في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، يقلق العراقيون مما قد يعنيه ذلك على انسحاب مماثل من العراق يؤدي إلى استيلاء الميليشيات الإيرانية على السلطة، أو عودة تنظيم «الدولة الإسلامية»، أو اندلاع حرب أهلية محتملة. وتشمل أوجه التشابه بين الحالتين سياسات المحسوبية الشديدة وترهيب الميليشيات، لكن بغداد لديها مزايا يمكن أن تساعدها في تجنب مصير كابول.
لعل الشعب العراقي هو أكثر مَن انصدم بكارثة أفغانستان. فهو يخشى، أكثر من أي طرفٍ آخر، أن تواجه بلاده مصيراً مشابهاً.
فحتى قبل أن يتحول الانسحاب الأمريكي إلى انهيار كامل للدولة الأفغانية واستيلاء حركة “طالبان” الكامل على السلطة، كان العديد من العراقيين الذين تحدثتُ إليهم خلال زيارتي هناك في تموز/يوليو وآب/أغسطس، قلقين للغاية مما قد يعنيه الانسحاب الأمريكي الوشيك من العراق. هل ستنهي الولايات المتحدة وجود قواتها البالغ عددهم 2500 جندي في العراق أيضاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل سيؤدي ذلك إلى استيلاء الميليشيات الإيرانية على السلطة، أو عودة تنظيم «الدولة الإسلامية»، أو اندلاع حرب أهلية محتملة؟
لقد أثارت مشاهد اليأس التي سادت مطار كابول في الخامس عشر من آب/أغسطس شعوراً بتكرر مشاهد سابقة وقلق بين العراقيين. فقد ذكّرَتْهم كيف انهار الجيش العراقي والشرطة العراقية، المدربين والمجهزين من قبل الولايات المتحدة، في عام 2014 عندما فقدوا ثلاث محافظات وقعت في أيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»). وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت من العراق في عام 2011 ولكنها اضطرت إلى العودة إليه لوقف غزو تنظيم «داعش» ومذابحه بحق العراقيين. ويخشى العراقيون أيضاً تجدد المناقشات في واشنطن وبغداد بشأن الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق. وكما حدث في عام 2011، تضغط إيران على الحكومة العراقية لكي تطالب القوات الأمريكية بمغادرة البلاد. وكما كان عليه الحال في ذلك الوقت، فقد تكون واشنطن أكثر من راغبة في الامتثال.
ومن السهل سرد أوجه الشبه بين العراق وأفغانستان. فعلى غرار أفغانستان، فإن حكومة العراق منقسمة وتعطي الأولوية لسياسة المحسوبية على حساب الحكم الكفؤ للقوى الأمنية المختصة والخدمات الحكومية الأخرى. حتى أن الحكومة العراقية والحكومة الأفغانية المنهارة تنافستا على لقب الحكومة الأكثر فساداً. وكما هو الحال في أفغانستان، فإن الحكومة العراقية والجيش العراقي غير مستعدين للوقوف في وجه الميليشيات الجامحة التي تهدد سيادة العراق واستقراره وتهاجم العراقيين. وكما هو الحال في أفغانستان، فإن الأمر لا يتعلق بالقدرة بل بالإرادة السياسية – فالمسؤولون الأمريكيون يشْكون من أن بغداد تتولى قيادة جهاز مكافحة الإرهاب الذي هو من الدرجة الأولى في المنطقة، لكنها تنشره فقط ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وليس ضد الميليشيات. وعلى الرغم من الضغط الشعبي والدولي، فإن هذه الميليشيات البلطجية، شأنها شأن حركة “طالبان”، هي على أتم استعداد للسعي بصبرٍ من أجل السلطة. فهي تمارس اللعبة الطويلة الأمد مع إيران لبلوغ النصر – بينما يشك العراقيون في أن تكون الولايات المتحدة على نفس القدر من الصمود.
ويخشى الكثيرون أيضاً أن يجد النقاش الدائر في بغداد حول الانسحاب – بتحفيزٍ من إيران – باباً مفتوحاً في واشنطن، لأسباب ليس أقلها أن الفريق الذي انسحب من العراق في عام 2011 عاد إلى البيت الأبيض. ويشعر العراقيون بالقلق من قدرة إدارة بايدن على التعامل مع حكومة عراقية تقودها الميليشيات إذا توقفت هذه الأخيرة عن مهاجمة المصالح الأمريكية. ويخشى العديد من العراقيين تداعيات الموعد النهائي للإدارة الأمريكية لسحب القوات القتالية الأمريكية من العراق بحلول نهاية عام 2021. ومن المؤكد أن الأولويات المتغيرة لواشنطن والتعب من العراق ليست مجرد موقف الحزب الديمقراطي. فقد كانت إدارة ترامب هي التي هددت بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد بعد زيادة هجمات الميليشيات على العسكريين والموظفين الدبلوماسيين الأمريكيين. علاوة على ذلك، فإن التقلبات السياسية والسياسية الحادة في واشنطن تربك أصدقاء الولايات المتحدة وشركائها في العراق، الذين بدأ العديد منهم في البحث عن رعاة أجانب بديلين – على سبيل المثال، أنقرة أو أبو ظبي – لمواجهة نفوذ طهران.
وعلى الرغم من هذه التشابهات الحقيقية والمتصوّرة، فإن العراق بالطبع بلد مختلف تماماً، مما يمنحه فرصة لتجنب مصير أفغانستان. وعلى عكس أفغانستان، يتمتع العراق بتاريخ من المؤسسات الوطنية القوية. وهناك دعم من الحزبين الأمريكيين [الديمقراطي والجمهوري] لمواصلة المسار في العراق، وقيادة التحالف المناهض لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» للحيلولة دون عودة الجماعة الإرهابية، وتعزيز العلاقات الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة تجاهل التهديد الذي تشكله أجندة إيران التوسعية في العراق على المنطقة. وبغض النظر عن المصالح الأمريكية، لدى العراق فرصة أفضل لكبح حكم الميليشيات بالنظر إلى المضادات المحلية للنفوذ الإيراني – من بينها حركة الاحتجاج الشعبية؛ وقلق القيادة الشيعية العراقية الصريحة في النجف من فقدان السلطة الدينية لصالح رجال الدين في العاصمة الدينية الإيرانية قم؛ وخشية زعماء كردستان من أن يكونوا الهدف التالي للميليشيات بعد المحافظات السنية. وبخلاف “طالبان”، تفتقر الميليشيات العراقية المتنوعة إلى قيادة موحدة وقبول على الصعيد الوطني. بالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح المهمة الأمريكية ضد تنظيمي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة» في سوريا يعتمد على وجود الولايات المتحدة في العراق.
ومع ذلك، من الممكن أن يحذو العراق حذو أفغانستان ما لم يقم كلٌّ من العراق والولايات المتحدة بإعادة ضبط العلاقات بينهما. وأول ما يجب فعله بهذا الصدد هو الحفاظ على طابع مكافحة الإرهاب لالتزامات الولايات المتحدة في العراق، ولكن تنويعه أيضاً. وطالما تتوقف العلاقات الأمريكية – العراقية على عدد الأفراد العسكريين الأمريكيين، فإن إيران ووكلائها سوف يطمحون إلى إنهاء العلاقة عن طريق إرغام تلك القوات على الانسحاب. وقد أثبتت الميليشيات إمكاناتها وستواصل هجماتها ضد الوجود الأمريكي، لأنها تعلم أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الصبر وقوة الردع.
ويتطلب صمود العلاقات الأمريكية – العراقية تغيير محور التركيز نحو الاستثمار في بناء القدرات العسكرية والمؤسسية لقوات الأمن العراقية لمكافحة الإرهاب ولأغراض أخرى. يجب أن تكون القدرة وليس الجدول الزمني هي المعيار للتقدم. بالإضافة إلى ذلك، ومن أجل التمكن من تأدية مثل هذه المهمة، يجب نزع الطابع السياسي عن الوجود الأمريكي في العراق. ومن الضروري أن تعلن واشنطن بوضوح أن إعادة ترتيب وجودها العسكري في العراق كمهمة لتقديم المشورة والمساعدة، لن يعني التخلي عن العراق. كما من الضروري جداً أن يشعر الشعب العراقي بفوائد هذه العلاقة في مجالات مثل التجارة والرعاية الصحية والتعليم. وقد سعت سلسلة من الحوارات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق إلى تحقيق مثل هذا الهدف.
علاوة على ذلك، على واشنطن ألا تسمح للحكومة العراقية بالتملص من مسؤولياتها. وقد يجد العراقيون بعض المواساة في معرفة أن بايدن لا يبدو مستعداً للمخاطرة بظهور مشاهد من “مطار بغداد الدولي” مشابهة لتلك التي شاهدناها في كابول. ومع ذلك، فإن أولويات الولايات المتحدة تتحول أساساً بعيداً عن الشرق الأوسط الكبير، وأن العبء يقع أولاً وقبل كل شيء على الحكومة العراقية لكي تتحمل المسؤولية وتستثمر في علاقة قوية مع الولايات المتحدة. إن مكافحة الإرهاب وحدها لن تكفي للحفاظ على العلاقة. يجب أن تكون الرسائل الأمريكية واضحة: إن انتقال مهمتها من دور قتالي إلى دور استشاري لا يعني أن الولايات المتحدة تتخلى عن التزاماتها تجاه العراق أو عن حملتها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، بل أن المستشارين العسكريين البالغ عددهم 2500 مستشار سوف يرسّخون العلاقات الأمريكية – العراقية وسيشيرون إلى استمرار دعم المجتمع الدولي و “حلف شمال الأطلسي” للعراق. ومع ذلك، لا ينبغي أن يختصر هؤلاء كامل العلاقة بين البلدين.
وبعد أفغانستان، قد يشتكي القادة العراقيون من أن الولايات المتحدة أصبحت شريكاً غير موثوق فيه. ومع ذلك، فإن السعي إلى استبدالها برعاة آخرين – سواء كانت إيران أو تركيا أو دولة أخرى – لن يؤدي إلّا إلى تعميق تبعية العراق واعتماده على شركاء أقل أهلاً للثقة. وبدلاً من ذلك، يجب على العراقيين أن يوجهوا أنظارهم إلى بغداد من أجل إصلاح الحكومة. وأخيراً، فإن الإنتكاسة في أفغانستان هي تذكير بأن على واشنطن وبغداد وأربيل أن تعترف بالفساد العراقي المتفشّي كونه يشكل تحدياً حقيقياً للأمن القومي – وليس مجرد تأثير جانبي سلبي للانتقال الديمقراطي. لذلك يجب على واشنطن أن تطالب بالمساءلة عن الأموال والمعدات التي تقدمها لقوات الأمن العراقية وقوات “البشمركة” الكردية.
.
رابط المصدر:
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alraqywn-ykhshwn-yaty-dwrhm-bd-afghanstan