نائل الحسيني
نقرأُ في الموروثِ الأدبي كثيراً انّ بعضَ الشعراء كانوا يقولون الشعر ارتجالاً ومن ذلك شعر الارجوزة او الاراجيز؛ ولهذا البحر تفاصيله تُقْرَأُ في محلها “1” ؛ و التي يستعملها الناس منذ الجاهلية “2”في مناسبات عديدة”3″ ، وكذلك يقوله الفرسان ساعة المعركة او النِّزال لابراز الشجاعة والحسب والنسب وهو محلُّ حديثنا ، وتُجمِعُ الاراء الادبية على ان هذا اللون من الشعر انتشر كثيراً في العهد الأموي .
وفي يوم الطف “4” ، اتضح ان انصار الحسين ع كانوا مقبلين على الموت لا محالة ، لهذا هم لا يتجملون بكلماتهم و انما يلفظونها كانعكاس صادق و واضح عن نواياهم و اسبابهم و استعدادهم لتجرع كاس المنية من أجل قضية مقدسة . ان الإتِّجازَ في هذا اليوم هو كتوقيع في سجل الحاضرين لهذه الواقعة المفصلية بتاريخ الاسلام ، و لهذا تسابقوا جميعا لامضاء اسماءهم في هذا السجل المقدس . هذا ولم يبرز أحد من أهل الحسين أو صحبه الا و ارتجز ؛ وأراجيزهم الخالدة موجودة يمكن الاطلاع عليها”5″والتي اشتملت على التعريف عن النفس والفخر والاقدام
_أراجيز العباس بن علي ع _
لقد اتحد شعر العباس مع من ذُكروا وزناً وكيفيةً وموضوعاً الا انَّ ما يُميزهُ من خصائص هو انه برغم بساطة الفاظ ابياته الا ان مضمونها كان ذا قيمة عُليا كشفت معتقده الذي نزل به الى الميدان ، ……
أقسمت بالله الأعز الأعظم
وبالحجون صادقاً.. وزمزم
وبالحطيم والفنا المحرم
ليخضبن اليوم جسمي بدمي
دون الحسين ذي الفخار الأقدم
إمام أهل الفضل والتكرم
مُطابقٌ لما ورد في التاريخ من انه عليه السلام كان من فقهاء المدينة وهذا جليٌّ في ابياته التي يحرص فيها على اظهار الروح الايمانية والعقيدة الدينية التي حملته على القتال وليس هناك من دافعٍ قَبَليٍ او مذهبي عنصري .
اما على المستوى العاطفي والانساني كان العباس اخر من بقي من اهل بيت الحسين ع حيث انه وبرغم ماشاهد من وقوع الابطال وقلة الحيلة والناصر والعطش الذي يُكابده تجده محبوس الدمعة غزير الحميَّة ليس عليه علامات الانهيار او الضعف
وعلى مستوى المسؤولية كان يحمل لواء الجيش ويثبت في قلب ميدان المعركة مهما كر وفر لا يُفارق موقعه الستراتيجي .
هنا يبرز العباس مأذوناً من امامهِ في لحظة تدعو لحبس الانفاس وتبعثنا على التأمل ويصل الضرغام الى المشرعة ويستجيب لنداء التركيبة البيولوجية ، نعم إنه العطش ، الذي يعانيه حامل اللواء وقائد الميدان والمثكول بسقوط اصحابه واهل بيته ويحمل شعور تداعي الخطة العسكرية ، ونفاذ الذخيرة والعون ؛ لتمتد كفه لبارد الماء الا ان المدهش هنا….
يانفس من بعد الحسين هوني
وبعده لاكنت أو تكوني
هذا الحسين وارد المنون
وتشربين بارد المعين؟!
تالله ما هذا فعال ديني
ولافعال صادق اليقين
ليعود مرة اخرى ويركز فكرة الذوبان في القيادة حتى لو جاز له شرعاً وفطرياً شرب الماء وكان العذر معقول في ان القائد يشرب الماء لكي يقوى على الاستمرار بأداء واجبه ولكن في في فلسفة العباس تختلف الموازين هنا ، نعم هيهات !، فهذا البطل يرى ان هذه ليست بفعال دين بل ولا فعال صادق اليقين !! ؛ هنا تقف كل اجيال البشرية خاشعة مطأطأةً الرأس امام هذه الاكاديمية الانسانية بكل ما تحمل من قيم عاطفية وعسكرية واخلاقية ودينية وعقدية وقيادية !!
ويشعر المحارب الوفي بخطورة الموقف والتفاف العدو …….
لا أرهب الموت إذا الموت زقا
حتى أوارى في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقى
إني أنا العباس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشر عند الملتقى
ليؤكد مرة أخرى على ان الموت بالنسبه اليه اهون من شربة الماء التي راودته عن نفسه بألف مرة كيف لا وهو الذي نشأ وَقفَاً لهذا اليوم بعهدٍ معهود!
نعم ، ويعتلي الفارس جواده وينطلق بقربة مَلأهَا بقطرات ماء ملؤها التفاني وهنا تقطع يد الفارس اليمنى ! ……
والله إن قطعتم يميني
إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
نجل النبي الطاهر الأمين
التساؤل هنا كيف تمكن فارسٌ من القاء الشعر بنفس الوزن والقافية والبيان والقوة بعد ان تُقطع يده ! هل يتمكن احدنا من رفع صوته مرتجزاً باسلاً من على صهوة جواده وللتوِّ تُقْطَعْ يدُهُ وتَشْخَبُ دماً عبيطاً !!
ليمضي هذا الباسلُ بمشواره الصعب غير آبهٍ بالخطب الذي حلَّ به وبالمفهوم العسكري والشرعي والطبي يتضحُ ان التكليف قد سقط عنه نظراً الى ان ما تبقى من قوة لا تسعفه سوى للنزول عن الجواد والتهيؤ لقبض الروح !
يفاجئنا العباس للمرة الالف !، ويمضي لتقطع شماله بنفسي هو ……
يا نفس لا تخشي من الكفار
وأبشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار
مع جملة السادات والأطهار
قد قطعوا ببغيهم يساري
وقد طغى فينا ولاة العار
فأصلهم يا ربّ حرّ النار
لتبدو الارجوزة كدمام يشق بصوته صمت هول المنظر ، تطالعُ جلياً كيف بدتْ كلماته عليه السلام اكثر وقعاً بموسيقاها الجارفة التي تحتدم امامها كل ما جاشت به النفس من مشاعرٍ وتأملات ، ولنسأل اهل الشعر والنقد الادبي هل هناك ما يشير الى ضعفٍ أدبي على مستوى العَروض او النحو او البلاغة او البناء الشعري لنعود لنندهش مرة اخرى ونقف حائرين كيف يتأتى لبشرٍ لم يشرب الماء من ثلاثة ايام ويحمل مسؤولية العسكر مقطوع اليمين والشمال ويحمل هم القضية التي يعلم انها ستكون محور قضية الاسلام برمته ! ؛ ذلك الهم الذي حمله مُذْ أوصاه ابوهُ بكفالة اخته الحوراء ، كيف تأتى لمثل هذا يعطي انطباعاً نستجليه من خلال ارجوزته انه بهذه الحالة الجسمانية المنهارة لايزال ثابت الجَنانْ مستمسكاً بعهده صُلْباً بمعنوياته !؛ هنا تمتزج العاطفة بأحداثيات النقد الأدبي كما يفعل اهل الادب في اعطاء الباحث او الكاتب عُذراً ان وُجِدَ ضَعفاً في النصِ ؛ ولكن هنا يحدث العكس تماماً ! ، فالناقد والاديب يقفان متحيران امام الفارس الشاعر والشاعر الفارس وليس هناك من ضعفٍ قدمه للتاريخ كي يكون معذوراً عندهم بل ما وجدوهُ معجزةٌ مع انّ قضية الطف بجميعها لم تَكُنْ ذات مقاييس غيبية
ها هنا يكمن فهم القول من ان العلم والدراية ينطلق أساساً من العقل والقلب والروح قبل أن يُثبتْ على الورق فالعباس تجلت فيه معارفٌ ومعارفْ يغترف منها كُلٌ بوعائه على اختلاف الاذواق والمشارب وكان الحديث هنا من وجهة نظر أدبية شعرية اظهرت لنا بشكل جلي شجاعة الفارس من خلال منطوقاته الشعرية التي حملت مؤيدات لغوية وتحليلية لشجاعته وإقدامه وسيرته النادرة
والحمد لله أولاً وآخراً
الهوامش
”1″https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%AD%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AC%D8%B2
“2”نشأة الرجز بين الجاهلية والإسلام في دراسات المستشرقين الدكتور : سعد عدوان وهيب
“3” الارجوزة فن شعري جميل ، الدكتور اسعد النجار
“4”فن الأرجوزة في يوم الطف ، الاستاذ جعفر حاجم البدري
“5”أراجيز الطف … أناشيد تطرز ملحمة المجد
.
المصدر: عبر منصات التواصل للمركز