بالضغط والضغط المتبادل بين الجانبين. لذلك، تنحدر احتمالات المواجهة رغم بقائها قائمة. وترتبط احتمالاتها -حسب الرؤية الإيرانية- بالتحرك الأميركي وأهدافه وحدوده. وقد انقسم النقاش الإيراني حول التحرك الأميركي الأخير إلی قائل بعدائه لإيران وآخر يراه محاولة لتحصين وضع القوات الأميركية في العراق وثالث يراه في خضم الاستعداد للخروج من العراق. بشكل عام، ثمة معضلة أمن يجري العمل علی تفادي جرِّها الطرفين لحرب غير محسوبة. ففي تلك المعضلة، كان أي تحرك لإيران وحلفائها يدعو لتحرك لموازنته من قبل واشنطن والعكس صحيح، فأي تحرك أميركي يدعو لتحرك من قبل إيران وحلفائها لموازنته وردعه. ويحد تراجع العمل المباشر من حدة وسرعة دوران تلك الدائرة الخطرة.
إذن، فالمواجهة المباشرة مستبعدة قياسًا بالمراحل السابقة. ولا يعني ذلك تراجع ضغط محور المقاومة ضد الولايات المتحدة أو العكس. فإبقاء الضغط قائمًا يهدف لحمل واشنطن علی الانسحاب كهدف نهائي. بينما تهدف واشنطن من ضغطها ملء الفراغ الذي تراه قائمًا في العراق منذ ثلاثة أشهر بما سيغير الموازنة هناك، أو هكذا تأمل واشنطن. يبقی إذن التنافس الاستراتيجي قائمًا وبقوة، ويحاول حلفاء إيران الحفاظ علی مكاسبهم النابعة من استبسالهم في الحرب ضد داعش، بينما تسعی واشنطن إلی تغيير ميزان القوى لصالح الجهات الأقرب لها. لذلك، يراه البعض انقلابًا أميركيًّا علی العملية السياسية التي أقامتها؛ إذ اتضح لواشنطن أن الديمقراطية لن تأتي بحكومة معادية لإيران وقريبة من أهداف واشنطن. وفي ظل مثل هذا الوضع تتراجع إمكانية مواجهة إيرانية-أميركية مباشرة رغم تزايد المناوشات الأميركية-العراقية.
وتعلم طهران بخبرتها الطويلة في العراق أن الوضع آيل لتعقيد أكبر دون قيامها بدورها التقليدي في تقريب وجهات النظر والوصول إلی صيغ مشتركة وتأليف الحكومة بالتالي. وهي بذلك تبعث برسائل في أكثر من اتجاه، لواشنطن فيها حصة الأسد: حتی دون مساعدة إيران العراقيين وعدم محاولتها رأب الانقسامات والإتيان بالإجماع الضامن لتشكيل الحكومة، ليس بمقدور الولايات المتحدة حمل العراقيين علی المضي علی خطاها هي. وسيبقی الدعم الإيراني قائمًا إن استجد ما يدعو للدعم -كداعش سابقًا- إلا أن السياسة الإيرانية معنية أيضًا بإيصال ما تراه طهران حول دورها في العراق: تدعم العراق إن طُلب منها ولا تفرض عليه ما لا تريده الأغلبية -وهي في كل الأحوال أغلبية قريبة من إيران أو غير معادية لها علی أقل تقدير.
بشكل عام، وبينما تستمر الضغوط المتبادلة بين طهران وواشنطن، تتراجع طهران خطوة هي للهجوم أشبه. وبينما تسعی الولايات المتحدة بأدواتها وضغطها وعلاقاتها لاستخدام الفراغ الذي تراه قائمًا منذ الثالث من يناير/كانون الثاني 2020، لتغيير موازين القوى بل ومخرجات العملية السياسية ضد حلفاء إيران في العراق وضرب العلاقات العراقية-الإيرانية بالتالي، تقوم طهران -وبثقة كبيرة- بترك أمر إدارة العلاقة/الصراع مع الولايات المتحدة للحلفاء. ولا يعني ذلك تراجع دعمها الحلفاء أو تحجيم عدائها للولايات المتحدة، بل يعني تعقيد الأمور لواشنطن وزيادة الضغط عليها دون تحرك مباشر. ويحد ذلك من احتمالات المواجهة رغم إبقائها قائمة. كما يجري تفسير الحراك العسكري الأميركي في ذات الاتجاه رغم النقاش القائم حوله.
أي إنه يأتي للحد من خطورة الوضع للقوات الأميركية في المرحلة الجديدة ومحاولة واشنطن تحصين قواتها.
- «سرلشكر باقري: تحركات نظامي أميركا را با دقت رصد مي كنيم» (اللواء باقري: نرصد تحركات أميركا العسكرية بدقة)، وكالة باشكاه خبرنكاران جوان، 14 فروردين 1399. https://bit.ly/3aN91FU
- «ضربات أميركية «وشيكة» لفصائل المقاومة العراقية؟»، جريدة الأخبار، 31 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2020): https://bit.ly/2V3plMa
- Mark Mazzetti and Eric Schmitt (March 27, 2020) “Pentagon Order to Plan for Escalation in Iraq Meets Warning from Top Commander,” The New York Times, (Accessed: 6 April 2020):https://nyti.ms/39OxWYe
- انظر مثلًا: مجاهد الطائي «العراق ونكتة مخطط الإنقلاب العسكري» نون بوست، 26 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2020): https://bit.ly/39PdHd0
- «هشدار سرلشكر صفوی به آمریكا درباره تحركات مشكوك در عراق: شكست بزرگی از مردم عراق میخورید» (اللواء صفوي يحذر أميركا حول تحركاتها المشكوكة في العراق: سيهزمكم الشعب العراقي هزيمة كبری)، وكالة أنبا تسنيم، 13 فروردين 1399، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2020): https://bit.ly/2Xeo3jR
- يوسف نوري، «در عراق چه خبر است: كودتا، تهاجم نظامی يا عمليات فريب؟» (ما الذي يجري في العراق: انقلاب، هجوم عسكري أم عملية خداع؟)، وكالة أنباء باشگاه خبرنگاران جوان، 12 فروردين 1399، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2020): https://bit.ly/3aK3QGQ
- انظر مثلًا: “For Trump, a Risky Gamble to Deter Iran,” The New York Times, January 3, 2020, (Accessed: 6 April 2020):https://nyti.ms/2wUzcff Keith Alexander and Jamil Jaffer (January 15, 2020) “Trump’s action deterred Iran,” The Hill, (Accessed: 6 April 2020):https://bit.ly/2UIuAlg
- Joseph Stepansky (February 19, 2020) “Timeline of Trump’s shifting justifications for Soleimani killing,” Aljazeera, (Accessed: 6 April 2020): https://bit.ly/2RgCW1r
- «البرلمان العراقي يصدق على قرار يلزم بإخراج القوات الأجنبية» الجزيرة، 5 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2020):https://bit.ly/3bMq4YO
- See for instance: Michael R. Gordon (December 13, 2020) “Pompeo Warns Iran Over Rocket Attacks at Iraqi Bases,” The Wall Street Journal: (Accessed: 6 April 2020): https://on.wsj.com/2UM1sts
- «پاسخ شمخاني به سؤالي درباره دخالت إيران در امور عراق” (رد شمخاني علی سؤال حول التدخل الإيراني في شؤون العراق)، موقع مشرق نيوز، 19 اسفند 1398، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2020):https://bit.ly/2Xex5NY
- Hassan Ali Ahmad (April 1, 2020) “Iraqi PM-designate may be on futile mission to win Iranian support,” Al-Monitor,(Accessed: 6 April 2020):https://bit.ly/39NyI7O
- «انتصاب سردار سرتیپ قاآنی به فرماندهی نیرو قدس سپاه پاسداران انقلاب اسلامی» (تنصيب العميد قاءاني قائدًا لفيلق القدس في حرس الثورة الإسلامية)، موقع المرشد الأعلی، 12 دي 1398، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2020): https://bit.ly/2RfIJEy
- Alissa J. Rubin and Eric Schmitt (March 11, 2020) “Rocket Attack Kills Three U.S. Coalition Members in Iraq,” The New York Times,(Accessed: 6 April 2020): https://nyti.ms/2RuBrNt
- John Davison and Ahmed Rasheed (April 1, 2020) “Fractures grow among Iraq militias, spell political retreat,” Reuters,(Accessed: 6 April 2020);https://reut.rs/2RgE4lH
رابط المصدر: