منذ بدء السجالات بشأن طرح مشروع قانون تعديل الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، بدأت شخصيات دينية وقوى إسلاموية تكشر عن أنيابها، وتنزع رداء “مبدأ التقية” لتعلن صراحة أو تلميحا، أن الحاكمية الشيعية يجب أن تتجسد في النظام السياسي العراقي، من منطلق أن من يحكم الآن هم الأغلبية الإسلامية الشيعية، بعد أن اختفى “الليبراليون” الشيعة عن الحضور السياسي. وأخذ الجدل بشأن تطبيق قانون الأحوال الشخصية الجعفرية، يعبر عن حرب فرض إرادة الإسلامويين الشيعة على الدولة والمجتمع، أكثر من كونه مشروعا يعالج مشاكل اجتماعية أو تحتاجه الدولة لترميم علاقتها مع المجتمع.
ردود فعل بعض الشخصيات التي تحسب على الأوساط الدينية الشيعية، على الرافضين لمشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية. عبرت عن الخطاب الديني الإقصائي للرأي الآخر. وكانت أغلب الردود تنطلق من منطق الثنائيات المتعارضة التي تضج بها سجالاتنا الأيديولوجية. فالمعترضون، وفق خطاب الإسلاميين، على مشروع قانون تعديل الأحوال الشخصية، بات اعتراضهم ليس على تعديل القانون وإنما على “تطبيق الشريعة الإسلامية” بصورة عامة، وعلى “الحاكمية الشيعية” بصورة خاصة.
السيد رشيد الحسيني، الذي تقدمه القنوات الفضائية العراقية بأنه من الشخصيات العلمية في الحوزة الدينية بالنجف الأشرف، اتهم المعترضين بالفسق، وهذه تهمة وفق الشريعة الإسلامية تتجاوز الاختلاف في الرأي، وكان واضحا بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، بقوله: “المشكلة أن اللادينيين صوتهم عالٍ، يعني مجموعة من الفاسدات والفاسدين، يريدون أن يقرروا لنا، نحن كمتدينين، كيف يجب أن نرتب قضايانا الشخصية وأحوالنا الشخصية… نحن نريد شرع الله، ومن لا يريد شرع الله دعه يذهب ويتمسك بالقانون المادي الوضعي”.
وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي، حديثا لرجال دين يعتلون المنبر، ويتحدثون بصراحة عن أن الحاكمية في النظام السياسي العراقي يجب أن تكون للفقيه، وهذا ما أعلنه السيد ياسين الموسوي، بقوله: إن القضاء محصور بالفقهاء فقط، وأي قاضٍ آخر هو من قضاة الجور. ويخاطب القضاة، وتحديدا القضاة الشيعة: “أنتم قضاة جور، لا يجوز الترافع إليكم. ويجب الذهاب إلى السيد السيستاني وهو الذي يحدد لكم ويعين لكم وظيفتكم، هل تتوفر فيكم شروط القاضي أم لا تتوفر؟”.
نجل السيد المدرسي، الذي يعد من أبرز رجال الدين في كربلاء، السيد مرتضى المدرسي، أعلنها صراحة أن قيادة البلاد يجب أن تكون بيد الفقهاء، لأنهم مصدر ثقة الناس وأكثر دراية بالحلال والحرام. ويقول: “يجب أن تعود الأمور إلى يد الفقهاء في هذه البلاد… يجب أن يكون بيد الفقهاء، وهم الأمناء على الحلال والحرام، وهم من يثق بهم الناس… نحن نريد هذا القرآن أن يحكم في بلدنا”.
تشكل كل هذه التصريحات والخطابات، وحتى المواقف السياسية التي تتوجه نحو أسلمة الدولة وفرض الحاكمية الشيعية باعتبار أنهم أغلبية، والديمقراطية تعني حكم الأغلبية، انقلابا على المواقف والمباني الفقهية السياسية للمرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني.
تشكل هذه التصريحات والخطابات، انقلابا على المواقف والمباني الفقهية السياسية للمرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني
يمثل السيد السيستاني امتدادا لخط مرجعية النجف الذي يؤكد مبدأ الولاية الخاصة للفقهاء ويرفض تبني (ولاية الفقيه العامة)، ويؤكد تمسكه بإرث المدرسة الفقهية النجفية التي رسخت مبادئ وأسس ولاية الأمة في إدارة الشأن العام، وكان الشيخ المحقق محمد حسين النائيني (توفي سنة 1936) صاحب كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، أول من تبنى هذه الدعوة، والتي كانت تشكل بدايةً لتجاوز أطر الفكر الديني بالنظر إلى الجمهور، وتأسيس الدعوة إلى شرعية السلطة السياسية المنتخبة من قبل الأمة. ولذلك ثبت السيد السيستاني هذا المبدأ بقوله: “إن الحكومة إنما تستمد شرعيتَها مِن الشعب، وليس هناك مَن يمنحها الشرعية غيره”.
تجاوز المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني المفهوم الديني التقليدي للجمهور، من خلال تأكيده على مفهوم (الشعب) باعتباره ذا دلالة قانونية محددة، وأكثر دقة وأوضح من مفهوم الأمة، إذ عمل منذ 2003 من خلال الخطب والبيانات وردوده على مقلديه، حول تجاوز جميع المفاهيم السياسية التقليدية التي تتحكم في منظومة الفقه السياسي الشيعي. ومن خلال مواقفه وفتاواه إزاء الأحداث والمستجدات في الشأن السياسي العراقي، ثبَّت السيد السيستاني مبدأ عاما لحوزة النجف الأشرف يقوم على أساس التعاطي مع القضايا المتعلقة بإدارة شؤون المجتمع بعيدا عن مبدأ الولاية الفقهية للمرجع الأعلى، واعتبارها أمورا من اختصاصات الدولة، مسؤولة عن إدارة الشأن العام، ويجب أن يحظى النظام السياسي بالرضا والقبول الشعبي، ويستمد نظام الحكم شرعيتَه من تمثيله لِلمجتمع وليس تطابقه مع أيديولوجيا دينية. ولذلك دائما ما تتكرر في خطابات السيد السيستاني، في كتاب “النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية”، والذي عمل على إعداده حامد الخفاف، تتردد عبارات: “الشعب هو مصدر السلطات”، و”الانتخابات العامة التي تعبّر عن إرادة الشعب”، و”الدستور الذي يصوت عليه الشعب”.
اف ب
رئيس مجلس النواب العراقي بالانابة محسن المندلاوي اثناء جلسة برلمانية في 18 مايو
المبدأ العام الذي سعى السيستاني إلى ترسيخه يقوم على أساس أن الشعب مصدر السلطات، ومنه تستمد شرعيتها. متجاوزا البقاء ضمن الخطاب الفقهي الذي يتمحور حول الواجبات والتكاليف، على حساب الحقوق، والتي تمثل المرتكز الأساسي في توثيق العلاقة بين الشعب والدولة. ومن هنا نجد أن السيد السيستاني لا يؤسس لنظرية سياسية من خلال الاستدلال الفقهي، لكنه يرسخ من خلال البيانات التي يصدرها عبر مواقف تتجاوز نمط التفكير الفقهي التقليدي في التعاطي مع الشأن السياسي. ولكنه في المقابل يشرع لتأصيل فقه سياسي يتلاءم مع منطق الدولة المعاصر، باعتبارها مخلوقا أرضيا تابعا للمجتمع، وليس مستقلا عنه أو سيدا فوقه، وتتم إدارة الشأن العام فيها على أساس الرضا والقبول الشعبي، ويستمد الحكم فيها شرعيته من تمثيله للمجتمع وليس لأيديولوجيا معينة.
ثبَّت السيد السيستاني مبدأ عاما لحوزة النجف الأشرف يقوم على أساس التعاطي مع القضايا المتعلقة بإدارة شؤون المجتمع بعيدا عن مبدأ الولاية الفقهية للمرجع الأعلى
ويؤسس السيد السيستاني لتوجه تجديدي في الفكر السياسي الشيعي. وهذا التوجه ليس على مستوى المباني والأصول، وإنما من خلال التأكيد على أن القضايا والمستجدات في المواضيع المتعلقة بإدارة شؤون المجتمع لا يتم التعامل معها على أساس أنها (مورد ابتلاء) كما يقول الفقهاء، بل إنها تحتاج إلى التعاطي معها بعيدا عن منطق الولاية الفقهية. لذلك فإن مواقف السيستاني يمكن أن تشكل فرصةً للتأمل، وإنتاج نظرية للحكم قادرة على كسر (الدورة الكاملة) للفقه السياسي الشيعي التي “بدأت الدورة عند نقطة تحريم الدولة وانتهت عند النقطة نفسها، ولكن من منطلقين مختلفين، الأول: تحريم دولة غير الإمام المعصوم، والثاني: تحريم دولة غير الفقيه الجامع للشرائط”.
كل هذه المواقف التي رسخها السيد السيستاني على مدى عشرين عاما منذ تغيير نظام الحكم في العراق، يبدو أن هنالك تحالفا يسعى للانقلاب عليها، وأطراف هذا التحالف بين قوى السلطة الإسلاموية الشيعية ومن يريد أن يفرض هيمنة الفقهاء بعنوان حاكمية الأغلبية الشيعية. إذ يبدو أن من يؤمن بمبدأ ولاية الفقيه المطلقة، يريد أن يرسخها باعتبارها تمثل الارتباط الأيديولوجي الذي يؤمن به، ومن ثم يمكن فرضها باعتبارها نموذج الحكم الوحيد الذي أنتجه الفقه السياسي الشيعي، ولا يمكن تجاوزه.
وإذا كانوا قد فشلوا في ترسيخه دستوريا، لأن تغيير النظام تم بجهود القوات الأميركية، ونفوذ دعاة ولاية الفقيه المطبقة تخلوا عنها بعد مشاركتهم في الحكم، ومن يرتبط سياسيا وعقائديا بنظام ولاية الفقيه في إيران لم يكن بالنفوذ السياسي الذي يتمتع به الآن.
أ ف ب
المرجع الشيعي السيد علي السيستاني في النجف في صورة تعود الى 6 مارس 2021
الصراع الآن بين قوى إسلاموية شيعية تريد أن ترسخ الحاكمية السياسية الشيعية على الدولة والمجتمع في العراق، وتسعى إلى أن تكون هذه الحاكمية خاضعة لفقهاء أحزاب القوى السلطوية الشيعية وليس للمرجع الديني الأعلى السيد السيستاني، الذي أغلق أبواب مكتبه في وجوه زعاماتهم السياسية.
والسجالات القادمة لن تنحصر بين قوى ترفع شعار الدولة المدنية، وتريد حاكمية الديمقراطية. ولكن ستكون بين من يريد الانحراف عن خط مدرسة النجف الأشرف التي رسخت مبدأ ولاية الأمة وحاكمية الشعب الذي طرحه الشيخ النائيني واستمر عليه السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي ورسخه السيد السيستاني في مواقفه السياسية من الدولة والحكم بعد 2003. وفي المقابل سيكون بمواجهة الاتجاه الفقهي-السياسي، مدرسة ولاية الفقيه المطلقة التي رسخ الخميني مبادئها كنظرية للحكم، وطبقها في نظام حكم إيران بعد نجاح ثورة عام 1979.
صحيح أن كل ما تمرره القوى السلطوية الشيعية تحت عنوان حكم الأغلبية، لا يتعارض مع مبدأ حكم الأغلبية في النظام الديمقراطي. لكن استغلال تلك الأغلبية لفرض حاكمية شيعية على الدولة وإثبات أنهم أغلبية، لا علاقة له بالديمقراطية من قريب أو بعيد، وإنما هو تفكير مأزوم بالدولة ينطلق من البقاء ضمن دائرة التفكير بالمظلومية أكثر من كونه يعبر عن واقع سياسي تقود فيه الأغلبية السياسية الدولة وتريد النهوض بالمجتمع وتجاوز عُقد الماضي.
المصدر : https://www.majalla.com/node/322170/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%AD%D8%A7%D9%83%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%87%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A