مقدمة:
يشهد القرن الحادي والعشرون تطورًا في أساليب المواجهات بين دولٍ كبرى ومتقدمة، جرّاء التطوّر العلمي والتكنولوجي، حيث ظهرت أنواعٌ جديدة من الهجمات؛ منها ما هو عابر للقارات ويتم بواسطة أجهزة كمبيوتر عبر شبكات إنترنت واتصالات رقمية هدفها تعطيل أو تدمير برنامجٍ ما أو سرقة معلوماته، وتدعى بـ “الهجمات السيبرانية”، ومنها ما هو غامض حتى الآن، ويتم عبر طاقةٍ موجهةٍ تستهدف على وجه الخصوص مسؤولين وعسكريين أمريكيين في مناطق مختلفةٍ من العالم، وتدعى “متلازمة هافانا”، الأمر الذي أثار قلقَ ومخاوفَ إدارة البيتِ الأبيض من استمرار مثل هذه الهجمات، وتوسّع نطاقِها.
بداية ظهور مرض “الطاقة الموجهة” أو “متلازمة هافانا”:
يعود اكتشاف الهجمات بـ”الطاقة الموجهة”، أو ما بات يعرف بـ”متلازمة هافانا” لأول مرة في أواخر عام 2016 بعد إبلاغ قرابة 22 موظفًا في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالعاصمة الكوبية هافانا عن ظهور أعراض غير معتادة عليهم[1]، تتمثل بفقدان السمع والدوار والإعياء. ورجّحت واشنطن حينها أنها ناجمة عن هجمات استُخدمت فيها أجهزة صوتية لتوليد موجاتٍ غير مسموعة قد تُسبب الصمم[2]. وردّت على تلك الهجمات بسحب نصف العاملين في سفارتها هناك، وحذّرت رعاياها من السفر إليها، كما طردت 15 دبلوماسيًا كوبيًّا من أراضيها، في حين نفت كوبا ضلوعها في أي هجمات، ووصفت هذه القرارات بأنها “متسرعةٌ وتؤثّر على العلاقات الثنائية بين البلدين”[3].
كما اكتُشفت حالاتٌ مشابهةٌ عام 2017 لموظفين آخرِين في القنصلية الأمريكية في مدينة غوانزو الصينية، عانوا من أعراضٍ وعلاماتٍ مماثلة لـ”متلازمة هافانا”[4]، وحالةٌ أخرى لعميل سريّ يعمل لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في العاصمة الروسية موسكو[5]، إضافةً إلى حالات مشتبه بها أيضًا في أوروبا وآسيا. فيما فتحت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تحقيقًا في هجومٍ بـ”الطاقة الموجهة” استهدف جنودًا أمريكيين في سوريا خريف عام 2020، بعد ظهور أعراضٍ تشبه أعراض الإنفلونزا على عددٍ منهم[6].
ومؤخّرًا عبّرت الولايات المتحدة الأمريكية عن “قلقها البالغ” بعد توقع شنّ هجماتٍ من هذا النوع داخل أراضيها، ووقعت إحداها بالفعل عام 2019 ضد مسؤولة في البيت الأبيض أثناء سيرها رفقة كلبها في إحدى ضواحي ولاية فيرجينيا[7]، فيما وقعت أُخرى بالقرب من البيت الأبيض في تشرين الثاني/ نوفمبر2020 ضد مسؤول في مجلس الأمن القومي. كذلك كشفت السلطات الكندية في أيلول/سبتمبر 2020 عن إصابة سيدة بنفس أعراض “متلازمة هافانا” بعد قضائها إجازة في كوبا[8].
بدورها قالت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في تقرير حديث لها: إن أكثر من 130 أمريكيًّا أصيبوا في هجمات بـ”الطاقة الموجهة” منذ خمس سنوات حول العالم، بينهم 60 شخصًا في كوبا والصين[9]، وأوضحت أن درجة تلف الدماغ لدى بعض الحالات تتراوح من الصداع إلى الأفكار الانتحارية، في حين اضطر بعض المرضى لترك العمل مبكّرًا لعدم قدرتهم على التركيز.
ما “الطاقة الموجهة” أو “متلازمة هافانا”؟ وما أعراضها؟
أسلحة “الطاقة الموجهة”(Directed-energy weapon) هي عبارة عن مظلة تشمل تقنيات وأدوات تنتج شعاعًا من الطاقة الكهرومغناطيسية المركزة، أو الجسيمات الذرية أو دون الذرية[10]، تُوجَّه نحو هدفٍ معين دون وجود قذيفة؛ لتحقيق التأثير المرغوب فيه ضدّ قوى معادية، ما يؤدي إلى إحداث ضررٍ مادي؛ كتعطيل أو تدمير معدات وآليات وأجهزة إلكترونية، أو إحداث ضرر بشري كألم وإصابات دائمة لدى الأفراد. تأخذ هذه الأسلحة أشكالًا متنوعة، منها ما هو على شكل أشعة ليزر، أو موجات راديو (لاسلكي) عالية الطاقة، أو ترددات ميكروويف.
وخلُصت دراسة لجامعة الدفاع الوطني الأميركية إلى أن “طاقة الترددات الراديوية النبضية الموجهة” هي السبب الأكثر احتمالًا لحوادث “متلازمة هافانا”[11].
وعلى العموم هناك أنواع لـ”الطاقة الموجهة”؛ أبرزها أجهزة التداخل مع اتصالات التشويش، كالمضادات الإلكترونية، والتشويش عبر الراديو والرادار، إضافة إلى أسلحة “الدازلر” المصممة لتعمية أو تشتيت العين البشرية، والأسلحة الصوتية التي تستخدم الصوت وسطًا لنقل الطاقة المدمرة. وتتمتع هذه الأسلحة بعدة مزايا، أبرزها: أن أشعة الليزر التي تطلقها تنتقل بسرعة الضوء، وليست بحاجة إلى وجود الهدف أمام السلاح، الأمر الذي يحرم الهدف من أي فرصة للهرب أو الكشف عن الهجوم[12].
وتنتج عن هجمات “الطاقة الموجهة” عدة أعراض وعلامات سريرية، شملت ظهورًا مفاجئًا لضوضاء عالية يُعتقد أن لها سمات اتجاهية، صاحبَها صداع وطنين في الأذنين، ومشكلات في التوازن والنظر، وصعوبات في الإدراك، بحسب تقرير الأكاديمية الوطنية للعلوم[13]، كما كشف التقرير عن أدلة قوية على أن الحوادث كانت نتيجة هجوم ضار، وسببها الطاقة “الموجهة” و”النبضية”، وليس “المستمرة”، وأن “الأعراض الفورية التي أبلغ عنها المرضى – بما في ذلك الأحاسيس الغريبة بالألم والضغط والصوت التي غالبًا ما تبدو صادرة من اتجاه معين – كانت أكثر اتساقًا مع الهجوم الموجه”[14].
ما الدول التي تمتلك “الطاقة الموجهة”؟
هناك العديد من الدول التي تمكنت من الحصول على أسلحة “الطاقة الموجهة” وتطويرها، وتأتي في مقدمتها روسيا التي تدور حولها الشكوك قبل غيرها بالوقوف خلف الهجمات الأخيرة؛ ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2016 كشفت موسكو عن سلاح إلكتروني جديد يدمّر أهدافه بـ”الطاقة الموجهة”، بإمكانه تدمير أو تعطيل أنظمة التوجيه والملاحة الإلكترونية المتطورة في الطائرات المأهولة وغير المأهولة والصواريخ الموجهة بدقة وتدمير آليات، حيث يعتمد السلاح على حاملات أرضية وجوية وبحرية. وهذا ما اعتبرته وسائل إعلام أمريكية – في حال صحة تلك التقارير- تطورًا قد يؤدي إلى تعقيد التخطيط الاستراتيجي العسكري الأمريكي[15].
كذلك تعمل الصين – بحسب تقرير لموقع “ديفنس نيوز” – على تطوير أسلحة “طاقة موجهة” تعمل بأنظمة ليزر محمولة باليد وعلى مركبات يمكن لها إحداث ندب في جلد الإنسان وأنسجته على الفور، وأن تشعل الملابس وتسقط طائرة صغيرة بدون طيار من السماء، أو تفجر خزان وقود[16]، فيما تسعى الهند إلى امتلاك نموذج آخر من سلاح “الطاقة الموجهة” يتمثل في “نظام الليزر التكتيكي عالي الطاقة”، تتركز مهمته في إحداث ضرر في أجهزة اتصالات العدو، والتشويش على راداراته[17].
من ناحيتها، تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من أسلحة “الطاقة الموجهة” أبرزها مركبة “HEL MD”، حيث تتميز بقدرتها على إطلاق أشعة ليزر بقوة 40 كيلو واط، وباستطاعتها تدمير قذائف هاون ومسيّرات عادية ومروحية[18]، فيما بلغ حجم الإنفاق الأمريكي على بحوث أسلحة الليزر قرابة 2.4 مليار دولار أمريكي في عام 2014 وفقًا لتقرير مركز الأمن الأمريكي الحديث، الذي يشير إلى أن الهدف الأساس من كل تلك الأبحاث، هو معرفة القدرة على إسقاط الصواريخ الباليستية التي اتضح أنها “بعيدة المنال”[19].
من الدول التي تقف وراء هجمات الطاقة الموجهة؟ وما غايتها؟
معظم الاتهامات الأمريكية في الهجمات التي تعرض لها الدبلوماسيون والجنود الأمريكيون تركزت على روسيا، حيث تشتبه الولايات المتحدة بضلوع الاستخبارات الروسية في هجمات الطاقة الموجهة ضد ضباط أمريكيين بمناطق متفرقة من العالم[20]؛ ولكن ليس لدى الأمريكيين معلومات كافية لتأكيد ذلك بشكل حاسم أو نفيه، إلا أنها أكدت أن مجلس الأمن القومي يعمل مع وكالات أخرى لمعالجة “الحوادث الصحية غير المبررة”.
وتحاول إدارة بايدن أخذ القضية على محمل الجد، وطمأنة المشرعين الغاضبين بأن إدارته “ملتزمة بالوصول إلى جوهر القضية ومحاسبة المسؤولين”، حيث وجهت انتقادات إلى إدارة ترامب لسوء إدارتها من قبل لهذا الموضوع، وقالت: “إن رد وزارة الخارجية على هذه الحوادث اتسم بالافتقار إلى القيادة العليا، وبالاتصالات غير الفعالة، والفوضى المنهجية”[21].
بدورها كشفت صحيفة “بوليتكيو” الأمريكية عن أن وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” تحقق في احتمال قيام روسيا بتنفيذ الهجمات بـ”الطاقة الموجهة” ضد الجنود الأمريكيين في سوريا، وأحاطت كبار المشرعين بالمعلومات الاستخبارية المتعلقة بالهجمات، في حين نفى قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال كينيث ماكينزي[22] حدوث أي هجمات ضد قواته في المنطقة، لكنّه توجه إلى عضو لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الكونغرس الأميركي السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنتال بالقول: “يمكنني الحديث أكثر عن هذا الموضوع في جلسة مغلقة”[23]، ما يرجح عدم رغبة “البنتاغون” في التصريح بشكل علني بهذه القضية الحساسة والإبقاء على سرية التحقيقات، فيما تعهّد مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز بإحياء التحقيقات في طبيعة الأسلحة المستخدمة، ومحاسبة الجهة التي تقف وراءها[24].
بدورها ألمحت الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم في تقرير لها إلى أن هذا النوع من الهجمات، هو من أساليب الاستخبارات السوفيتية السابقة (كي جي بي)، استخدمته ضد خُصومها بعد أن طورته مختبرات الفيزياء العسكرية السوفيتية على مدى نصف قرنٍ تقريبًا[25].
ومن جانبه، كشف مسؤول سابق في الأمن القومي الأمريكي شارك في التحقيقات في هجمات 2016 و2017، عن “أنه قد يكون لدى إسرائيل والصين تكنولوجيا للطاقة الموجهة، لكن لا يوجد من أي من البلدين من يعمل في المواقع التي تم الإبلاغ عن الحوادث فيها، أو أظهر الرغبة في مهاجمة الأمريكيين بهذه الطريقة”[26]، ولكن بالرغم من ذلك فإن الصين كانت موضوعة في دائرة الاتهام، حيث صرح مسؤول أمريكي سابق شارك أيضًا في التحقيقات بأن بكين كانت من بين المشتبه فيهم في الهجمات[27].
خاتمة: برغم مضيّ سنواتٍ من الحديث عن الهجمات بالطّاقة الموجّهة ضدّ دبلوماسيين وجنودٍ أمريكيين، وَتكرار هذا الحدث مؤخرًا، فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم توجِّه حتى الآن اتهامًا رسميًّا إلى روسيا أو غيرها بالوقوف وراءها، وأبقت الموضوع قيد الدراسة والتحقيقات السريّة، خصوصًا مع صعوبة إيجاد أدلةٍ قاطعةٍ إزاء ذلك، ولكن بالمجمل فإنّ شكوك واشنطن تحوم حولَ موسكو، ما قدْ يجعل هذا النمط الجديد من الحروب الحسّاسة غير المدمِّرة حلقةً جديدةً من حلقات صراع القطبين الأمريكيّ والروسيّ، لتُضاف بذلك إلى حلقات التنافس العسكريْ والأمنيّ والاقتصاديّ بين الجانبين.
رويترز، أمريكا تأمر بطرد 15 دبلوماسيًا كوبيًا
بي بي سي عربي، واشنطن تكشف عن تعرض دبلوماسييها في كوبا إلى “هجمات صوتية” أفقدت بعضهم السمع.
بي بي سي عربي، واشنطن تسحب معظم العاملين في سفارتها في كوبا بعد تعرضهم لـ “هجمات”.
الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية، تقييم المرض في موظفي الحكومة الأمريكية وعائلاتهم في السفارات الخارجية.
مجلة جي كيو، سر الارتجاج الظاهر
موقع بوليتيكو، وحدة تجسس روسية يشتبه في قيامها بهجمات طاقة موجهة على أفراد أمريكيين.
سي إن إن، مصادر لـCNN: تحقيق في هجوم غامض قرب البيت الأبيض مشابه لهجمات “متلازمة هافانا”
كندا نيوز24، مرض يشبه “متلازمة هافانا” يصيب الكنديين العائدين من إجازة في كوبا.
نيويورك تايمز، يقال إن الأمراض الغامضة أكثر انتشارًا بين الموظفين الأمريكيين.
تقرير لجامعة الدفاع الوطني الأميركية بعنوان “أسلحة الطاقة الموجهة حقيقة… ومخرب” رقم الصفحة 1.
[11] نفس المصدر السابق
موقع المعرفة، سلاح الطاقة الموجهة
[13] نفس المرجع رقم 4
نيويورك تايمز، تقرير يشير إلى “هجوم” الميكروويف كمصدر محتمل للأمراض الغامضة التي تصيب الدبلوماسيين والجواسيس
موقع الإلكترونيات العسكرية والفضائية، سلاح روسي جديد موجه للطاقة يمكن أن يعقد التخطيط الاستراتيجي العسكري الأمريكي
[16] [16] https://bit.ly/3fCHryB
موقع ديفنس نيوز، أسلحة الطاقة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والموجهة: من يمتلكها، ومن سيفوز بالسباق في منطقة آسيا والمحيط الهادئ؟
الحرة، “فتاك وغير مرئي”.. أسرار سلاح “الطاقة الموجهة”.
[18] https://go.nature.com/33Z4BtT
نيتشر، الطبعة العربية، أسلحة الليزر: من الخيال إلى الحقيقة
تقرير مركز الأمن الأمريكي الحديث بعنوان” أسلحة الطاقة الموجهة.. الوعد والآفاق” رقم الصفحة (5)
الجزيرة، اتهام روسيا بتدبيرها.. تسريب معلومات عن هجمات بأسلحة غامضة ضد جنود أميركيين
موقع أرشيف الأمن القومي الأمريكي، الولايات المتحدة وكوبا: أسرار “متلازمة هافانا”.
[22] نفس المرجع رقم (6)
الحرة، هجمات “الطاقة الموجهة” في سوريا.. جنرال أميركي يعلق على الموضوع
اندبندنت عربي، “متلازمة هافانا” الغامضة تصيب مسؤولين أميركيين مجددًا
اليوم السابع، أكاديمية العلوم الأمريكية تكشف سر متلازمة أصابت دبلوماسيين أمريكيين وكنديين.
[26] نفس المرجع رقم (6)
[27] نفس المرجع رقم (7)
رابط المصدر: