الخبرة السياسية:
لكي يكون التحليل السياسي قوياً وقريباً من الواقع، من المهم للمحلل أن يكون خبيرا بالشؤون السياسية.. إذ ان الصدق في التحليل والتنبؤات السياسية، بحاجة إلى خبرة فائقة في علم السياسة.. وتأتي الخبرة السياسية عن طريق خلفية نظرية متينة، تؤهل المحلل السياسي، من مسك مفاتيح الفهم والوعي السياسي.. ويمكن الحصول على هذه الخلفية النظرية عن طريق الآتي:
– قراءة المؤلفات السياسية، التي توضح الخطوط السياسية العريضة، أو تحلل حدثا سياسيا ماضيا.. أو مذكرات قيادات سياسية شاركت في صنع الواقع السياسي المحلي أو الدولي.
الدول الكبرى وبالخصوص الديمقراطية بين الفينة والأخرى تكشف النقاب عن مجموعة من الوثائق السرية أو الأخبار الخاصة عن أحداث ماضية.. فمعرفة الأحداث وملاحقة أسرارها مفتاح ضروري لفهم الحاضر
– متابعة الأخبار والتقارير السياسية والخبرية (جريدة – مجلة – راديو– تلفاز) وما أشبه، وملاحقة الأخبار الخفية والأسرار السياسية والأحداث التي تجري خلف الكواليس.. ونلاحظ أهمية ذلك حين تحليل حدث اقتصادي كتقييم مسيرة تنموية، أو تقويم مجموعة إجراءات اقتصادية.. إذ نجد مثلا البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي يحاولان دائما الترويج لآرائهما وربطها بنماذج تنموية اقتصادية ناجحة.. وفي الوقت ذاته تعمل هذه القوى الدولية على تقويض أسس التنمية المستقلة والاقتصاد السليم في ذلك البلد.. كل ذلك بأساليب خاصة لا يعلن عنها.. فمثلا دعاية البنك الدولي عن تجربة كوريا الجنوبية في التنمية.. إذ يزعم البنك أن هناك ربطا بين معدل النمو المرتفع والانفتاح الواسع على الخارج.. بل تدعي أن سر النجاح هو بالذات هذا الانفتاح، كأنه شرط ضروري وكاف لارتفاع معدل النمو.. كل ذلك يحدث باسم العلم والخبرة الاقتصادية، ويستخدمون في سبيل ذلك جميع التبريرات لتمرير سياساتهم ومخططاتهم..
لذلك فالمحلل السياسي يحتاج دائما إلى ملاحقة الأسرار السياسية والأحداث التي تجري خلف الكواليس.. وهكذا فإن أغلب سيناريوهات الأحداث السياسية وبالخصوص الخطيرة والمصيرية منها، تقع نطفتها الأولى تحت الكواليس وبعيدا عن الأضواء.. ويكفي أن نعرف أن مشروع تقسيم المشرق العربي في عشرينيات هذا القرن بين فرنسا وبريطانيا (سايكس-بيكو) كان سرياً ولم يكشف النقاب عنه إلا عن طريق قوة ثالثة وهي الاتحاد السوفياتي بعد ثورة أكتوبر عام 1917 م.. من هنا نجد أن الدول الكبرى وبالخصوص الديمقراطية بين الفينة والأخرى تكشف النقاب عن مجموعة من الوثائق السرية أو الأخبار الخاصة عن أحداث ماضية.. فمعرفة الأحداث وملاحقة أسرارها مفتاح ضروري لفهم الحاضر.. فدائرة الأسرار المرتبطة بالأحداث السياسية تظل على علاقة وثيقة بما يحدث فوق الأرض وفي العلن..
كما أنه ينبغي الاهتمام بالأحداث الصغيرة بوصفها أنها نطفة وبداية الأحداث الكبيرة والضخمة.. ففي أوروبا القرون الماضية، كانت المناوشات الصغيرة بين دويلات الإقطاع ممرا إلى الحروب الضخمة الدولية.. واختراع المدفع غيّر معادلة الواقع الاقتصادي والعسكري برمته آنذاك، حيث ضمن تفوق الملكية على الإقطاعية ووضع حدا لغزوات المغول والتتر على العالم الأوروبي.. كما أن طاحونة الهواء وطاحونة الماء وكدانة الجر أسهمت إلى حد بعيد في تحسين شروط حياة الفقراء في القرون الوسطى.. ويقول (أرنست جونجير): عندما يستمر تساقط الثلوج كل الشتاء، تكفي رِجل أرنب لتحدث انهيارا ثلجيا جارفا..
– مراجعة الأرشيفات والمستندات السياسية، من أجل دعم التحليل السياسي بالوثائق والبراهين الدامغة، وبيان تاريخية الحدث، لكي تكون النظرة السياسية عميقة ومستندة إلى معطيات تاريخية وواقعية..
– معرفة التاريخ السياسي للنظام الدولي: ولكي نفهم أهم التطورات والتحولات التي طرأت على النظام الدولي، ومن أجل إيضاح جملة من الحقائق التاريخية التي مازلنا نعيش فصولها وآثارها.. فلابد من معرفة التطورات التي حدثت في ميزان القوى، وعلى التبدل والتحول الذي طرأ على المحور الأساسي للنظام الدولي.. والأسباب التي أدت إلى هذا التحول والتبدل، والنتائج التي ترتبت عليها.. والنظريات والسياسات الاستراتيجية، التي نشأت مع النظام الدولي والقوى الفاعلة فيه..
– معرفة القوانين الدولية والسياسية: ما من شك أن للقوانين الدولية بمختلف أنواعها وأشكالها، تأثيرا في مجمل الأحداث السياسية التي تجري على وجه البسيطة.. لذلك ينبغي أن يكون المحلل على اطلاع واسع على هذه القوانين، ليتسنى له جعل الحدث السياسي في قالبه الصحيح، وليتمكن من معرفة أهم الثغرات والفجوات الموجودة في القوانين والمؤسسات الدولية..
– مساءلة أهل الاختصاص والخبرة لكي يكون الرأي السياسي ناضجا ونابعا من مناقشات مستفيضة وحوارات عميقة.. والمحلل الناجح هو الذي لا يتخذ المواقف السياسية إلا بعد المداولات والمناقشات من أهل الخبرة والاختصاص، لكي يعمق فهمه، ويركز رأيه، ويؤصل نظرته وموقفه السياسي.. بهذه الأمور تتكون لدى المحلل السياسي الخلفية النظرية الكافية والخبرة السياسية اللازمة، التي تؤهله لممارسة عملية التحليل السياسي بنجاح..
العوامل الإقليمية والدولية:
تتعدد النظريات التي تريد أن تثبت دور وتأثير القوى الإقليمية والدولية في الساحة السياسية.. والقاسم المشترك بين جميع هذه النظريات هو أن للعوامل الدولية والإقليمية تأثيرا مباشرا على مجمل الأحداث السياسية التي تجري في العالم.. ويرجع ذلك إلى تعدد أبعاد العوامل الإقليمية والدولية.. وتتداخل مسبباتها ومصادرها، وتتشابك تفاعلاتها، وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة.. وبالتالي فإن تأثير هذه العوامل تتنوع مظاهره وأشكاله.. فهو (أي التأثير) قد يكون سياسيا أو اقتصاديا أو أيدلوجيا أو تكنولوجيا أو ثقافيا وما أشبه ذلك.. كما أن أدوات التأثير من قبل القوى الإقليمية والدولية على ساحة الفعل والقرار السياسي، تختلف من موقع لآخر، ومن هذه الأدوات الضغط والاحتواء والتهديد والعقاب والتفاوض والمساومة والإغراء والحرب المسلحة، والتدخل العسكري يمثل نقطة النهاية في تطور تأثير القوى الدولية والإقليمية على الساحة السياسية..
فالمشكلة العراقية بجميع تداعياتها وآثارها المحلية والإقليمية والدولية، لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نعزلها عن تأثير القوى الإقليمية والدولية في مجرى الأحداث وآلية المشكلة الشاملة التي يعاني منها العراق.. وحالة التعقيد التي تتصف بها الأزمة العراقية، التي أفرزت العديد من الصراعات والنزاعات الدموية، لا يمكن فصلها عن التعددية الهائلة للأطراف والقوى الإقليمية والدولية القادرة على التأثير في المسيرة السياسية.. وعن تعدد مصالح هذه القوى والأطراف وتضاربها الشديد بل يمكن القول إن العامل الدولي بالذات هو الذي قام بإثارة الكثير من عناصر التوتر والنزاع في الساحة العراقية.. وبهذا نجد أن الكثير من النزاعات المتفرقة التي تجري على الساحة العراقية اليوم، ما هي إلا انعكاس لصراع سياسي بين قوى ذات تأثير على الساحة العراقية.. والشعب العراقي، هو الذي يدفع فاتورة التنافس والصراع بين القوى والأطراف الدولية والإقليمية..
ولو تأملنا أيضا في أغلب بؤر التوتر في العالم، لوجدنا أن للقوى الدولية حصة الأسد في تفجير هذه البؤر وبقاء أوارها.. فالمشكلة الهندية–الباكستانية لا يمكن أن نحلل حركتها بمعزل عن خطط وسيناريوهات القوى الدولية في القارة الهندية.. كما أن المشكلة الأفغانية لا يمكن عزلها عن تأثير العوامل الإقليمية والدولية على مجريات أحداثها وفصولها الدامية منها والسياسية.. كما أنه لا يمكن النظر إلى المشاكل المتفاقمة التي تجري في القرن الأفريقي بمعزل عن تأثيرات هذه القوى عليها.. وهكذا في جميع بؤر التوتر والانفجار في العالم.. ويكفي أن نعرف فقط أن أغلب المشاكل الحدودية والجغرافية بين بلدان العالم، كانت من صنع دولي أو إقليمي لبقاء السيطرة والهيمنة..
وتتعدد المداخل التي تحاول تفسير ظاهرة التأثير من قبل القوى الدولية والإقليمية في العلاقات الدولية.. فمنها المدخل الأيدلوجي حيث إن التناقضات الأيدلوجية بين القوى الكائنة في المجتمع الدولي، تمثل الحقيقة الكبرى التي تنبع منها وتدور في خلفيتها كافة أشكال الصراعات الدولية المعاصرة.. ومدخل سباق التسلح ومدخل المصالح القومية في نطاق سياسات القوى.. والمدخل السياسي والمدخل المتعلق بطبيعة النظام السياسي الداخلي ونظرية المحور الصناعي والعسكري.. وهكذا تتعدد المداخل التي تفسر ظاهرة الصراع في العلاقات الدولية..
وبتأمل بسيط من قبلنا في جوهر هذه المداخل والنظريات، نرى بوضوح مدى تأثير العوامل الإقليمية والدولية على حركة الأحداث السياسية..
منهج التحليل السياسي.. مقاربة نظرية
بعد تعيين الظاهرة السياسية المراد تحليلها، وتوفير المستلزمات النظرية والمعرفية لعملية التحليل.. تبدأ الخطوات العملية التي ينبغي أن يقوم بها المحلل السياسي.. وهذه الخطوات كالآتي:
– الملاحظة الدقيقة للظاهرة والحدث السياسي المراد تحليله.. لأن الظواهر السياسية سريعة التغير وشديدة التشابك ويرتبط بعضها بالبعض الآخر.. ومن لا تتوفر لديه اليقظة التامة والمتابعة الدقيقة فلن يستطيع تحليل عناصر الظاهرة السياسية تحليلا سليما.. والسبب يرجع إلى أن أغلب الأحداث السياسية، التي تجري في العالم، تمارس معها عمليات التضليل والإغواء وتحريف عقول الناس، وتشويه تصوراتهم ونظرتهم إلى حركة الأحداث السياسية.. لذلك فالمحلل المتميز هو الذي يلاحق الحدث، ويتعرف على تفصيلاته، ويتابع مسيرته بدقة ووعي تام..
إن للتدريب والممارسة دوراً كبيراً في بلورة الرؤى وصياغة المواقف لأن (رأي الرجل على قدر تجربته) والمحلل السياسي المتميز هو الذي لا يقف خارج الأحداث أو حركة الفعل السياسي وإنما هو الذي يتابع حركة الأحداث من أجل بناء رؤية سياسية دقيقة وسليمة لواقعه الخاص والعام.
– معرفة الظرف السياسي الذي وقع فيه الحدث.. إذ من الضروري أن يلاحظ المحلل المحيط الذي وقع الحدث في أجوائه.. ولذلك لأن لبنية المحيط ومشكلاته دورا وتأثيرا كبيرا في حركة الحدث السياسي.. ولا يمكن التحدث برؤية صائبة عن الحدث، بدون ملاحظة الظروف السياسية والاقتصادية التي وقع فيها الحدث.. فلا يمكن مثلا فصل عمل بطولي يقوم به أبناء فلسطين المحتلة، عن الظروف السياسية الخانقة التي يعيشها أبناء فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي الحاقد..
– التعرف على عناصر التأثير في الحدث (محليا – إقليميا – دولياً) فمثلا لا يمكن للمحلل أن يدرك حقيقة الأحداث المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط دون معرفة العناصر والقوى ذات التأثير في المعادلة السياسية في المنطقة.. وقد تجد في الكثير من الأحداث السياسية، أن لا مصلحة حقيقية من ورائها بالنسبة إلى منفذها المباشر، ولكنها من مصلحة القوة الإقليمية أو الدولية المرتبطة بها.. فدراما الأحداث السياسية التي تجري حاليا في منطقة الشرق الأوسط كلها بيد القوى الدولية والإقليمية ذات التأثير المباشر على المعادلة الحاكمة في هذه المنطقة..
لذلك حين التحليل، لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال التأثير الإقليمي والدولي لمجمل الأحداث.. لأنها تسير وفق توازنات محلية وإقليمية ودولية دقيقة.. وكل قوة تريد التأثير في الأحداث بما يوافق مصالحها وتطلعاتها.. والرابح في الأخير هو الذي يمتلك أوراق اللعبة أكثر، والقادر على بلورتها وتفعيلها وتوظيفها في ميدان العمل والممارسة السياسية.. ولكي تكتمل صورة عناصر التأثير في ذهن المحلل، لابد له أيضا من التعرف على المصالح السياسية والاقتصادية للأطراف المرتبطة بالحدث.. فإن معرفة المصالح توفر جهدا كبيرا للمحلل.. لأن المصالح هي الدافع المباشر في كثير من الأحداث السياسية التي تجري في العالم.. فالقوات الأجنبية التي احتلت العراق، لم تأت لكي تدافع عن مصلحة شعوب المنطقة أو قيم الحرية والعدل والمساواة، وإنما جاءت من أجل الدفاع عن مصالحهم واستراتيجياتهم في المنطقة..
– التعرف على منطقة الحدث: لا شك أن لجغرافية الحدث تأثيرا مباشرا في حركة الظاهرة السياسية.. والمحلل الذي يجهل الخريطة الجغرافية التي وقع فيها الحدث، لا يمكنه بأي شكل من الأشكال، أن يكون ذا تحليل علمي دقيق.. فأزمة خليج الخنازير التي جرت في الستينيات من القرن الماضي بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوبا، لا يمكن فصلها عن الموقع الجغرافي والحدود المشتركة لكلا البلدين.. كما أن النظام السياسي والاقتصادي في بولندا في العصر الحديث، كان دائم التأثر بالاتحاد السوفياتي السابق للقرب الجغرافي..
فالتعرف على موقع الحدث وطبيعته، ونقاط القوة والضعف فيه، مدخل ضروري لفهم مغزى وطبيعة الحدث السياسي، وخطوة لابد منها في عملية التحليل السياسي.
– الربط بين الأحداث والظواهر السياسية لإظهار ومعرفة مراحل تطور الحدث: حيث إن أغلب الأحداث السياسية ليست منفصلة عن نظائرها، وإنما هي امتداد لمجموعة أحداث أو رد فعل لظاهرة سياسية ما.. لذلك فإن الربط بين الأحداث والظواهر السياسية، يكشف للمحلل عن خبايا الحدث ومغازيه وأهدافه.. ومن هنا جاء في المأثور (استدل على ما لم يكن، بما قد كان، فإن الأمور أشباه).. فالأحداث السياسية تكشف عن أحداث سياسية أخرى.. فالأحداث التي تجري على الأرض الأفغانية، وتأثير القوى الخارجية في الساحة الأفغانية، ليست بمعزل عن عوامل القبول المختلفة المتوفرة في أفغانستان وغيرها من بلدان العالم الثالث.. كما أن الربط بين أحداث الغزو الأمريكي لفيتنام والخسائر الفادحة التي منيت بها القوات الأمريكية، هو الذي أوجد نظرية الحرب النيابية والقوة الإقليمية البديلة كخط دفاعي عن المصالح الأمريكية في الخارج..
– طرح الأسئلة وعلامات الاستفهام: وهذه الخطوة هي عبارة عن أسلوب استقرائي يوصل المحلل السياسي إلى الاحتمال الأقرب إلى الحقيقة والواقع.. فلكي يصل المحلل إلى جوهر الحدث السياسي وغايته، لابد أن يطرح على نفسه أو على أهل الخبرة والاختصاص مجموعة من الأسئلة والاستفسارات التي تقرب بدورها الحدث إلى عقل المحلل، وتعرفه بآراء الآخرين ونظرتهم المتنوعة عن الحدث السياسي.. فطرح الأسئلة هو أسلوب منطقي، يوصل المرء إلى العلم والحقيقة..
ومن المفيد في هذا الإطار أن المحلل السياسي، حينما يريد أن ينضج رأيه ونظرته السياسية عن طريق مساءلة أهل الخبرة والاختصاص، من الضروري أن يناقشهم وهو ذو رأي ونظرة.. لا لكي يتوقف عندهم ويصر على رأيه، وإنما لكي تتوفر لديه القاعدة الضرورية لكل مناقشة موضوعية، ولكي يتعرف على وجهات نظر الآخرين ونظرتهم عن رأيه وتحليله.. ويبقى السؤال وسيلة لا غنى عنها للحصول على العلم والحقيقة والمعرفة وجاء في المأثور (القلوب أقفال ومفاتيحها السؤال)..
– التحليل والتركيب: بمعنى أن المحلل السياسي يقسم الظاهرة السياسية أو الحدث السياسي، إلى أقسام، ومن ثم يخطو في التحليل خطوات منظمة بحيث تكون كل نقطة بالنسبة إلى التي تليها بمثابة المقدمة من النتيجة.. ويقوم بتحليل الظاهرة السياسية (موضوع البحث والتحليل)، إلى أبسط عناصرها وأدق تفاصيلها.. وهذه العملية تؤدي بالمحلل، بشكل طبيعي، إلى تتبع نمو الظاهرة والحدث، والوقوف على تفرعاته، ومدى الصلات التي تربط هذه الظاهرة مع ما عداها.. لأنها تعين المحلل السياسي على تحديد ما يتطلبه الحل والعلاج.. ومن الأهمية بمكان أن تتماسك أجزاء التحليل.. فلا يتناقض مع بعضه، أو يصل المحلل في تحليله إلى نتائج متضاربة مع بعضها البعض..
ومن الضروري التأكيد في هذا السياق على أن الأحداث السياسية، لا تخضع لنظام آلي ميكانيكي، وإنما هي بالدرجة الأولى، خاضعة لإرادة الفعل والاستجابة لدى الإنسان الفرد أو الجماعة.. وعلى ضوء هذا لابد للمحلل السياسي أن يجمع بين دراستين في تحليل الظاهرة السياسية (الدراسة الاستاتيكية وهي دراسة تشريحية وظيفية تتعلق بالناحية الاستقرارية للأوضاع والنظم السياسية، والدراسة الديناميكية وهي دراسة هذه الأوضاع في حالة حركتها وتفاعلها وترابطها وتطورها) (راجع كتاب قضايا علم السياسة العام، الدكتور محمد فايز عبد اسعيد، ص34)..
حتى يستطيع المحلل السياسي، أن يعرف ثوابت الحدث ومتغيراته وتداعياته..
وبعد عملية التحليل والتركيب، يأتي دور المقارنة بين الآراء وتمحيصها، حتى يتمكن المحلل من معرفة الرأي الأصوب.. وقد جاء في المأثور (اضربوا بعض الرأي ببعضه يتولد منه الصواب).. فإن المقارنة بين الآراء وتمحيصها، تمكّن المحلل السياسي من التوصل إلى الرأي السديد، ويتعرف على الثغرات ونقاط الضعف لدى الآراء الأخرى.. لأن (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) و(من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل)..
وجماع القول: فإن للتدريب والممارسة دورا كبيرا في بلورة الرؤى وصياغة المواقف لأن (رأي الرجل على قدر تجربته) والمحلل السياسي المتميز، هو الذي لا يقف خارج الأحداث أو حركة الفعل السياسي، وإنما هو الذي يتابع حركة الأحداث من أجل بناء رؤية سياسية دقيقة وسليمة لواقعه الخاص والعام..
علم السياسة والتحليل السياسي.. العامل الاقتصادي والتكنولوجي
ونقصد بذلك مستوى النمو الاقتصادي والتكنولوجي والفني، الذي وصلته الدولة.. فمعرفة درجة التصنيع مثلا، يؤهلنا إلى استنتاجات صحيحة عن السياسة الاقتصادية لها.. ووجود التكنولوجيا يهيئ أكفأ وسائل استغلال الإمكانات الطبيعية والمادية والبشرية المتاحة بدلا من الركون إلى نماذج سيئة في استغلال الثروات.. وتنعكس قوة الدولة الاقتصادية، في قدرتها على استخدام الأدوات الاقتصادية، للتأثير في اتجاهات وسياسات الدول الأخرى..
فالولايات المتحدة الأمريكية استطاعت التحكم في مصائر الكثير من الدول والشعوب، بفعل قوتها الاقتصادية، وقدرتها على توظيفها سياسيا.. والغرب بمؤسساته الدولية ضغط على (غانا) في عهد نكروما للأخذ بمظاهر الحداثة والتحديث، وكرست جهود كبيرة وموارد كثيرة لاكتساب رموز الحداثة (مؤسسات – آلات – مصانع – جهاز الدولة) فكانت النتيجة النهائية تحديثا بغير تنمية حقيقية.. فالمستوى الاقتصادي والتكنولوجي، له تأثير مباشر في العملية السياسية..
إذا أردنا أن نحلل الوضع الاقتصادي لأي بلد، لا يمكننا فهم الوضع الاقتصادي، ومعرفة هياكله ومؤسساته ودورها في المجتمع، بدون معرفة ووعي دور المؤسسات الاقتصادية الدولية ودورها في تخريب الاقتصاد في ذلك البلد.
ويمكننا أن نوضح دور المستوى الاقتصادي والتكنولوجي في عالم السياسة عن طريق المفردات التالية:
المشكلات الاقتصادية الداخلية التي تعاني منها الدولة..
الثروات ومصادر الدخل القومي للدولة..
هل وصلت الدولة إلى حد الكفاية الذاتية أم لا..
السياسات الإنمائية والتنموية للدولة..
علاقات الدولة الاقتصادية بالخارج..
من خلال هذه المفردات وغيرها نتمكن من معرفة المستوى الاقتصادي للدولة.. فمثلا السياسات الإنمائية المتبعة في العالم الثالث عند التحليل والتأمل، نرى أنها هي المسؤولة عن بقاء التخلف وعن تطوير التبعية وزيادة اختلال توازن المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا.. حيث إن جميع المشاريع والأعمال التخطيطية، أتت في الحقيقة نتيجة النظرة الاغترابية تجاه المستوى الاقتصادي في البلدان المتطورة صناعيا.. ولذلك أتت بنتائج عكسية أي بتعميق التبعية التكنولوجية والغذائية تجاه الغرب الصناعي.. كما أن سياسات التنمية المتبعة في بلدان العالم الثالث، تناسب مصالح الدول المتقدمة صناعيا، من حيث اعتمادها على تعامل كثيف وغير متكافئ مع الدول الصناعية.. مما يتطلب الاستعراض واستيراد الآلات المكلفة والمعقدة، بما لا يراعي ظروف البيئة والمستوى التقني المحلي.. وينتج عن ذلك تبذير وضياع اقتصادي واجتماعي لا حد له.. كما أن من الأمور المهمة على الصعيد الاقتصادي، وجود الشركات الاقتصادية الكبرى في بلدان العالم الثالث.. فالمحلل السياسي مثلا للوضع الاقتصادي في أي دولة عربية أو ثالثية، لا يمكنه أن يصل إلى نتائج حقيقية وسليمة عنه من دون معرفة دور الشركات الكبرى والعابرة للقارات في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة..
والشيء الثابت في هذا الصدد أن العوامل الاقتصادية والإنتاجية على شمولها واتساعها وتنوعها، تتفاعل مع الوضع السياسي فتنفعل به وبالعكس.. لذلك من الأمور الضرورية في البناء النظري للمحلل السياسي هو معرفة المستوى الاقتصادي للدولة.. حيث إن قوانين الاقتصاد مثل العرض والطلب أو أزمات المجاعة وتضخم الإنتاج وما أشبه كلها عناصر لها تأثير مباشر على عالم السياسة..
وأيضا لا بد من معرفة التكتلات والنقابات والتجمعات المرتبطة بالوضع الاقتصادي للدولة كنقابة العمال والفلاحين وما شاكل ذلك، والعلم بالتكتلات والهيئات الاقتصادية الإقليمية أو الدولية، التي تنتمي إليها الدولة في الخارج.. فمثلا لا يمكننا فهم ماجرى من أحداث سياسية في بولندا بدون معرفة (نقابة تضامن) ودورها في الصراع السياسي المحلي وتأثيرها الخارجي سياسيا أو اقتصاديا أو إعلاميا.. كما إننا لا نتصور الوضع الاقتصادي لأوروبا الغربية بدون معرفة الدور والامتيازات الاقتصادية والسياسية والتجارية التي يقدمها (السوق الأوروبية المشتركة) إلى الدول المنتمية إليه.. كما ينطبق ذلك على أعضاء (الكوميكون) ولكي نفهم العملية السياسية بوضوح ويكون البناء النظري للمحلل السياسي متينا من الضروري إدراك ومعرفة ووعي التجمعات الدولية كـ(صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) ودورها وتأثيرها على دول العالم قاطبة.. ومن الملاحظ أن البلدان التي ارتبطت بالصندوق الدولي، وجربت السياسات الاقتصادية، كانت النتيجة النهائية المزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتراجع معدلات النمو والإنتاجية وارتفاع العجز في الميزانية، وتفاقم مستوى خدمة الدين الخارجي، واستفحال الأزمة الغذائية من جراء تدني مردود القطاع الزراعي..
فإذا أردنا أن نحلل الوضع الاقتصادي لأي بلد، لا يمكننا فهم الوضع الاقتصادي، ومعرفة هياكله ومؤسساته ودورها في المجتمع، بدون معرفة ووعي دور المؤسسات الاقتصادية الدولية ودورها في تخريب الاقتصاد في ذلك البلد.. ومن المعروف أن للبنك الدولي للإنشاء والتعمير، حقا في تحديد طبيعة المشاريع المقرر إنشاؤها وتحويلها بقروض منه، أو من مستثمرين خاصين بضمانات منه.. فهو لا يقدم أي قرض ما لم تقدم لجنة خاصة تقريرا توصي فيه بإقامة المشروع المطلوب بعد دراسة فوائده.. والملاحظ في كل البلدان التي عمل فيها البنك الدولي، إنه تركز اهتمامه على تمويل المشاريع الهيكلية الاقتصادية كشبكات الطرق ومحطات توليد الكهرباء والموانئ والمخازن مهملا المشاريع الإنتاجية الزراعية والصناعية الأساسية.. كما أن البنك يفرض ضمانات مقابل القروض التي يمنحها، لا تأخذ شكل عمولات فحسب، بل تأكيدات وضمانات ضد التغييرات السياسية والاقتصادية المحتملة في البلدان المقترضة (بالكسر).. ونستخلص مما سبق أن للمؤسسات الاقتصادية الدولية تأثير في القرارات السياسية، والمحلل السياسي لا يستطيع فهم السياسة الاقتصادية لدولة من الدول، من دون معرفة دور هذه المؤسسات الاقتصادية..
موقع الدين في الحكم والمجتمع:
ثمة نسبة من الأحداث السياسية التي تجري في العالم، بدافع وحافز أيدلوجي.. لذلك فمن الضروري بمكان للمحلل السياسي، أن يتعرف على موقع الدين والأيدلوجية في السلطة والمجتمع.. فلا يمكن للمحلل السياسي أن يتعرف على جوهر الصراع العربي-الصهيوني بدون معرفة موقع الدين في هذا الصراع لكلا الطرفين.. كما أنه لا يمكن فهم الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للهند، من دون التعرف على موقع الدين في المجتمع الهندي.. كما أن معرفة أيدلوجية السلطة مسألة مهمة في التحليل السياسي.. إذ لا وجود للممارسة سياسية بلا أيدلوجية وتحت تأثيرها يتحرك الفعل السياسي في الاتجاه الذي يتناغم كليا أو جزئيا مع المنظومة الفكرية (النظرية) لهذا الكيان السياسي..
فالخيارات الأيدلوجية للمؤسسة الحاكمة والمجتمع بفئاته وتكتلاته السياسية والاقتصادية والثقافية، لها تأثير جلي وواضح في الممارسة السياسية.. فالحاكم السياسي الذي ينتخب خيار العلمانية كنهج مجتمعي وسياسي، لا يمكن أن يجعل حكمه وقراراته السياسية بمعزل عن تأثير هذا الخيار وهكذا دواليك.. كما أن المجتمع الذي يرتضي الإسلام نهجا للحياة والحكم، لا يستطيع البقاء تحت حكم فئة أو حزب أو شخص لديه خيار أيدلوجي يناقض خيار الإسلام.. ولو رجعنا قليلا إلى التاريخ لوجدنا التأثير البين للدين في العملية السياسية والحضارية للمجتمعات والأمم.. فالأوروبيون حينما شنوا حروبهم الرعناء ضد العالم الإسلامي، كانت بدافع ديني صليبي لذلك سميت تلك الحروب (بالصليبية) حيث ألقى البابا أربانوس في 26 تشرين الثاني عام (1059) خطبته في كلرمونت من مناطق فرنسا الجنوبية الشرقية، ودعا الصليبيين إلى إعادة كنيسة القيامة وانتزاعها مما أسماهم بالقوم الأشرار.. وقد أشعلت هذه الخطبة نيران الأحقاد في نفوس الأوروبيين، فقد تنادى الإفرنج وصاحوا صيحتهم الحاقدة (ديوسي فولت) أي الله أرادها.. وقد استجاب لدعوة البابا في ربيع السنة التالية نحو مئة وخمسين ألف رجل.. كما أن اليقظة والانبعاث الذي حدث في العالم الإسلامي آنذاك للدفاع عن النفس والمقدسات كان بدافع إسلامي وديني..
فالدين (بمعناه الشمولي) تأثير لا يمكن تحديد مداه، ومعرفة صداه في العملية السياسية والحضارية على المجتمعات والشعوب.. لذلك لا بد للمحلل السياسي أن يتعرف وبدقة على جوهر الدين ودوره وتأثيره في المؤسسة الحاكمة والمجتمع، حتى يخلص إلى نتيجة وتحليل سياسي سليم ودقيق..
إذا أردنا أن نحلل الوضع الاقتصادي لأي بلد، لا يمكننا فهم الوضع الاقتصادي، ومعرفة هياكله ومؤسساته ودورها في المجتمع، بدون معرفة ووعي دور المؤسسات الاقتصادية الدولية ودورها في تخريب الاقتصاد في ذلك البلد.
علم السياسة والتحليل السياسي، المستوى العسكري:
(لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نفصل المستوى والوضع العسكري لدولة من الدول، عن وضعها وكيانها السياسي.. إذ إن الاستعداد العسكري كان ضروريا دائما لمساندة ودعم القرار السياسي للدولة).. فالكيان الصهيوني مثلا كانت كل قراراته السياسية المرتبطة بالصراع في الشرق الأوسط، مسنودة ومدعومة من قبل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.. حتى قيل إن المفاوضات والمباحثات لا تحسم في القاعات، وإنما في مسرح القتال.. والذي يفرض قوته في ساحة المعركة والقتال، هو الذي سيتحكم في جريان المفاوضات والمباحثات.. وفي المقابل فإن الدولة التي لا تمتلك مؤسسة عسكرية قوية، يبقى تأثيرها السياسي محدودا.. والدولة التي تمتلك الكفاءة العالية والعملية في إعداد الجهة المدنية لخدمة المجهود العسكري، تشكل قوة سياسية–عسكرية لا يستهان بها.. لأنها استطاعت أن تعبئ المجتمع المدني لإسناد الجيش والمؤسسة العسكرية.. كما أن الجيش ذا الكفاءة العالية في التدريب والقتال، سيكون له تأثير سياسي محلي وخارجي أقوى بكثير من جيش لاكفاءة في التدريب لديه، ولاقدرة قتالية جيدة.. كما أن الدولة التي تعتمد في تسليح جيشها وقواتها المسلحة على نفسها “لتصنيع المحلي”، تختلف سياسيا عن الدولة التي تعتمد على الدول الأخرى في تسليح جيشها ومؤسستها العسكرية..
عند التحليل السياسي من الضروري في البناء النظري للمحلل، معرفة مدى استقرار النظام السياسي وكفاءة وقدرة مؤسساته على إدارة شؤون الدولة.. ومدى التجانس ومقدار التنسيق بين مختلف المؤسسات والهيئات، لأنه كلما ازدادت الانقسامات السياسية والإدارية، أدى ذلك إلى استنزاف جهود الدولة، وضعفت قدرتها السياسية.
وفي هذا الإطار ينبغي الاعتبار أيضا بكفاءة القيادات السياسية والعسكرية المسؤولة عن عمليات التخطيط الاستراتيجي، الذي يتلاءم وطبيعة مشكلات الأمن القومي الذي تواجهه الدولة.. وبمقدار سلامة التصورات التي تمتلكها هذه القيادات (العسكرية والسياسية) لطبيعة المشكلات الاستراتيجية، التي تعتبر نفسها مسؤولة عن التخطيط لها يكون لها تأثير في عالم السياسة..
وخلاصة القول: إن القدرة على حشد طاقات الدولة وإمكاناتها بالسرعة الواجبة في الظروف التي تتطلب إجراء تعبئة شاملة لقواها، مسألة تؤخذ بالحسبان في القرارات السياسية.. فدرجة الاستعداد العسكري والتفوق التكنولوجي، في إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية، وفي وسائل جمع المعلومات عن العدو من حيث نقاط القوة والضعف لديه، وما أشبه، كلها اعتبارات ينبغي للمحلل السياسي التعرف عليها لأنها ذات تأثير على الصعيد السياسي..
شخصية الحاكم وطبيعة النظام:
إن حركة الأحداث السياسية، لا تخرج عن إطار طبيعة النظام السياسي وعلاقاته الإقليمية والدولية، بوصفه الوعاء الطبيعي لحركة الأحداث السياسية وغيرها.. لذلك فإن معرفة طبيعة النظام وهياكله ومؤسساته وشكله ديمقراطيا كان أو ديكتاتوريا، اشتراكيا أو رأسماليا، أو ما أشبه.. كل ذلك مسألة ضرورية لفهم حركة الأحداث السياسية..
والمحلل السياسي الذي لا يفقه طبيعة النظام، لن يتمكن من فقه حركة الأحداث السياسية.. كما أن معرفة شخصية الحاكم (الملك – القائد – الرئيس – الزعيم) مسألة مهمة في عملية التحليل السياسي، وبالخصوص أن كثيرا من دول العالم تبقي جميع أوراق اللعبة السياسية بيد الزعيم.. فلا يمكن مثلا تحليل الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية في ليبيا بعيدا من شخصية الزعيم الليبي (معمر القذافي).. لذلك لا يمكن تحليل الأوضاع هناك بدون التعرف على شخصية الزعيم، لأنه مصدر القرارات السياسية والإستراتيجية الكبرى.. والجدير بالذكر أن بعض الدول الديمقراطية أيضا، تعطي للرئيس صلاحيات استثنائية إبان الأزمات والمشاكل.. كالفيتو الرئاسي الأمريكي تجاه مقررات مجلس الشيوخ أو البنتاغون.. فالتعرف على القوانين الاستثنائية، التي تعزز شخصية الحاكم ضرورية في التحليل السياسي.. فكل هذه الاعتبارات لها تأثير واضح في مجمل العملية السياسية.. ولا يمكن للمحلل السياسي، أن يبدأ عملية التحليل متجاوزا هذه الاعتبارات ومتجاهلا تأثيراتها على حركة الأحداث.. ولا شك أن قوة المحلل أو ضعفه، ترجع بشكل أو بآخر إلى مدى فهمه ووعيه، لآلية تأثير هذه الاعتبارات في العملية السياسية.. وبدون هذا الفهم لن يتمكن المحلل من فقه السياسة وحركتها بوصفها الانعكاس الطبيعي لهذه الاعتبارات..
القدرة السياسية للدولة:
عند التحليل السياسي من الضروري في البناء النظري للمحلل، معرفة مدى استقرار النظام السياسي وكفاءة وقدرة مؤسساته على إدارة شؤون الدولة.. ومدى التجانس ومقدار التنسيق بين مختلف المؤسسات والهيئات، لأنه كلما ازدادت الانقسامات السياسية والإدارية، أدى ذلك إلى استنزاف جهود الدولة، وضعفت قدرتها السياسية.. كما أن الدولة التي يغيب فيها الاستقرار السياسي لسبب أو لآخر، لا تستطيع أن توجه قدرتها السياسية للخارج.. لأن غياب الاستقرار السياسي، يرهق الدولة ولا يجعلها ذات قدرة سياسية متينة.. كما أن مدى السيطرة السياسية للحكومة على الدولة ومؤسساتها وهيآتها، يحدد مدى القدرة السياسية للحكومة.. فالصين إبان حكم (شيانج كاي شيك) وحزب الكومنتاج لم يكن للحكومة السيطرة الفعالة والتامة على كل الأراضي.. الأمر الذي أضعف من القوة السياسية للصين في الداخل والخارج.. كما أن من الأمور المهمة التي تحدد مدى قدرة الدولة سياسيا، كفاءة الأجهزة الدبلوماسية للدولة ؛ حيث إن المقدرة السياسية تتطلب إيجاد نوع من التنسيق والتوافق بين مختلف النشاطات والجهود حتى تتمكن الدولة من استثمار هذه النشاطات والجهود سياسياً..
ولا ريب في هذا الإطار أن لعنصر التوقيت والزمن في العمل السياسي والدبلوماسي أهمية بالغة في اغتنام الفرص السياسية، والدفاع عن مصالح الدولة العليا، وتتحقق كفاءة الأجهزة الدبلوماسية، في قدرتها على التحليل الشامل والمتعدد الأبعاد للظروف الموضوعية والسياسية للحدث، واستقراء مختلف المواقف وانتخاب الأفضل منها.. وقدرتها على التنبؤ بردود الأفعال والتأثيرات التي تحدثها المواقف والتصرفات السياسية، حتى تتمكن هذه الأجهزة من إيجاد قنوات وأشكال لتحييد التأثيرات السلبية والسيئة التي تقف في الجانب المضاد لمصالح الدولة.. وتتجلى قدرة الدولة السياسية على التوافق والتوازن بين الإمكانات والقدرات المتوفرة والمتاحة للدولة، وأدوات التنفيذ والفعل السياسي والدبلوماسي..
والنظام السياسي الذي لا يتمكن من إيجاد وخلق توفيق دقيق بين الإمكانات ووسائل العمل السياسي، لن يتمكن من توظيف جميع قدراته الذاتية وثروات بلاده، لصالح تطلعاته السياسية.. فالمحك الأساسي لقياس مدى قدرة الدولة السياسية هو في قدرتها على تحويل إمكاناتها السياسية المتواضعة، إلى قدرة فائقة وضاغطة في العمل السياسي.. وهذا بالطبع يحتاج إلى مهارة خاصة وفائقة في نفس الوقت في تركيب عناصر هذه الإمكانات، حتى تحدث الأثر السياسي المطلوب.. كما أنه يحتاج إلى مرونة إلى الحد الذي يسمح للدولة والنظام السياسي، بأن يحافظا على مصالحهما الجوهرية مع التنوع في التكتيكات والسبل الموصلة للحفاظ على تلك المصالح الاستراتيجية..
فالقدرة السياسية للدولة، تتشكل في مجملها من مختلف المؤسسات والوزارات التابعة للدولة، ومدى قدرتها على توظيف جميع هذه المؤسسات والوزارات في اتجاه المصالح الحقيقية للدولة فمؤسسات الإعلام والدعاية مثلا تعتبر من أركان القدرة السياسية للدولة.. لذلك من الضروري التعرف على المؤسسات الإعلامية للدولة ومدى قوتها أو ضعفها ودورها الذي تقوم به.. وبالطبع هناك أيضا فرْق بين الدولة التي لديها القدرة على صنع ولاءات وأطر سياسية جديدة على حسب احتياج الساحة، وبين الدولة التي لا تمتلك القدرة للقيام بهذا العمل..
المهم في هذا الإطار أن يقوم المحلل السياسي بالتعرف على القدرة السياسية للدولة، التي تشملها جميع أبعاد وأدوات القدرة السياسية.
والعناصر المذكورة أعلاه، بحاجة إلى عقل يقظ، ومتابعة دقيقة للأحداث والتطورات ومعرفة مستديمة للحقائق والمعطيات السياسية التي تؤثر سلبا أو إيجابا في سير الاحداث والتطورات السياسية..
فطريق الوعي السياسي يمر عبر هذه الحقائق، وبدونها لن يتمكن الانسان من فقه الأحداث السياسية.. فطريق فهم الأحداث والتطورات السياسية، يأتي عبر فهم العناصر المذكورة أعلاه وهو وسيلة تطوير الوعي السياسي لدى الشعوب والأمم المختلفة..