بعد يومين من عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، واستهدفت المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية في محيط قطاع غزة، أعلن المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر “الكابينت” حالة الحرب، ومنع وصول إمدادات الماء والكهرباء والوقود والمواد الغذائية إلى القطاع المحاصر أصلًا. واستغلت الحكومة الإسرائيلية الموقف الأميركي الداعم بقوة لإطلاق عملية عسكرية شرسة بأفق مفتوح على أمل إحداث تغيير جذري في قطاع غزة، ومن خلالها في القضية الفلسطينية وعموم المنطقة، بحسب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
لكن مع تغير “المزاج” الدولي نتيجة سياسات العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل ضد المدنيين، واستهداف المستشفيات والمدارس، يزداد إلحاح السؤال حول المدى الذي يمكن أن تمضي فيه حكومة نتنياهو بعدوانها على غزة في ظل عجزها عن تحقيق بعض الأهداف التي وضعتها للحرب أو كلها. والواقع أن هناك مجموعة عوامل تدفع إلى إطالة أمد الحرب، في مقابل مجموعة أخرى قد تسهم في تقصير أمدها.
العوامل التي تؤدي إلى إطالة أمد الحرب
صعوبة تحقيق أهداف الحرب: وضعت إسرائيل لنفسها جملة من الأهداف صعبة التحقق، تتمثل في القضاء على القوة العسكرية لحركة حماس وعلى حكمها في قطاع غزة. ثم أضافت هدفين آخرين، هما إعادة الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين وتحقيق الانتصار على نحو لا لبس فيه. وتنبع صعوبة تحقيق هذه الأهداف من أن ذلك يستدعي قيام الجيش الإسرائيلي باحتلال قطاع غزة بالكامل، في ظل وجود نحو 2.3 مليون فلسطيني، ما يعني ارتكاب مجازر واسعة وجرائم ضد الإنسانية من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تحقيق أهداف الحرب.
منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، لم يخض الجيش الإسرائيلي حربًا في المدن، ولم تتعرض جاهزيته وقدرات قواته البرية للامتحان مع وجود اعتقاد واسع داخل إسرائيل بعدم جاهزيتها. ويستعمل الجيش الإسرائيلي ثلاث فرق في حربه على مدينة غزة ومحاور شمال القطاع. وتتقدم قواته ببطء شديد هناك تجنبًا لوقوع خسائر كبيرة في صفوفها، ما يطيل أمد الحرب. وعلى الرغم من تفوق الجيش الإسرائيلي في العدد والعدة واستخدامه الجرافات التي تشق الطرق للدبابات والمجنزرات والآليات العسكرية الأخرى، وحصوله على دعم ومشورة من الخبراء العسكريين الأميركيين في حرب المدن، فإنه يجد صعوبة بالغة في التقدم في مدينة غزة بسبب المقاومة العنيدة التي تواجهه؛ فالمقاومون الفلسطينيون يعرفون المنطقة جيدًا، ومدرّبون على حرب المدن، وهم يظهرون فجأة من الأنفاق أو الخنادق أو من بين الركام أو من البنايات التي لا تزال قائمة، ويوجهون صواريخهم المضادة للدروع وأسلحتهم الخفيفة ضد دباباته وآلياته وجنده، ويعودون ليختفوا بسرعة. لذلك يجد الجيش الإسرائيلي صعوبة كبيرة في احتلال مدينة غزة والقضاء على المقاومة فيها. ويرى وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، ورئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، أن الجيش في حاجة إلى أسابيع طويلة، أو شهور، من أجل احتلال مدينة غزة وعموم شمال القطاع والقضاء على المقاومة فيهما.
وحتى إذا تمكّن الجيش الإسرائيلي من احتلال مدينة غزة والمنطقة الشمالية من القطاع، فهذا لا يعني أن إسرائيل حققت أهداف الحرب، لأن حماس قد تحافظ مع ذلك على جزء من قدراتها العسكرية على الأقل، ما يعني أن إسرائيل سوف تتوجه بعد ذلك، إذا لم تتمكن القوى الإقليمية والدولية من وقف عدوانها على القطاع، إلى احتلال وسطه وجنوبه؛ وهذا سيحتاج إلى أشهر إضافية، وفق ما يذكره القادة العسكريون الإسرائيليون. وحتى إذا تمكن الجيش الإسرائيلي من احتلال كامل قطاع غزة، فهذا لا يعني انتهاء العمليات العسكرية فيه، فقد تستمر المقاومة على شكل عمليات فدائية ضد قوات الجيش الإسرائيلي في القطاع.
وضعت القيادات الإسرائيلية تحقيق النصر الحاسم هدفًا أساسيًا للحرب على قطاع غزة، إلى جانب القضاء على حماس وحكمها، ويتضمن مفهوم النصر هنا إعادة بناء قدرة الردع، واستعادة هيبة الجيش والمؤسسات الأمنية التي انهارت يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وهذا الأمر يستغرق تحقيقه فترة طويلة. يدرك القادة الإسرائيليون أن من الصعب محو الهزيمة التي ألحقتها عملية طوفان الأقصى بإسرائيل وباستراتيجيتها وتصوراتها وفرضياتها تجاه قطاع غزة، في الوقت الذي لا تزال فيه مختلف أشكال الفشل الاستراتيجي والعسكري والمخابراتي الإسرائيلي ماثلة للعيان. ومما يزيد من الشعور بمرارة الهزيمة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر أن الطرف الذي وجّه الضربة إلى إسرائيل لم يكن دولة كبيرة يُحسب لها حساب، وإنما حركة مقاومة في قطاع غزة الصغير والمحاصر منذ سنة 2007، أوقعت بإسرائيل في يوم واحد أكثر من 1400 قتيل من العسكريين والمدنيين، وعدة آلاف من الجرحى وأسر نحو 240 آخرين، جرى سوق بعضهم من قواعدهم العسكرية، وكان من ضمنها مقر قيادة “فرقة غزة” في الجيش الإسرائيلي وقاعدة “يركون” التابعة للاستخبارات العسكرية (أمان) التي تعد من أهم قواعد الاستخبارات العسكرية في إسرائيل[1]، كما احتل عناصر المقاومة الفلسطينية نحو 20 من الكيبوتسات الإسرائيلية وظلوا “يقاتلون فيها نحو يومين كاملين”[2].
لا يعني تحقيق النصر بالنسبة إلى القيادة الإسرائيلية القضاء على حماس وعلى حكمها في قطاع غزة فحسب، وإنما يعني أيضًا، وبدرجة أكبر، تلقين الفلسطينيين درسًا لا يُنسى على تجرؤهم على مقاومة إسرائيل وإذلالها من خلال إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وارتكاب المجازر المتتالية ضد المدنيين، في إطار ما أصبح يعرف في الأدبيات الإسرائيلية بـ “كي الوعي”. فارتكاب المجازر المتتالية ضد المدنيين الفلسطينيين ليس ضرورة للقضاء على حماس وحكمها في قطاع غزة، ولا يأتي لإشباع غريزة الانتقام فحسب، وإنما هو، وفق مفهوم “كي الوعي”، جزء من معادلة تحقيق النصر، التي يجب ألا تتناسب فيها خسائر الفلسطينيين في الأرواح والممتلكات بأيّ حال مع الخسائر الإسرائيلية. ومعادلة النصر هي جزء مهم من عملية إعادة الردع والهيبة للجيش الإسرائيلي محليًا وإقليميًا ودوليًا؛ وهي تعني، كما صرح وزير الزراعة الإسرائيلي عضو الكابينت السياسي الأمني، آفي ديختر، ارتكاب نكبة ثانية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة أكبر من النكبة الأولى من حيث عدد القتلى والمهجرين.
وتأتي تصريحات قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين، مثل تصريح نتنياهو عن “إبادة عماليق”، وخطاب هليفي أمام جنوده الذي بث التلفزيون الإسرائيلي مقاطع منه بضرورة إبادة العدو، وتصريحات العديد من القادة والمحللين الإسرائيليين بضرورة محو غزة من الخريطة، وتصريح وزير التراث عميحاي إلياهو من حزب القوة اليهودية عن استعمال السلاح النووي ضد قطاع غزة كأحد الاحتمالات الممكنة[3]، في سياق تحقيق معادلة النصر على الفلسطينيين.
تخدم إطالة أمد الحرب نتنياهو وغالانت وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية، وخاصة رئيس الأركان العامة ورئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) ورئيس المخابرات العامة (الشاباك) ورئيس الموساد وقائد سلاح الجو وقائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، باعتبارهم مسؤولين عن “كارثة” 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وباستثناء نتنياهو، أعلن قادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية عن تحمّلهم مسؤولية الفشل الذي وقع ذلك اليوم. ويعتقد نتنياهو وغالانت وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية أن إطالة أمد الحرب والابتعاد زمنيًا عن يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر قد يخففان من وطأة النقد والدعوة إلى محاسبتهم عن الفشل والتقصير، وأن تحقيق أهداف الحرب، أو بعضها، بما في ذلك ارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين وإظهار الدمار الهائل الذي يلحقه الجيش الإسرائيلي بقطاع غزة، قد يشبع غريزة الانتقام لدى الإسرائيليين ويخفف من نقمتهم على المسؤولين عن التقصير والفشل، وقد يسجل نقاطًا إيجابية لقادة المؤسسة السياسية والأمنية في لجنة التحقيق الرسمية التي بات من المؤكد تشكيلها عند الانتهاء من الحرب على غزة.
تسهم الخلافات والتوترات وعدم الثقة القائمة بين نتنياهو من جهة وغالانت وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية من جهة أخرى في إطالة أمد الحرب، حيث يسعى كل من هؤلاء إلى الظهور بمظهر الطرف الأكثر تمسّكًا بأهداف الحرب، في إطار مزايدات مستمرة تهدف إلى كسب الرأي العام الإسرائيلي.
يسهم الدعم العسكري الذي تقدّمه الولايات المتحدة لإسرائيل في إطالة أمد الحرب، لأنه بات لديها ما يكفي من الذخيرة للاستمرار فيها فترةً طويلة.
العوامل التي تؤثر في وقف العدوان
ثمة مجموعة عوامل قد تدفع إسرائيل إلى إعادة حساباتها ووقف العدوان على قطاع غزة، وأهمها:
يعد موقف الإدارة الأميركية من أهم العوامل التي في إمكانها التأثير في قرار إسرائيل وقف العدوان على قطاع غزة. وتؤيد الإدارة الأميركية حتى الآن هدف إسرائيل المتمثل في القضاء على حكم حماس في غزة، لكن الدعم الأميركي لإسرائيل ليس مفتوح الأفق، وقد يتغير إذا فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها خلال الأسابيع القليلة القادمة، خاصة إذا ازدادت المعارضة داخل الولايات المتحدة لسياسة دعم حرب إسرائيل على غزة، وبدأت تؤثّر جديًا في فرص إعادة انتخاب جو بايدن للرئاسة الأميركية، وإذا تبيّن لها أيضًا أن استمرار دعمها للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قد يلحق أذى بالمصالح الأميركية في المنطقة، أو يضعف موقفها أمام رأي عام عالمي تتعاظم معارضته للجرائم وللانتهاكات الإسرائيلية في غزة.
يُعد المجتمع الإسرائيلي بالغ الحساسية تجاه الخسائر التي يمكن أن يتكبدها الجيش خلال المواجهات العسكرية. وحتى الآن، يبدو الرأي العام الإسرائيلي مستعدًا لتحمّل الخسائر بالمعدلات القائمة، باعتبار أن الثمن مقبول لرد الاعتبار لما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولكن إذا زادت الخسائر زيادة كبيرة، فسوف يؤثر هذا في موقف الرأي العام من الحرب، وقد يبدأ في ممارسة الضغوط لإنهائها.
يعتمد الجيش الإسرائيلي إلى حد بعيد على قوات الاحتياط، وقد جرى استدعاء الآلاف منهم للخدمة في الأيام الأولى للحرب. وعلى الرغم من أنه من غير المعروف بدقّة عدد قوات الاحتياط التي استُدعيت وتخدم فعليًا في الجيش الإسرائيلي حاليًا، وحتى إذا كان عدد قوات الاحتياط التي تخدم في الجيش الإسرائيلي أقل من 360 ألفًا كما ذكرت بعض التقارير الإعلامية الإسرائيلية، فإن الاحتفاظ بهؤلاء في الخدمة يُلحق ضررًا بالغًا بالاقتصاد الإسرائيلي، ما يشكّل عاملًا ضاغطًا لتقصير الحرب، حتى لو تطلّب الأمر تغيير أهدافها.
يُتوقع أن تتزايد الضغوط نحو الإسراع في إنهاء الحرب من نحو 125 ألفًا من المهجّرين الإسرائيليين الذين جرى إخلاؤهم من المنطقة المحاذية لقطاع غزة والمنطقة المحاذية للحدود اللبنانية – الإسرائيلية، إلى داخل إسرائيل. ويريد هؤلاء أن يعودوا إلى مناطقهم وممارسة حياتهم على نحو طبيعي.
تتعرض قطاعات واسعة من الاقتصاد الإسرائيلي لخسائر كبيرة بسبب استمرار العدوان على غزة. وثمة معطيات متضاربة عن حجم الخسائر التي يتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي، ولكن من الواضح أن استمرار الحرب فترة طويلة سيلحق خسائر جسيمة بالاقتصاد الإسرائيلي وقد يتسبب في أزمة اقتصادية حادة.
خاتمة
لا تزال فرص إرغام إسرائيل على وقف حربها العدوانية على قطاع غزة ضعيفة. فالعوامل التي تدفع في اتجاه استمرارها تبدو أرجح في هذه المرحلة، خاصة في ظل الفشل في تحقيق أيٍّ من أهدافها حتى الآن. وسوف يُنظر إلى التراجع في هذه المرحلة باعتباره هزيمة جديدة لا تستطيع إسرائيل تحمّل نتائجها على مستوى هيبة الردع. إضافة إلى ذلك، يفيد استمرار الحرب قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين على المستوى الشخصي، لأن ذلك يعزز موقفهم إذا ما حققوا بعض أهداف الحرب أمام لجان التحقيق التي ستشكّل لمحاسبة المسؤولين عن التقصير والفشل الذي حصل يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ومن غير موقف عربي أكثر قوة، وضغوط كبيرة على الإدارة الأميركية، فالأرجح أن تعمل إسرائيل وفق ساعتها الزمنية في حربها العدوانية ضد قطاع غزة.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/37014