نـــــزار حيدر
والفشلُ المقصودُ هنا على مُستويَينِ؛
الأَوَّل؛ فشلٌ في التأسيسِ وتشييدِ وبناءِ وإِنجازِ المشاريعِ الإِستراتيجيَّة، وذلكَ للأَسبابِ التَّاليةِ؛
١/ إِنَّ الدَّولةَ هي التي تُؤَسِّس لها وتتعاقبُ الحكوماتِ على بنائِها، كَونَ إِنجازها يستغرِقُ وقتاً طويلاً بخُطَطٍ خمسيَّةٍ أَو عشريَّةٍ ورُبَّما يزيدُ على ذلكَ، أَمَّا عندنا فلقد غابت الدَّولة عن ذلكَ فيما تُحاولُ كُلَّ حكومةٍ أَن تبدأَ من نقطةِ الصِّفرِ بعدَ أَن تلعنَ أُختها التي سبقتْها في السُّلطةِ، لماذا؟!
لأَنَّ كُلَّ رئيس حكُومة يُفكِّر ويُخطِّط لتسجيلِ الإِنجازِ باسمهِ وليسَ باسمِ الدَّولةِ، فالإِنجازُ عندنا ليسَ هدفاً تنمويّاً وإِنَّما دعايةً إِنتخابيَّةً! ولذلكَ لا يكتملُ عندنا مشروعٌ إِستراتيجيٌّ واحدٌ، خاصَّةً إِذا تذكَّرنا بأَنَّ عددَ الحكوماتِ التي تعاقبَت على السُّلطةِ في بغداد منذُ التَّغييرِ ولحدِّ الآن [١٠] حكومات! فكيفَ يُمكنُنا أَن نتخيَّل أَنَّها ستبني المشاريع الإِستراتيجيَّة بعقليَّة [أَنا صاحب المُنجَز أَو لا يُوجدُ مُنجَزٌ]!.
إِنَّ المشاريعَ الإِستراتيجيَّة طويلة الأَمَد لا يتمُّ التَّأسيس لها وإِنجازها بهذهِ الطَّريقة الإِستعراضيَّة البهلوانيَّة أَبداً، ففي العهد الملكي مثلاً كذلكَ كانت البلاد تشهد تغييرات مُستمرَّة في الحكومات التي تعاقبت على السُّلطة في بغداد [(٥٨) حكومة في (٣٧) عام هو عمُر العَهد الملكي] فلو كانت البِلاد مُعتمِدةً على الحكومات للتَّأسيس للمشاريعِ الإِستراتيجيَّة لما تمَّ بناءَ مشرُوعٍ واحدٍ ولظلَّ العراق خرِبةً تنعقُ فيها الغِربان!.
ولقد تجاوزَ البلدُ هذهِ المُعضلة بتأسيسِ [مجلس الإِعمار] الذي كانَ يشرف على التَّأسيس والتَّخطيط للمشاريعِ الإِستراتيجيَّة فيما كانت الحكُومات المُتعاقبة وبالتَّعاون معَ مؤَسَّسات الدَّولة الأُخرى تُنفِّذ المشاريع، فكلُّ حكومةٍ تضعُ لبِنَةً وتمشي، أَمَّا الدَّولة فباقِيةٌ ومُستمرَّةٌ.
ولقد كانَ التَّلاميذُ في المدارسِ يدرسُونَ في مادَّة الجُغرافيا فصلاً بعنوانِ [مجلسُ الإِعمار؛ المشاريعُ المُنجزة والمشاريعُ قيدَ الإِنجاز] للحثِّ والرَّقابة الشعبيَّة في آنٍ، عندما يشعرُ المجلس بأَنَّ الشَّعب يُراقبُ ما يُعلنُ عنهُ من مشاريعَ حتَّى لا تكونَ مجرَّد مشاريعَ وهميَّةً يتمُّ التَّخطيط لها على الورقِ فقط من دونِ إِنجازٍ على الأَرضِ.
لقد أَعلنَ رُؤَساء الحكومات المُتعاقِبة منذُ التَّغيير ولحدِّ الآن عن عشراتِ المشاريع والعقُود ومُذكَّرات التَّفاهم مع شركتَي [GE] الأَميركيَّة و [Siemens] الأَلمانيَّة والخاصَّة بملفِّ الكهرباء وبالأَرقامِ التَّالية؛
– عام ٢٠٠٨ وقَّعَ المالكي أَوَّل عقد مَعَ الشَّركة الأَلمانيَّة بقيمةِ مليار و [٩٠٩] مليون دولار لإِنتاجِ [٣١٩٠] ميغاواط خلالَ عامٍ واحدٍ.
– عام ٢٠١٨ وقَّعَ العبادي عقداً معَ نفس الشَّركة بقيمةِ [١٦] مليار دولار لتجهيزِ العراق بالكهرباءِ على مدارِ السَّاعةِ.
– عام ٢٠١٩ وقَّعَ عبد المهدي عقداً معَ ذات الشَّركة الأَلمانيَّة بقيمةِ [١٨] مليار دولار لإِنتاجِ [١١] أَلف ميغاواط من الكهرباء.
– عام ٢٠٢١ جدَّدَ الكاظمي العقدَ أَعلاه مع نفسِ الشَّركة، طبعاً من دونِ إِنجازٍ يُذكر.
– عام ٢٠٢٣ جدَّدَ السُّوداني نفس العقدِ أَعلاه ومعَ ذاتِ الشَّركة الأَلمانيَّة بقيمةِ [١٠] مليار دولار لإِنتاجِ [٦] آلاف ميغاواط من الكهرباء.
إِنَّ مجموع قيمةِ العُقودِ تلكَ مع [Siemens] فقط قُرابة [٤٧] مليار دولار! ثُمَّ يُشيعونَ لتضليلِ المُغفَّلين بأَنَّ واشُنطن ترفض أَن تُوقِّع بغداد أَيَّ عقدٍ معَ غَير شركة [GE] الأَميركيَّة!.
الجدير بالذِّكر أَنَّ قيمة العقود معَ الشَّركة الأَميركيَّة تجاوزَت الـ [٥٠] مليار دولار!.
إِلى جانبِ كُلِّ هذهِ العقُودِ تحدَّثُوا عن الرَّبطِ الكهربائي مع دُول الجِوار بالإِتِّجاهات الأَربعة، ناهيكَ عن مليارات الدُّولارات التي يُنفقها العراق سنويّاً لشراءِ الغازِ الإِيراني لتشغيلِ محطَّاتهِ الكهربائيَّة [(٦) مليار دولار سنويّاً].
كُلُّ هذا ومازالت النَّتيجة هيَ هيَ لم تتغيَّر، سوء الكهرباء التي تتعرَّض للقطعِ المُبرمج وعَودة وزارة الكهرباء للإِعتمادِ على المُولِّدات الأَهليَّة، وللإِسراعِ في ذلكَ بدأَت وزارة النَّفط تُسلِّم حتَّى أَصحاب المُولِّدات غَير المُرخَّصة، مادَّة الكازُوئيل لدمجهِم في منظومةِ المُولِّداتِ الأَهليَّة المُرخَّصة فقد تتمكَّن وزارة الكهرباء من تَغطيةِ النَّقص الحاصل بالطَّاقةِ الكهربائيَّة ونحنُ مُقبِلُونَ على فصلِ الصَّيفِ!.
الملفًّ الآخر هو ملفِّ الغاز الذي مازالَ العراق يعتمدُ على الإِيراني المُستورَد لتوليدِ الكهرباء [تمَّ تمديد الإِتِّفاق الثُّنائي بين بغدادَ وطهران مدَّة (٥) سنوات جديدة] على الرَّغمِ من كُلِّ الخطاباتِ والبياناتِ التي سمِعنا بها وقرأنا عنها والتي أَدلى بها رؤَساء الحكُومات والوُزراء المعنيِّين وما تمَّ التَّوقيعُ عليهِ مع هذهِ الدَّولة أَو تلكَ الشَّركة للإِستفادةِ من الغازِ العراقي المحرُوق! [يخسر العراق مَورِداً مُهِمّاً للطَّاقةِ يقدَّر بنحوِ (١٥٠٠) مليون متر مُكعَّب قياسي يَوميّاً] [ويخسر العراق (١٤) مليار دُولار سنويّاً بسببِ حرقِ الغازِ واستيرادهِ]! بالاضافةِ إِلى ما تُسبِّبهُ عمليَّات حرقِ الغاز من إِنتشار الأَمراض الخطيرة على الأَهالي [إِرتفعت نسبة أَمراض السَّرطان في البصرةِ فقط إِلى أَكثر من (٢٠٪) لهذا السَّبب] [وبالمُناسبة فلقد تجاوزَ حجم الغاز المحرُوق إِلى أَكثر من (٢٠) مليار متر مُكعَّب حسب البنك الدَّولي].
وكذا الحال في ملفَّاتِ المدارس والسَّكن والصحَّة وغيرِها!.
٢/ والمشاريع الإِستراتيجيَّة بحاجةٍ إِلى بيئةٍ آمنةٍ مُستدامة ومُستقرَّة وبعيدة المدى، لأَنَّها عادةً تأخذ وقتاً طويلاً [(٥) سنوات فما فَوق] ولذلكَ فإِنَّ الإِستقرار النِّسبي لا ينفع في إِنجازِها كما أَنَّ البيئة القلِقة المُعرَّضة للإِهتزاز الأَمني لأَيِّ سببٍ كانَ لا يُساهِمُ في الإِنجازِ أَبداً.
والمقصودُ بالبيئةِ الآمنةِ على [٣] مُستويات؛
أ/ أَمنيّاً، فالبيئةُ التي يتحكَّم فيها السِّلاح خارج سُلطة الدَّولة أَو سلاح العشائر أَو الصِّراعات الحزبيَّة والفِئويَّة لا تساعدُ على إِنجازِ المشاريعِ الإِستراتيجيَّة.
ب/ تشريعيّاً، فالبيئةُ التي تصدُر فيها التَّشريعات والقرارات والإِجراءات والتَّعليماتِ الحكوميَّة على هوى المسؤُولِ ومِزاجهِ وحالتهِ النفسيَّة وعلاقاتهِ الإِجتماعيَّة وإِملاءاتِ قُوى خارجيَّةٍ لا تُساهمُ في صناعةِ بيئةٍ آمنةٍ تشريعيّاً تُساعِدُ في تنفيذِ المشاريعِ الإِستراتيجيَّة.
ج/ والأَخطر من كُلِّ ذلكَ على المشاريعِ الإِستراتيجيَّة هو الفسادُ المالي والإِداري، فهو أُسُّ بقيَّة المشاكِل خاصَّةً وأَنَّهُ في العراق إِنتشرَ في جسدِ الدَّولة كالسَّرطانِ يأكلُ بخلاياها بهدوءٍ ولكن بطريقةٍ تدميريَّةٍ!.
٣/ والمشاريعُ الإِستراتيجيَّة بحاجةٍ إِلى قرارٍ سياسيٍّ أَوَّلاً وقبلَ كُلِّ شيءٍ آخر، وطنيٌّ ومعَ الشُّركاء المُحتمَلين الإِقليميِّين مِنهم والدَّوليِّين، حكومات أَو شرِكات لا فَرق.
للأَسف الشَّديد فإِنَّ هذا العامِل المُهم غائبٌ في العراق بسببِ الصِّراعات السياسيَّة بين الفُرقاء السياسيِّينَ الذينَ يشتركُونَ في إِدارةِ الدَّولةِ من جهةٍ وبينَ المركز والإِقليم من جهةٍ ثانيةٍ.
هذهِ الصِّراعات المُمتدَّة [ذهاباً وإِياباً كالنَّسغِ الصَّاعدِ والنَّازلِ في الشَّجرةِ] مِن وإِلى دُول الجِوار والدُّول الإِقليميَّة والمُجتمعِ الدَّولي هي أَحد أَهم الأَسباب التي ضيَّعت فُرص التَّأسيسِ للمشاريعِ الإِستراتيجيَّة.
كما أَنَّ استمرارَ البلادِ مُدَّةً طويلةً كساحةٍ مفتوحةٍ للصِّراعاتِ وتصفيةِ الحساباتِ الإِقليميَّة الإِقليميَّة والإِقليميَّة الدوليَّة حالَ دونَ اتِّخاذِ الدَّولة للقراراتِ السياسيَّةِ المطلُوبةِ لاختيارِ وبالتَّالي لرسمِ المشاريعِ الإِستراتيجيَّةِ المطلوبةِ فضلاً عن عجزِها لاتِّخاذِ القراراتِ السياسيَّةِ المطلُوبةِ معَ أَيِّ شريكٍ مُحتملٍ.
٤/ والمشاريعُ الإِستراتيجيَّة لا يُمكنُ التَّفكيرِ بها قبلَ أَن تُحدِّد الدَّولة طبيعةَ اقتصادِها الوطني وهويَّتهِ، فاذا كانَ اقتصاداً مجهُول الهويَّة مُتقلِّباً لا يمتلِكُ فلسفةً واضحةً أَو إِذا كانَ رَيعيّاً [إِستهلاكيّاً] وأُحادي مصدرِ الدَّخلِ القَومي ولا يعتمدُ إِقتصادَ السُّوق ويتعارض معَ شرُوط وفُرص الإِقتصاد التَّشارُكي [أَي يدعَم القطَّاعَينِ الخاصِّ والعامِّ في آنٍ واحدٍ] إِذا كانَ اقتصادُ الدَّولةِ بهذهِ الملامحِ فلا يُمكنُ للدَّولةِ أَبداً أَن تفكِّرَ بالتَّخطيطِ للمشاريعِ الإِستراتيجيَّةِ فضلاً عن تنفيذِها.
أَمَّا الفشلُ الثَّاني فهو على مُستوى ريعيَّةِ الدَّولةِ، إِذ كانَ من المُمكنِ أَن يكونَ العراق بثَرواتهِ الطبيعيَّةِ العظيمةِ والمُتنوِّعةِ وبإِمكانيَّاتهِ البشريَّة الضَّخمة أَن يكونَ من الدُّولِ المانِحةِ والمُستثمِرةِ يمتلكُ صندُوقاً سياديّاً يستثمرُ بهِ في الدُّول الأُخرى، الإِقليميَّةِ وغيرِها، وفي الشَّركاتِ والمُؤَسَّساتِ العالميَّةِ حالهُ حال المملَكة العربيَّةِ السعوديَّةِ وقطر ودَولة الإِمارات العربيَّةِ المُتَّحدةِ، لا أَن يكونَ من الدُّول التي تبحث عن إِستثماراتٍ أَجنبيَّةٍ أُحاديَّة الجانب من دونِ شراكةٍ وطنيَّةٍ أَو أَن يبحثَ عن قرُوضٍ من الدُّول والمُؤَسَّساتِ الدوليَّةِ، والتي لا يحصلُ عليها إِلَّا بشرُوطِ الجهاتِ المانحةِ!.
تخيَّلُوا أَنَّ العِراق العظيم لا يقدر على بناءِ مدارِسَ أَو مُستشفيات فينتظِر مَن يتصدَّق عليهِ في ذلكَ!.
حتَّى [طريقُ التَّنميةِ] المزعُوم ينتظِر أَن يمنحهُ [البنك الدَّولي] قرضاً ليبدأَ بهِ!.
إِنَّ فشَل العراق في أَن يكونَ كذلكَ يعودُ إِلى عدَّةِ أَسبابٍ منها على سبيلِ المِثالِ لا الحصرِ؛
أ/ فشل السِّياسات النقديَّة والإِقتصاديَّة وذلكَ بسببِ انعدامِ الرُّؤيةِ الإِستراتيجيَّةِ بهذا الخصُوصِ ولذلكَ ترى أَنَّ الحكُومةَ تفشلُ في ضبطِ حركةِ الدُّولار وسعرِ صرفِ العُملةِ الوطنيَّةِ على الرَّغمِ من كُلِّ الإِجراءاتِ التي اتَّخذتَها خلالَ الأَشهرِ الثَّمانيةِ الماضِيةِ.
كما أَنَّ فوضى المُوازنة التي أَقرَّها مجلس النوَّاب الأُسبوع الفائِت والتي تمثَّلت [الفوضى] في ريعيَّتها المُفرطة [٧٥٪] وفي احتسابِ سعر برميلِ البترُول وفي العجزِ المهُول الذي وردَ فيها، وفي التَّغييرات التي أَجراها البرلمان مُتجاوِزاً صلاحيَّاتهِ الدستوريَّة إِنَّ كُلَّ ذلكَ دليلٌ واضحٌ على فشلِ السِّياساتِ الماليَّةِ والإِقتصاديَّة.
ب/ الفسادُ المالي والإِداري الذي أَهدر المال العام والميزانيَّات الإِنفجاريَّة على مدى أَكثر من عقدٍ من الزَّمن.
لقد أَهدرت واحدةٌ من السَّرقاتِ التي تمَّ الكشفُ عنها [سرِقة القِرن] ترليونات الدَّنانير من خزينةِ الدَّولة من دونِ ان يرفَّ للدَّولةِ جِفنٌ.
كما أَنَّ فوضى المُرتَّبات والإِمتيازات وبالذَّاتِ للدَّرجاتِ الخاصَّة وظاهرة الفضائيِّينَ في مُختلفِ مؤَسَّساتِ الدَّولة بالإِضافةِ إِلى ظاهرةِ الرَّواتب المُتعدِّدة للفردِ الواحدِ، إِنَّ كُلَّ ذلكَ أَهدرَ أَموالاً طائِلةً جدّاً كان بالإِمكانِ أَن تُؤَسِّس بها الدَّولة صندوقٌ سياديٌّ بمئاتِ الملياراتِ من الدُّولارات.
وإِذا أَضفنا إِلى هذا الهدرِ العظيمِ للمالِ العام ظاهرةَ غسيلِ الأَموالِ وتهريبِ العُملةِ وتمويلِ الإِرهابِ فإِنَّ المصيبةَ تتضاعفُ بشَكلٍ مُخيفٍ.
يذكرُ السيِّد رئيس مجلس الوُزراء أَنَّ العراق أَسَّس صندُوقاً سياديّاً في الأَيَّام الأُولى لحكومةِ السيِّد عبد المهدي ولكنَّهُ استعجلَ التصرُّف بهِ ولم يبلُغ المليار و [٦٠٠] مليُون دُولار فقط حتَّى جاءَ على آخرِ دُولارٍ فيهِ!.
.
رابط المصدر: