محمد علي جواد تقي
كل واحد منّا يرغب بالصدارة والرئاسة، بأن يكون هو مختار المحلّة، او رئيس المجلس المحلّي، او على الأقل من أعضائه، او يكون المدير، او الوزير، او النائب، بل حتى البعض يتطلع لأن يكون ضابط في الشرطة! بدافع الوجاهة الاجتماعية و”الهيبة” والمَنَعة، بمعنى أن يكون الأول، وسرت هذه العدوى حتى في عالم التجارة والأعمال، فنلاحظ الشباب والفتيان يتصدرون واجهات المحال التجارية، أو المهن الحرة، يستقبلون الزبائن متقمصين دور صاحب المحل، فيخوضون المساومة على الاسعار، ويبدون استعدادهم لانجاز ما يُطلب منهم، ولكن! لا أحد يفكر يوماً بأن يكون الرجل الثاني في المناصب والمهن، وربما يرى البعض أن القضية محصورة بين أن يكون أولا يكون!
العباس بن أمير المؤمنين، عليهما السلام، لم يأخذ من أبيه الشجاعة والعلم والحلم والتقوى والصبر وسائر المكارم والفضائل، وإنما تعلم ايضاً ثقافة القيادة في المجتمع، وأن دوره في الحياة يقع ضمن تراتبية قيادية في تسلسل الإمامة والولاية، وهذا ما وعاه العباس منذ نعومة أظفاره عندما التزم بما علمته أمه الفاضلة والعارفة؛ أم البنين، بأن يخاطب أخاه الحسين بلفظ السيد والإمام، وليس بعنوان الأخوة، رغم الحب العميق والحنوّ للإمام الحسين، على أخيه أبي الفضل العباس، وقد أسرها في نفسه طيلة سنوات الرفقة الأخوية حتى حانت لحظة الفراق المُر يوم عاشوراء عندما صارح الإمام الحسين برغبته بمناداته بالأخوة، ولو لمرة واحدة في حياته.
ولعل هذا يفسّر سر اختيار الامام الحسين لأخيه العباس لأن يكون حامل لوائه ومركز معسكره، بل هو بالحقيقة كان يمثل العمود الفقري لجيش الإمام، وهيبته وتماسكه، فلم تكن مهمته قتالية، فقد احتفظ به الامام حتى اللحظات الاخيرة، وهو تكتيك عسكري متبع قديماً، اضافة الى أنه اسلوب حضاري للحفاظ على مكانة القيادة في الامة. ففي الجيوش والسرايا التي كان يبعثها النبي الأكرم للغزوات، كان يحدد القائد ويحدد من يليه بعد استشهاده، كما أن الانبياء المرسلين من السماء كانوا معززين بالأوصياء ومن يشدّ أزرهم، وينوب عنهم في الحالات الطارئة، كما اتخذ موسى أخاه هارون وزيراً، واتخذ النبي الأكرم علياً وصياً وخليفة من بعده، وكما كان مالك الأشتر بالنسبة لأمير المؤمنين، وقد أكد هذا، عليه السلام، في نعيه للأشتر بأنه كان “كما كنت لرسول الله”.
لقد تفوق أبي الفضل العباس في هذا الدرس، بينما سقط آخر من ابناء أمير المؤمنين عندما جاءه في معركة صفين، بعد أن نزغه بعض الناس، بأنه يخوض المعارك ويرتطم بالسيوف والرماح، بينما الحسنان بعيدان عن الموت، فنقل هذا السؤال الى أبيه أمير المؤمنين، فرد عليه بحزم ليعيده الى صوابه: “بُني! أنت يدي التي تضرب بالسيف، أما الحسنان فهما عيناي التي أرى بهما”.
كان سيدنا أبا الفضل العباس فقيهاً، وقائداً شجاعاً، وكريماً مضيافاً، وعابداً متهجداً، وشخصية متكاملة من مدرسة أمير المؤمنين، بيد أنه في نفس الوقت كان منصهراً في شخصية أخيه الامام الحسين، ومبالغاً في طاعته والتضحية في سبيله، وهذه التضحية تعلمها في هذه المدرسة، عندما يسمع من أبيه كيف أنه بات على فراش رسول الله ليوهم الأعداء بوجود النبي ويوفر له التغطية الأمنية لمغادرة مكة بعيداً عن عيون المشركين، رغم ما كان ينطوي على هذا العمل من خطورة التعرض لسيوف الاغتيال المُعدة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذه البصيرة والنظرة الثاقبة أكسبته، عليه السلام، شهادات التكريم العظيمة من الإمام السجاد، والامام الصادق، عليهما السلام، فنحن نقرأ في زيارته على لسان الامام الصادق: “أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم”، إنها المواصفات الدقيقة للرجل والطامح لأن يكون قائداً ناجحاً، تكون قيادته مبنية على الايمان والأخلاق، وهو درسٌ بليغ لنا بأن لا أن نحدّق دائماً صوب القمة لنكون الأعلى على الآخرين، اشباعاً لنشوة الهيمنة، إنما المهم النظر الى القدرات والطاقات، ثم الاستحقاقات الموجودة، فليس كل الناس يتمكنون من أداء دور القائد، ولكن الجميع يتعاملون بالضرورة مع القائد.
وأبو الفضل العباس، في ذكرى مولده العطر، يعطينا درساً في كيفية التعامل، ليس مع القيادة الشرعية فقط، وإنما في مختلف الميادين ومجالات العمل، بأن ننجح من موقعنا وتخصصنا كرجل ثان، أو حتى ثالث، وتغليب المصلحة العامة والاهداف الكبيرة على المصالح الخاصة.
.
رابط المصدر: